عندما أطلق السياسي البريطاني إدموند بروك تسمية «السلطة الرابعة» على الصحافة – المكتوبة حينها – في نقاش برلماني في مجلس العموم البريطاني عام 1787، إنما كان يصف حاجة الأمة إلى مركز رابع يوازن سلطاتها التشريعية والتنفيذية والقضائية كما يراقب أداءها ويحرص على كشف إساءة أي منها إستخدام السلطات التي تتولاها. بروك حينها كان يشجع الصحافة الناشئة على أن تتعملق للعب هذا الدور الأخطر في حماية العمليّة الديمقراطيّة للمجتمعات المعاصرة.
لكن الصحافة لم تملأ الفراغ الذي رآه بروك تماماً. هي نجحت في مراحل وأخفقت في أخرى، دعمت أنظمة فاسدة عدة وكانت بمثابة منشور أيديولوجي في كثير من الدول، وهي ذاتها أسقطت نيكسون، رئيس الدولة العظمى، وكشفت فساد المافيا الإيطالية، وأجبرت حكومات عدّة على تعديل سياساتها. لكنها انتهت في نهاية القرن العشرين – بسبب تغوّل الطبقات المهيمنة – إلى أن تكون مجرد بوق من أبواق المنظومة الرأسمالية، تكتفي بترديد المزحات الأيديولوجية السمجة، فإنصرف الناس عن أغلبها إلى وسائل الإعلام البديلة التي جعلتها الإنترنت ممكنة.
إستقالة الصحافة من مهمتها كسلطة رابعة، لم تلغ بالضرورة حاجة النظام الديمقراطي الماسّة لسلطة رابعة بديلة تراقب، وتشهر بالفساد، وتدين سوء إستخدام السلطة، و تكشف تآمر السلطات معاً ضد الشعوب.
العالم الدّيمقراطي كان بحاجة إلى بديل للصحافة المستقيلة. جاء الجواب هذه المرّة ليس من مجلس العموم البريطاني، بل من طرف الكرة الأرضيّة الآخر: كوريّا الجنوبيّة.
«أمّة الجواسيس» الفيلم الوثائقي الذي قدمه المحقق الإستقصائي تشوي سينغ – هو (34 عاما) – الذي يعمل في موقع إخباري على الإنترنت بعد عمله السابق منتجا تلفزيونيا – ربما يكون الدرجة الأولى في سلّم صعود الفيلم الوثائقي لملء فراغ السلطة الرابعة في أزمنة ما بعد الحداثة، وسيمثّل نموذجاً يحتذى لكل من يحمل كاميرا، قلم العصر الجديد.
الفيلم يكشف أنه خلال ستة عقود تم إعتقال عشرات الكوريين من قبل السلطات الكوريّة الجنوبيّة بتهمة التجسس لكوريا الشماليّة، ليتم تبرأتهم في وقت لاحق بعد أن قضّوا سنوات طويلة في الإحتجاز، وضربوا بقسوة وعُذّبوا لإنتزاع إعترافات منهم. ورغم أنه لا يوجد عدد رسمي لدى السلطات عن هؤلاء المساكين إلا أن فيلم «أمة الجواسيس» يسجل حوالي 100 حالة منها في 100 دقيقة.
معظم هذه الحالات إختفت من حيّز النقاش العام وكادت أن تنسى، لولا هذا الفيلم الوثائقي الجريء الذي كشف الستار عن مرحلة شديدة السواد من التاريخ الكوري المعاصر، وعن إساءة إستخدام السلطة من قبل أجهزة الإستخبارات ومكافحة التجسس الكوريّة الجنوبيّة. وقد فاز الفيلم بجائزة الفيلم الوثائقي الأهم في مهرجان جيونجو للأفلام في كوريا الجنوبية مايو/أيار الماضي.
خلال «أمة الجواسيس» يستنكر سينغ-هو إعتبار عمليات «تصنيع الجواسيس» هذه مجرّد ذاكرة بعيدة ينبغي دفعها لغياهب النسيان في دولة ما يزال الهم الأمني على رأس أولوياتها، وما زالت فرص إساءة إستخدام السلطة من قبل الأجهزة الأمنية قائمة كما كانت دائماً. هو يقول «أردت أن أواجه الإستخبارات الكوريّة الجنوبيّة وأسألها مباشرة: ماذا فعلتم بنا؟» ويضيف «بدون هذا الفيلم، كان يمكن لهؤلاء أن ينفذوا من جرائمهم بسهولة».
أمة الجواسيس سوف يعرض في دور السينما المحليّة في كوريا الجنوبيّة اعتباراً من الشهر المقبل، ولا شك أنه سيحوّل المسألة برمتها إلى قضية رأي عام واسع، وستكون لها تداعياتها السياسية، التي نأمل أن تمتد لتصل إلينا.
