تضاربت الأنباء والتقديرات، هذا الأسبوع، بشأن قرب التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار على جبهة القتال بين الجيش الإسرائيلي وقوات حزب الله اللبنانية. وأفادت تسريبات من مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، أن الاتفاق قريب، وأوضح وزير خارجيته الجديد جدعون ساعار، أن هناك «بعض التقدم» في مفاوضات وقف إطلاق النار، وعبّر المبعوث الأمريكي إلى لبنان عاموس هوكشتاين، عن تفاؤله وعن إمكانية التوصل إلى اتفاق قريب. وردد الصحافيون والمحللون الإسرائيليون، الذين يستقون معلوماتهم وتقديراتهم من قيادتي الجيش والحكومة، تقييمات مفادها أن التوصل إلى وقف لإطلاق النار على طول الحدود اللبنانية أصبح وشيكا، وسيتم خلال أسابيع، وقبل دخول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في يناير/كانون الثاني المقبل.
لم تحد إسرائيل، إلى الآن، عن مواقفها وفي مقدمتها المفاوضات تحت النار وبالنار. وأرسل نتنياهو وزير الأمن الجديد يسرائيل كاتس، محدود الصلاحيات والقدرات، لإطلاق تصريحات نارية غرضها تهديد حزب الله والضغط عليه لقبول الشروط الأمريكية الإسرائيلية. وكتب كاتس في منصة «إكس» أنه «في لبنان لن يكون وقف لإطلاق نار ولن تكون هدنة وسنستمر في دكّ حزب الله إلى حين تحقيق أهداف الحرب»، وتابع مضيفا «لن نوافق على تسوية لا تضمن حق إسرائيل بالقيام بنفسها بما يلزم لمنع الإرهاب، ونتمسك بتحقيق غايات الحرب في لبنان المتمثلة بتفكيك حزب الله من سلاحه وبإبعاده إلى شمالي نهر الليطاني وبعودة سكان الشمال بأمان إلى بيوتهم».
تعرّض كاتس لانتقادات ساخرة في الإعلام الإسرائيلي وكأنّه لا يعي معنى ما يقوله عن «تفكيك حزب الله من سلاحه»، مع الإشارة إلى أن هذا لم يكن ضمن أهداف الحرب التي أقرتها الحكومة الإسرائيلية، وأن تحقيق مثل هذا الهدف يتطلّب اجتياحا عسكريا لمناطق واسعة في لبنان، وحربا أكبر بكثير مما هي عليه الآن. لكن يبدو أن غاية هذا الكلام، الذي كرره كاتس أكثر من مرة، هي توجيه رسالة تهديد إلى حزب الله بأنه إذا لم يقبل بالمطالب الإسرائيلية فهو يعرّض كيانه العسكري لخطر «الزوال». على المنوال نفسه جاء تصريح رئيس الأركان الإسرائيلي الجنرال هرتسي هليفي، الذي قال بأن جيشه أنهى الاستعدادات للمرحلة الثانية من الاجتياح البري في جنوب لبنان، التي تشمل توسيع التوغّل العسكري في انحاء الجنوب اللبناني كافة. وإضافةً إلى التهديد الموجه لحزب الله، هدف هليفي إلى إلقاء الكرة في ملعب المستوى السياسي الإسرائيلي، وبالأخص نتنياهو، وهو يقول عمليا للرأي العام الإسرائيلي «نحن جاهزون وبانتظار القرار الحكومي». ويأتي هذا في ظل المناكفات المتداولة في الإعلام الموالي لنتنياهو التي تتهم قيادة الجيش بالتقصير والتردد والامتناع عن الحسم.
