هزم دونالد ترامب كل التلفزيونات والصحف ومراكز البحث التي تنبأت بانتخابات رئاسيّة صعبة متقاربة النتائج، وحقق انتصاراً حاسماً بولاية ثانية كرئيس للولايات المتحدة. وإذا كان من المبكّر تصوّر شكل إدارته ومعالم سياسته الخارجيّة، فإننا نعلم على الأقل أن رأس هذا النظام الجديد سيكون ذات الرجل البرتقالي الذي صعقنا بفوزه المفاجئ أيضاً في 2016.
العودة المظفرّة: إنه الاقتصاد والإبادة
طوال عام كامل من الحملات الانتخابية تكرّس انقسام المجتمع الأمريكي إلى ثلاثة معسكرات متساوية الحجم تقريباً: معسكر ترامب (الجمهوريّ) المحافظ الانعزاليّ، ومعسكر الديمقراطيين، ومعسكر ثالث يمثل حوالي 40 في المئة من المواطنين الأمريكيين ممن فقدوا الاهتمام بالسياسة أو اعتقدوا بعبثية تغيير تكوين السلطة التي تأتي من الأثرياء وإليهم، أو لم يجدوا فرقاً حقيقياً بين طروحات المرشحين الرئيسيين، أو آلمهم انخراط حكومتهم الفاعل في مشروع الإبادة الذي ينفذه الإسرائيليون في غزّة.
وبينما خسرت هاريس تأييد فئات طالما صوتت للديمقراطيين مثل العرب والمسلمين والشبان السود، فإن ترامب لعب على المخاوف المضخمة من المهاجرين، وتلمس أن ما يقلق الأمريكي العادي – كما وفق الجملة التي اشتهرت في عهد الرئيس بيل كلينتون (إنه الاقتصاد، يا غبي!) – هو بشكل أساسي التضخم الذي ابتلع القيمة الحقيقيّة للأجور للغالبية العظمى من المواطنين لا سيّما في الأرياف خارج المناطق الحضرية الكبرى، فاستعاد منهجه القائم على الانعزالية والتعريفات المسطحة وتصفية الحسابات، وتعهد بإغلاق الحدود الجنوبية وإعادة المهاجرين إلى بلادهم، وإنعاش الاقتصاد بسياسات حمائية أقرب لتجارب القرن التاسع عشر من شأنها أن تفكك التشابكات الدولية للرأسماليّة التي طالما كانت نقطة قوّة الولايات المتحدة، كما وعد بتحطيم أركان الأوضاع القائمة في النظام الأمريكي في رسالة جذابة لعشرات الملايين من الناخبين الذين شهدوا (الحلم الأمريكي) يتبخر من أيديهم، فيما يتكرّس ثراء الطبقة الحاكمة الفاحش وطبقة الخبراء من النخب التي تدير الدّولة لمصلحتها.
والآن، في سن الثامنة والسبعين أصبح ترامب أكبر رجل ينتخب رئيساً على الإطلاق، محطماً الرقم القياسي الذي كان يحتفظ به الرئيس بايدن ليكون الرئيس السابع والأربعين بعد أربع سنوات من تركه منصب الرئيس الخامس والأربعين، ليكون بذلك أول سياسي أمريكي منذ أواخر عام 1800 الذي يخسر جولة إعادة انتخابه للبيت الأبيض ثم يعود مجدداً إليه في وقت لاحق.
أي سياسة خارجيّة في عهد ترامب-2؟
العودة المظفرة لترامب اليوم تبدو وكأنها إعادة إطلاق لمرحلة من عدم اليقين ليس للمجتمع الأمريكيّ المنقسم بشدة فحسب، ولكنّها أيضاً للعالم كلّه خارج الولايات المتحدة.
خلال ولايته الأولى (2016-2020) لم يكن سهلاً وقتها التنبؤ بتصرفاته بسبب منهجه الشخصاني غير المنتظم، وطروحاته غير المتماسكة، وعلاقاته غير المألوفة مع زعماء العالم، وفي الحقيقة أننا اليوم ورغم خبرتنا معه لأربع سنوات في السلطة وأربع سنوات أخرى تحضيراً لعودته – بما في ذلك حملته الانتخابيّة المستمرة منذ أشهر – فإن حال اللايقين بشأن سياسته الخارجيّة ما زال سيد الموقف، ولا شكّ أن جهات عديدة تبدأ من بكين (العاصمة الصينية) ولا تنتهي عند بروكسيل (مقر الاتحاد الأوروبي) مروراً بطهران وعواصم الشرق الأوسط تحاول الآن جاهدة توقع شكل السياسة التي قد يدير فيها حكومته وإلى أي مدى قد يسعى إلى تغيير قواعد اللعب في ما يتعلّق بعلاقات الولايات المتحدة ببقية العالم.
