مرعب ومشين وغير مسبوق حال المنطقة شعوباً وأنظمة. لم يمر على العالم العربي بؤس وهوان ورعب وضياع وتيه كما يمر عليها اليوم، فبعد أن تغولت إسرائيل عسكرياً في غزة ولبنان وسوريا وربما تتغول أكثر في بلدان أخرى قريباً، بات الهلع يخيّم على معظم الدول العربية. الجميع خائف ومرعوب. ومما يزيد الطين بلة أن أمريكا ستستقبل قريباً رئيساً جديداً يصعب التنبؤ بخطواته وحركاته، لهذا الكل يبدو وكأنه ينتظر دوره كما لو كان مجرد قطيع من الخراف على باب المسلخ، بلا حول ولا قوة.
«هل يأتينا الدور؟» سؤال تكاد تسمع صداه شعبياً ورسمياً في العديد من البلدان اليوم؟ الأنظمة قلقة جداً على مستقبلها، ليس لأنها ضعيفة ومهزوزة فحسب، بل لأنها تعلم أنها لا تملك قرارها منذ أن استلمت السلطة، وأن كل مقاليد أمورها بأيدي كفلائها الكبار في الخارج. وإذا كانت تركيا الدولة الإقليمية القوية والعضو في حلف الناتو وصاحبة واحد من أكبر جيوش العالم تخشى على مستقبلها من التغول الإسرائيلي في المنطقة، وتحاول التقرب من النظام السوري لحماية نفسها من القادم، وإذا كانت إيران على كف عفريت، وباتت تتوسل «الشيطان الأكبر» أن يحبها كما تحبه ويبادلها الغرام، فكيف يكون وضع الدول العربية التي لا تمتلك ربع ما تمتلكه تركيا وإيران من مقومات القوة؟ لقد قالها نتنياهو بالفم الملآن إن حربه في غزة ستذهب بعيداً جداً، بحيث ستغير وجه الشرق الأوسط، وهذا يعني أن الجميع في المنطقة بالنسبة لرئيس الوزراء الإسرائيلي وحلفائه الأمريكيين مجرد أحجار شطرنج كما كان الحال منذ عقود وعقود، أو قطع أثاث حان وقت تغييرها وفي أحسن الأحول إعادة تنجيدها.
أما بالنسبة للشعوب، فهي في أرذل حالاتها النفسية، وباتت تنتظر الفرج حتى من الشياطين الزرق، لهذا تسمع اليوم كثيرين من الناس العاديين في بلدان عدة وهم يرددون بشيء من التفاؤل: متى سيأتي دورنا نحن بعد غزة ولبنان؟ لقد وصل الحال ببعض الشعوب أنها باتت تتمنى غزواً خارجياً على أمل أن يخلصها من طغاتها المحليين أو أن يعيد بناء بلدانها، لأنها لم تعد تملك ما تخسره. اسأل اليوم العديد من الشعوب، فستتفاجأ أنها تتمنى الخلاص ولو على أيدي أعدائها، لهذا نستطيع القول إن الشعوب والأنظمة اليوم معلقة في الهواء، وتنتظر القادم بكثير من الترقب والحذر.
لم يعد أحد يتحدث اليوم عن الموضوع العربي الأثير، ألا وهي نظرية المؤامرة، فقد اعتاد الكثير ممن يسمون بالعرب أن يرددوا أنهم مستهدفون وأن العالم يتآمر عليهم ليل نهار، لكنهم اليوم باتوا أقرب إلى الواقعية وأصبحوا متأكدين أن ليس لديهم ما يجعل أحداً يفكر بالتآمر عليهم بعد أن باتوا يواجهون المجهول وبعد أن عرفوا قدر نفسهم جيداً.
