أحدث الأخبار
الثلاثاء 03 كانون أول/ديسمبر 2024
ترامب والعالم تالياً: تقدّم هيغليّ أو هاوية نيتشويّة؟!
بقلم : ندى حطيط ... 19.07.2024

عندما كان جنود نابليون يتقدمون في قلب ألمانيا، كتب الفيلسوف الألماني الشهير فريدريك هيغل (1770 – 1831) أنه مع حزنه على احتلال بلاده فإنّه يرى مشهد الإمبراطور الفرنسي متهادياً بكل هيلمانه على فرسه، وكأنّه بطموحاته وأحلامه الخاصة يعبّر عن إرادة روح العالم، كما لو أنّها تكثّفت وتجسدت في شخص رجل واحد عظيم، سيكون مقدراً له – بغض النظر عمّا قد يرتكبه من جرائم أو يفرضه من إصلاحات – أن يأخذ بيده العالم إلى حقبة جديدة بطريقة تتجاوز القواعد العادية للسياسة والحروب.
استعدت، كما كثيرين، تلك اللحظة الهيغيليّة ليلة السبت الماضي، عندما حرّك الرئيس الأمريكيّ السابق دونالد ترامب رأسه قليلاً بينما كان يلقي خطاباً في تجمع لمؤيديه في بنسلفانيا ليتفادى رصاصة قنّاص جرحت أذنه اليمنى، فيسقط نازفاً قبل أن ينهض في مشهد مسرحيّ بامتياز، عرض على شاشات العالم – التلفزيونية والشخصيّة – ملايين المرّات بقبضة مرفوعة وروح مفعمة بالتحدي: إنها اللحظة التي كان العالم يعلن فيها عن الزعيم – الرمز الذي سيكون نابليونها الجديد، ورمز روحه المجسدة بشراً للعشرية الآتية.
هذا الرّجل البرتقالي العائد إلى البيت الأبيض لمرّة ثانية – كما تشير أغلب استطلاعات الرأي الأحدث – وأخيرة – بحكم الدّستور الأمريكي – يقترب حثيثاً من نهاية عقده السبعين، ولن يكون في الرئاسة مع العام 2029، لكنّ «الترامبيّة» ستبقى من بعده في شخص نائبه المختار جيه دي فانس، الذي يصفه الخبراء بترامب صغير: أكثر عمقاً من الزعيم البرتقاليّ ، وأفصح أيديولوجياً، مع رصيد مديد من سنوات العمر المحتملة – ما زال في الـ39 عاماً من عمره – يمكن أن يستثمرها في العمل السياسي، نائباً للرئيس حال انتخابه شبه المؤكد، ومن ثم رئيساً ربّما لدورتين ممكنتين، ما يعني أن ترامب قد لا يبقى طويلاً في مركز العالم، لكن الترامبيّة قد تتمدد لإثني عشر عاماً مما تعدون.
روح العالم: لكن أي عالم؟
يمكن لأي عمل من أعمال العنف السياسي أن يسفر عن ردود فعل فورية وتحولات، لم تكن متوقعة أو واردة من قبله. لكن ترامب لم يكن بحاجة إلى محاولة اغتيال من قبل شخص وحيد يحمل بندقية كي يتأهل للعب دور روح العالم. فهذا الرجل في النهاية «مسيح» عائد بالنسبة لملايين الأمريكيين البيض المسكونين بالعنصريّة وروح التفوّق والاستثناء، وتعبير عن غضب قطاعات عريضة من الطبقة الأمريكيّة العاملة من سوء المعاملة التي تلقوها – ويتلقونها – على يد نخبة واشنطن، وبديل شعبوي مثاليّ عن جو بايدن، الرئيس الذي استهلكه الخرف، والتهم وعيه الهرم حتى صار وجوده على رأس دولة العالم الأعظم، كما إساءة بالغة للدولة – الإمبراطوريّة، ولحزبه وأنصاره ومحبيه قبل غيرهم، بعدما لم يعد ممكناً إخفاء اندثاره العلني.
وبما أنه ينبغي لنا أيضاً أن نسلّم، ورغم كل شيء أن هذا الكوكب ما زال خاضعاً للهيمنة الأمريكيّة بشكل أو آخر، فإن ساكن البيت الأبيض يظل أقوى رجل في العالم، مهما كبرت الصين أو تمنعت روسيا أو توحدت أوروبا أو ثارت أفريقيا. وترامب في ذلك البيت ليس أي رئيس، إن لم يكن لأجل برنامجه، فعلى الأقل لأجل ما يعاديه.