ضغوط داخلية
تتعرض القيادة الإسرائيلية لضغوط باتجاهات متضاربة، وتجد نفسها أمام نقطة حاسمة لاتخاذ القرار، فإمّا تسوية تستجيب لشروطها، وإمّا توسيع نطاق الحرب، لفرض التسوية بالقوة العارية. وهناك شبه إجماع بأن ثمن استمرار الوضع الحالي أصبح باهظا، وينذر بالتورّط في حرب استنزاف لا تريدها إسرائيل، ولعل أهم ما يضغط الحكومة الإسرائيلية:
أولا، التراجع المتواصل في نسبة حضور قوات الاحتياط للمشاركة في الحرب، التي انخفضت بنسبة الربع بالمعدل، وهناك فرق عسكرية يصل «الغياب» فيها إلى النصف. وطفت على السطح في الأسابيع الأخيرة مشاعر الغضب في أوساط جنود الاحتياط وعائلاتهم من العبء المتزايد اجتماعيا واقتصاديا ونفسيا وجسديا، خصوصا أن الحكومة تسعى لسن قانون إعفاء عشرات آلاف المتدينين «الحريديم» عن الخدمة.
ثانيا، شنت إسرائيل هجومها البري على لبنان بعد أن امتلأت مخازنها بالذخيرة، التي صارت تتناقص مع استعمال كميات هائلة منها في القصف الوحشي على غزة ولبنان. ويبدو أن القيادة الإسرائيلية متوجّسة من نشوء نقص في الذخائر، إذا تواصل القتال الحالي لمدة طويلة، أو في حال توسيع نطاق الحرب بشكل كبير.
تتعرض القيادة الإسرائيلية لضغوط باتجاهات متضاربة، وتجد نفسها أمام نقطة حاسمة لاتخاذ القرار، فإمّا تسوية تستجيب لشروطها، وإمّا توسيع نطاق الحرب، لفرض التسوية بالقوة
ثالثا، تراكم الضغوط بشأن إعادة مستوطني القرى الحدودية إلى بيوتهم، وتزايد تكلفة إسكانهم وتمويل نفقاتهم. وكذلك الخشية من استقرار معظمهم في أماكن سكناهم الجديدة، ما قد يؤدي إلى عدم رجوعهم، ما يعني صورة هزيمة وليس صورة نصر كما تريد إسرائيل.
رابعا، قرب الشتاء وما يحمله من مصاعب في الأعمال القتالية وحركة الآليات العسكرية، والتخوّف من أن تصبح قوات الجيش عالقة في الوحل اللبناني.
خامسا، الثمن الذي يدفعه المجتمع الإسرائيلي جراء القصف بالصواريخ وبالمسيرات، يتزايد باستمرار، على الرغم من الادعاء بأن إسرائيل استطاعت أن تقضي على 80% من قوة حزب الله. ويتمثل ذلك بارتفاع عدد القتلى والجرحى، وتزايد التدمير للمباني والمنشآت، وعدم انتظام الحياة في مناطق واسعة، ودخول ما يقارب مليون إنسان بشكل شبه يومي إلى الملاجئ والغرف الآمنة.
انتقادات حادة
في مقابل الاندفاع نحو التسوية، تدعو بعض النخب الإسرائيلية لتوسيع الحرب وتوجّه انتقادات حادّة لطريقة إدارتها. وفي ظل الحديث عن تسوية قريبة، خرج رؤساء البلديات والقرى الإسرائيلية إلى الإعلام معربين عن رفضهم للاتفاق الذي يجري الحديث عنه، داعين الجيش إلى «استكمال المهمة» ومواصلة الحرب لتفكيك القدرات العسكرية لحزب الله «على الأقل في الجنوب». ولكن الأهم من هذه التصريحات هو أنهم قالوا إن النازحين عن المستوطنات الحدودية لن يشعروا بالأمان ولن يعودوا، إلّا إذا قام الجيش الإسرائيلي بنفسه بالقضاء على وجود قوات ومنشآت حزب الله في الجنوب اللبناني بأسره وليس فقط على الحافة الحدودية.