على أن المؤكد أن ترامب لا يثق بطاقم الدولة الحالي المكلف بإدارة مصالح الولايات المتحدة وسيجلب أقله إلى المواقع المؤثرة مجموعة من أتباعه المخلصين ممن سيسعون إلى تنفيذ نزواته دون أي تبيّن للعواقب، فيما سيعيش بقية الموظفين والخبراء تحت سيف ديموقليطس معلقاً فوق رؤوسهم خوفاً من فقدان وظائفهم، ولن يمكن لأغلبهم تقديم مشورة أو رأي خارج مساحة الولاء لشخص ترامب ومواقفه.
الحلفاء والأصدقاء: سياسة الصفقات
عندما اختار النّاخبون الأمريكيون ترامب ليحكمهم في 2016، كان رد فعل حلفاء الولايات المتحدة بمجموعة متنوعة من استراتيجيات التحوط. لكن هذه المرة، يبدو الجميع في موقف أضعف بالمقارنة بالعقد الماضي.
الحلفاء سيحاولون تملق ترامب واسترضائه، وسيقدمون له التنازلات والمكافآت التي كانت أفضل طريقة للتعايش مع عهده الأول. ومن المرجح أن يتوسع ترامب في سياساته لابتزاز هؤلاء الحلفاء ضمن نسق دبلوماسي منافق سينتج في أحسن الأحوال تعاوناً زائفاً يترك المشاكل البنيوية لتتفاقم.
الأوروبيّون مثلاً يرتعدون من احتمال فرض ترامب سلسلة من الرسوم والتعرفات الجمركية الإضافيّة على صادرات القارة إلى السوق الأمريكيّة التي تعهد بها كجزء من برنامجه الانتخابيّ ما قد يهدد اقتصاديات القارة التي ترزح تحت ضغوط الكساد والتضخم وضعف الميزانيات العاّمة. وهم بدل التلويح بفرض تعرفات جمركيّة مضادة يسعون الآن إلى استعطاف ترامب من خلال تقديم سلّة صفقات تجاريّة قد تثنيه عن فرض التعرفات المتوقعة. وثمة غموض فيما يتعلق باستجابة الصين لهكذا سياسة، ويمكن أن يلجأ ترامب معها إلى مزيج من التعرفات واستعراض القوة العسكري دون اشتباك مباشر بحكم تداخل الاقتصادين الصيني والأمريكي ما قد ينعكس مزيداً من التضخم على المستهلك المحليّ في الولايات المتحدة.
من جهة أخرى، ينتقد ترامب علناً سياسة إدارة الرئيس جوزيف بايدن في أوكرانيا وتعهد ببذل جهد لإنهاء الحرب هناك فور انتخابه حتى دون انتظار تسلم السلطات الدستوريّة رئيساً (في يناير / كانون ثاني العام المقبل).
ويشكك الرئيس في ضرورة حلف شمال الأطلسي (الناتو) الذي وفر مظلة حماية أمنيّة لحلفاء الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ويريد بدلاً من ذلك أن يتولى هؤلاء تسديد تكاليف تلك المظلّة لواشنطن.
وفي منطقتنا، فإن ترامب الأوّل كان أجرأ رؤساء الولايات المتحدة في محض الدعم العلني لإسرائيل: فاعترف بالقدس عاصمة للدولة، ونقل سفارة بلاده إليها، كما واعترف بضم إسرائيل لمرتفعات الجولان السوريّة، وقطع التمويل عن الأونروا للضغط على الفلسطينيين لإسقاط حق العودة، ولذلك شعر كثيرون في تل أبيب بالحبور لفوزه، وسارع مسؤولون إسرائيليون إلى تهنئته واعتبار انتصاره مكسباً لهم. ومن المتوقع أن يلجأ ترامب الثاني وفق وعوده إلى وقف الصراع العسكريّ الدائر في الشرق الأوسط عبر استدعاء ضغوط صارمة على إيران وحلفائها في مقابل منح إسرائيل مزيداً من المكاسب عبر توسيع مروحة اتفاقيات السلام لتشمل مزيداً من الدول العربيّة والإسلاميّة.
لقد حصل ترامب على تفويض مجدد لتغيير اتجاه سياسات بلاده الخارجيّة، ولا شكّ أنّه سيستمتع بتوظيف الهيمنة الأمريكيّة في العالم لتعظيم وهم قوته الشخصيّة محاطاً بفريق يبدو هذه المرّة أكثر ثقة لتنفيذ رغباته الاستعراضيّة والمتقلبة أحياناً. ولحين استلامه لمفاتيح البيت الأبيض مع مطلع العام المقبل ليس لبقية العالم سوى التوجس والانتظار والصبر.
العالم وترامب-2: اللا يقين سيد الموقف!!
بقلم : ندى حطيط ... 08.11.2024