فلسفة للانعزال والجدران والعنجهية
لست أدري إن كان من الصواب وصف منهج ترامب في ممارسة السلطة بالفلسفة، إذ أن هذا التعبير يتطّلب نوعاً من التفكير المتماسك القادر على تقديم قراءة نظرية متكاملة للعالم. ومع ذلك، فإننا، وفي ظل غياب نص مؤسس للترامبيّة، سنجد أن سياسات الرجل البرتقالي – في الولاية الأولى – ووعوده – للثانية – تتمحور حول تخفيف اشتباك الولايات المتحدة العلني المباشر بشؤون العالم خارج أمريكا، بما يعنيه ذلك من تقليص الانخراط في تقديم الحماية للدول الحليفة، وتشييد جدران صماء عالية حول قلعة أمريكا البيضاء، تدفع بالأجانب الملونين عنها، مع فرض ضرائب باهظة لا تقل عن 10 بالمئة على كل الواردات إلى السوق الأمريكي الضخم، وهذه في مجموعها سياسات تباع للاستهلاك المحليّ بأنّها ستجعل أمريكا عظيمة من جديد، فيما يترجمها بقيّة العالم على أنها عنجهيّة محضة: ابتزاز للحلفاء كي يدفعوا مقابل مظلّة النفوذ الأمريكي، الذي يسوّق لهم حماية ورعاية، وحرب تجاريّة ستقطّع أوصال العولمة من أجل مكاسب وقتية قصيرة النظر، وفتح لبوابات فوضى الحركة في غياب اختياريّ لشرطي المعمورة.
العالم تالياً
فيما تركه هيغل من كتابات يفهم بأن دور الرجل العظيم، الذي يتقمص روح العالم تقدّمي الاتجاه بشكل أساسيّ: كما فعل نابليون، المغامر الكورسيكي، قصير القامة، الذي داس بخيوله الأنظمة الإقطاعية العتيقة في أوروبا وبشر بعصر حديث، ومهما عاث فساداً أو أراق من دماء، فإنه في المحصلة الكليّة يدفع بالحضارة نحو مرحلتها التالية من التّطور، فكأنه يد إلهيّة تخدم الأهداف الأعلى للوجود البشري. لكن ماذا لو أن هيغل كان جاوز الصواب، وتبيّن أنّ التقدّم ليس محتماً، وأن أغراض روح العالم أكثر تعقيداً من الشكل النموذجي المتفائل للتطور الخطيّ لمسار التاريخ؟ لعل هذا الترامب، نابليون الجديد، سيفتتح عندها عصراً يكون بمثابة هاوية نيتشوية الطابع – نسبة إلى نيتشه الفيلسوف الألماني – تقف أمامها البشرية عاجزة، بينما تحملق بهوّة وسيعة ليس فيها سوى الكارثة التامّة.
ومع ذلك، فثمة أسباب نسبيّة للتفاؤل. أولها أن عهد بايدن لم يكن برداً وسلاماً، بل حرباً مفتعلة مع قوى نووية قد تأخذ البشريّة برمتها نحو الحرب الأخيرة في تاريخ الكوكب، وتحريضاً لا يتوقف ضد الصين، وتغطية سمجة لحرب إبادة مفتوحة للفلسطينيين ينفذها الإسرائيليون بالسلاح الأمريكي. ومن شأن تصعيد إدارة جديدة إلى البيت الأبيض منح السلام فرصة، لأن يتحقق مجدداً في قلب القارة القديمة – بغض النظر عن طبيعة الترتيبات اللازمة لإرضاء روسيا – مع تحويل الضغط العسكري على الصين إلى حرب تجاريّة تؤجج الإبداع التكنولوجي، وربما إعادة الوحش الإسرائيلي المتعطش أبداً لدماء الفلسطينيين إلى قفصه، ولو مؤقتاً.
ومهما يكن من أمر المستقبل بعد تسلم ترامب مفاتيح البيت الأبيض، هيغيلياً كان أم نيتشوياً، فإن هذا البرتقالي ذا الكاريزما الساطعة الفائقة، والقناعات الأيديولوجية المسطحة، والشهية المتوحشة للسلطة سيكون – ما لم تنقلب الأمور دراماتيكياً – الصورة الرّمز للشعبويّة المتمردة التي تتغذى من الغضب الأعمى – فتعيد تشكيل سياسة عصرها وتقوض المؤسسات القائمة دون أن تحمل تصوراً محدداً للبديل، الذي سيكون غالباً الفوضى.
أيها السادة، إنه روح عالمكم المقبل: دونالد ترامب.

1