ومن يعتقد أن نتنياهو هو الأكثر تطرفا، سيجد أن هناك من هو أكثر تشدّدا منه في قيادة المعارضة، التي يظنّها البعض أكثر اعتدالا. فقد دعا الجنرال المتقاعد، يائير غولان، الذي يرأس تحالف حزبي ميرتس والعمل، إلى توسيع رقعة المعارك واجتياح «قرى الخط الثاني». وتبعه الجنرال، غادي آيزنكوت رئيس الأركان السابق وعضو الكنيست عن حزب «المعسكر الرسمي»، الذي قال إن العملية الحالية غير كافية وهناك حاجة لتوسيعها. وحاول بيني غانتس رئيس «المعسكر الرسمي ورئيس الأركان السابق أيضا، الالتفاف على نتنياهو من اليمين وغرّد على منصة «إكس»: «حتى لو تزايد الضغط الدولي، علينا تكثيف قوة هجماتنا». أمّا رئيس المعارضة ورئيس حزب «يوجد مستقبل»، يائير لبيد، فقد حاول تبريد ما يبدو اندفاعا نحو التسوية قائلا، «ما زالت أمامنا عمليات لإنجازها ومن المبكّر وقف الحرب».
جهود غير دبلوماسية
تمحور الحراك الدبلوماسي هذا الأسبوع على الخط المفتوح بين الولايات المتحدة وإسرائيل، وعقد مبعوث نتنياهو الشخصي الوزير رون ديرمر، سلسلة من اللقاءات مع مسؤولين في الإدارة الأمريكية ومع الرئيس المنتخب دونالد ترامب. وكان غاية اللقاءات التوصل إلى اتفاق إسرائيلي ـ أمريكي يلبي مطالب حكومة نتنياهو، ويجري طرحه بعدها على لبنان. وحين تخبر المصادر الإسرائيلية بأن هناك تسوية في لبنان، فهي تقصد تفاهمات يقرها الثلاثي نتنياهو- بايدن- ترامب.
المبعوث الأمريكي هوكشتاين مكلّف بطرح بنود الاتفاق الأمريكي الإسرائيلي على لبنان، والتوصل إلى اتفاق لبناني أمريكي، وتنوي الولايات المتحدة استصدار قرار في مجلس الأمن يستبدل القرار 1701، الذي يصر المسؤولون اللبنانيون على أنهم لن يقبلوا أي تعديل فيه. مشكلة هوكشتاين أنه يعرض على لبنان اقتراحا لا يمكن له أن يقبل به. واشنطن تعرف جيّدا الموقف اللبناني الرافض للشروط الإسرائيلية. وفي حين تتبع مع إسرائيل منطق التفاهم، تلجأ بالتعاون مع إسرائيل إلى أسلوب الضغط على لبنان، ويشمل ذلك ممارسة أقصى ضغط عسكري إسرائيلي، وبموازاة ذلك إطلاق حملة سياسية أمريكية لحشر حزب الله في الزاوية، عبر تحريك جهات عربية ودولية ولبنانية داخلية للعمل على إجباره للقبول بالشروط الإسرائيلية. لا يمكن أن نسمي التفاوض بالنار، الذي تتبعه إسرائيل وأصبح استراتيجيتها المركزية المدعومة أمريكيا، جهدا دبلوماسيا، فهو أبعد ما يكون عن ذلك. وقد أوضح المسؤولون اللبنانيون أنهم لا يقبلون هذا المنطق ويصرون على وقف الأعمال القتالية كشرط للتفاوض، ويتمسكون أيضا بحرفية القرار 1701، مع استعداد للتفاوض حول آليات تنفيذه. وأخذا بعين الاعتبار المطالب الإسرائيلية، التي تمس صلب السيادة اللبنانية، يبدو أن المفاوضات ستكون صعبة وشائكة.
يظهر من مجمل أحداث وحراكات الأسبوع الأخير بشأن الجبهة اللبنانية، أن إسرائيل وصلت إلى مفترق طرق، فإما تسوية ووقف الحرب أو الانتقال إلى تصعيد وتوسيع كبير للحرب، وإما بقاء الوضع كما هو عليه اليوم فهي تراه خسارة مؤكّدة لما تعتقد أنها أنجزته. الأمور لم تحسم بعد، فشرط التسوية أن تتراجع إسرائيل عن معظم شروطها الجديدة، والمخاطرة بتوسيع الحرب قائمة، لكنّها قد تتحول إلى مغامرة غير محسوبة، وإسرائيل تعرف ذلك.
حراك غير دبلوماسي حول لبنان!!
بقلم : د.جمال زحالقة ... 14.11.2024