تآمر المخابرات مع القضاء لقتل الناس
أثار العمل حتى قبل عرضه على العموم موجة سخط عام على الموظفين السابقين في أجهزة الإستخبارات وأيضا على المدعين العامين الذين تآمروا معهم على إدانة الضحايا. وقد أُبلغ عن تقريع تعرض له بعضهم في الأماكن العامة والمطارات، مما أضطرهم إلى التواري عن الأنظار.
كانت أجهزة مكافحة التجسس الكوريّة الجنوبيّة قد أسست في بداية الستينيات برعاية أمريكية، وذلك كجزء من المجهود الحربي ضد كوريا الشماليّة، لكنها وتحت ضغوط الحكومات الديكتاتوريّة المتتالية التي حكمت البلاد بدأت في ما يبدو في تلفيق قصص جاسوسية وهميّة لصرف الإنتباه عن الأزمات الداخليّة. وقد أعيدت محاكمات كثيرة لبعض من هؤلاء الضحايا، ليتبين أنها بنيت على أدلة ملفقة، واعترافات أنتزعت تحت التعذيب الشديد.
يروي الفيلم مثلا قصّة السيد «يو» أحد هؤلاء الضحايا. كان يو قد فرّ من كوريا الشمالية، وطلب قبوله في المجتمع الكوري الجنوبي. وبعد التحقيقات المطولة – التي عادة لا تقل عن ستة أشهر – تم إستيعابه، وعيّن في وظيفة خدمات إجتماعيّة في بلديّة العاصمة. لم تبدر عن الرجل أية بادرة سوء بل على العكس تماماً، كان موظفاً مثالياً ومواطناً مسالماً، لكنه في أحد الأيام وبينما هو على رأس عمله حضر رجال الإستخبارات واعتقلوه أمام الناس، ثم حوكم وأدين بتهمة العمالة لكوريا الشماليّة بناء على إعتراف شقيقته، ليتبين وفق الفيلم أن شقيقته اعترفت بكل شيء طلب منها تحت التعذيب والحجز الإنفرادي لـ 179 يوماً في زنزانة حقيرة وأن كل الأمر يتعلق بقرار من الاستخبارات الكوريّة بخلق قصص نجاح مبهرة في القبض على جواسيس كوريين شماليين، وذلك للتغطية على إخفاق الأجهزة في ما عرف بفضيحة التجسس على المعارضة عام 2012. بل وعرضت أثناء المحاكمة وقتها صور ملفقة للرجل وهو في كوريا الشمالية وحتى وثائق سفر وأختام خروج ودخول مزورة. لاحقاً حاول الرجل الذي قام بتزوير الوثائق للمخابرات في غرفة فندق في العاصمة سيول الانتحار تاركاً رسالة يقول فيها إنه زوّر الوثائق مقابل الحصول على أموال من أجهزة الإستخبارات. كما وحاول الضابط الذي قام بشراء الوثائق للاستخبارات الإنتحار أيضاً.
الفيلم دون شك سيراكم الضغوط على الرئاسة الكوريّة، وأيضاً أجهزة الإستخبارات في مجتمع ما زال جزء كبير منه يعتبر أي نقد موجه للسلطات الأمنيّة أشبه ما يكون معادلاً للعمالة إلى الأعداء الشماليين. وقد واجه السيد سينغ-هو مخرج الفيلم صعوبات جمّة في تصويره وأيضاً في عرضه من قبل نشطاء اليمين الكوري الموالين للحكومة، ولم يستطع الحصول على الموافقة لعرضه في قاعة عرض عامة إلا بعد ضغوط شعبية وبيع أكثر من 35 ألف بطاقة مسبقاً للحضور.
ثورة على عمل المخابرات
يأمل السيد سينغ-هو أن يخلق الفيلم ضغوطاً على أجهزة الإستخبارات، ويجبرها على القيام بإجراء إصلاحات جذريّة في أساليب عملها لمنع حدوث إساءة إستخدام للسلطة مستقبلاً، لا مجّرد الإعتذار عن الحالات السابقة والتي تأكد فيها فشل كل السلطات الثلاث، بل وأيضا السلطة الرابعة المزعومة (الصحافة) في أداء واجبها أمام الشعب.
فيلم «أمة الجواسيس» الآتي من الشرق الكوري البعيد، درس ثمين لأمة العرب في إمكان تأهل الفيلم الوثائقي للعب دور السلطة الرابعة. تلك السلطة الأخطر الهادفة إلى حفظ توازن المجتمع الديمقراطي، والتي فشلت الصحافة في عالمنا العربي في أدائه فشلاً ذريعاً.
في زمن استقالة الصحافة من دورها، إنه وقت صعود «الوثائقي»:
المجد للكاميرا.
«أمة الجواسيس»..كيف تستعبدنا المخابرات في زمن استقالة الصحافة من دورها..وقت صعود «الوثائقي»:المجد للكاميرا!!
بقلم : ندى حطيط ... 23.09.2016
إعلامية لبنانية ..المصدر : القدس العربي