أين هي تلك الجيوش المهنية الاحترافية القوية الجرارة المجهزة بأحدث التكنولوجيا والقادرة على إلحاق الهزيمة حتى بدولة عالمثالثية إفريقية فما بالك بمواجهة قوى عظمى بعدما تحولت هذه الجيوش لـ«كروش» للسرقات؟
إن حالهم المزري اليوم بات يدفعهم إلى التساؤل المؤلم: ما هي عوامل القوة وممكنات التهديد التي نمتلكها نحن العرب المفككون الضعفاء الهزيلون المهرجون المهزومون المتناحرون كي تتآمر علينا القوى الأخرى وتكيد لنا كيداً؟ بماذا يتميز ويتفوق العرب وفي أي مجال هم فالحون؟ أين هي الدولة العربية القوية فعلاً؟ ما هي الأسلحة الاستراتيجية والنوعية التي تهدّد دول الغرب كي يتآمر عليهم؟ بل أين هي تلك الجيوش المهنية الاحترافية القوية الجرارة المجهزة بأحدث التكنولوجيا والقادرة على إلحاق الهزيمة حتى بدولة عالمثالثية إفريقية فما بالك بمواجهة قوى عظمى بعدما تحولت هذه الجيوش لـ«كروش» للسرقات والنهب واستغلال السلطة وباتت مجرد عصابات مرتزقة وميليشيات خطف واعتقال المواطنين ولحماية الطغاة وعروشهم والتغطية على سرقاتهم ومطاردة شرفاء تلك البلاد التي ترتفع فيها أصوات الفقراء المسروقين المنتوفين الجياع؟
أين هي تلك النظم البارزة والنمور الاقتصادية الواعدة والأوطان القوية الواحدة الموحدة المتحدة التي تستطيع الصمود يوماً واحداً في وجه غارة عابرة أو خوض معركة وحرب طويلة المدى بعد أن تفككت معظم هذه الدول المسماة بالعربية وهزلت وانهارت مؤسساتها وتآكلت بفعل الفساد والنهب والصراعات المحلية والحروب الأهلية والنزاعات ويتناهشها الاقتتال الداخلي بين الطوائف والمذاهب والعائلات والأحزاب والميليشيات والجماعات وباتت القبلية والعشائرية والعائلية والقبضة الفولاذية تحكمها وتتحكم فيها من الباب للمحراب؟ أين هي الصناعات النوعية كمصانع الطائرات والمنشآت النووية ومحطات مراكز غزو الفضاء والأساطيل وحاملات الطائرات ومراكز الأبحاث الاستراتيجية والجامعات والأكاديميات التخصصية الرائدة على مستوى العالم والمشاريع الكبيرة والعملاقة ومراكز الأبحاث والجامعات والمختبرات التي تقدم يومياً أعظم المبتكرات والإنجازات العلمية التي ترعب الغرب ويخافها وترتعد فرائصه ولا ينام الليالي الطوال وهو يهرش رأسه في كيفية مواجهتها ومنافستها والتصدي لها؟
ماذا لديكم غير الفقر والبعوض وأكوام الزبالة والحفر بالشوارع وجحافل المتسولين والجهلة وطوابير الجياع والتخلف والقرى العطشى والسل والطاعون والكوليرا والسرطان والمدن المهجورة والمظلمة والمدمرة وقوارب اللاجئين الهاربين من جور الطغاة والجوع والظلم والقهر والعذاب والعسس ومافيات النهب واللصوص وفروع المخابرات وهؤلاء أقوى ذراع للإمبريالية والصهيونية والاستعمار التي تزعمون القضاء عليها ومحاربتها؟ فممّ سيخاف؟ ولماذا سيرتعب الغرب منكم ويتآمر عليكم وأنت «شوية» كيانات كرتونية وبلاستيكية هزيلة واهية مضحكة لا تخيف حتى الصراصير والبرغش والفئران؟
جميل أن تذهب السكرة وتأتي الفكرة. جميل أن تعترفوا بالواقع المر وأنكم صرتم تتمنون أن تكونوا اليوم في محل مجرور بدل المفعول به. لكن هل ستتعظون؟ لا أعتقد، فطالما أنكم ستظلون تنشدون الخلاص الفردي، فاعلموا أن مصيركم لن يكون مطلقاً أفضل من مصير الثور الأبيض.
هل مرَّ هذا الوضع على العرب من قبل؟!
بقلم : د. فيصل القاسم ... 16.11.2024