أحدث الأخبار
الجمعة 01 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
سمير السحيمي يكتب الذاكرة في «غسق الورد… أفئدة الطين»!!
بقلم : رياض خليف ... 13.05.2017

ليست الكتابة الشعرية تحليقا في فضاء الغرابة وبحثا عن العجيب وملاعبة للغة وابتعادا عن اليومي وتجاوزا له وحسب، ولكنها تتحول كثيرا إلى غوص في أعماق الذات وما ترسب فيها من يوميات وصور، فيصبح التخييل الشعري نكوصا وعودة إلى الماضي للعيش في ثناياه لغويا، وتصبح الكتابة الشعرية كتابة ذاكرة تلتقط منها الكثير من لوازم الكتابة الشعرية.
ولعلنا نظفر في عمل الشاعر سمير السحيمي الموسوم بـ»غسق الورد… أفئدة الطين»على نماذج لهذه الكتابة الشعرية، التي تنهل من ذاكرة شاعرها وتروم التوغل في ماضيه. ففي هذا العمل الذي طغى عليه الوجع وبدا في أغلب عتباته وردهـــــاته، يحلق الشاعر في الذاكرة جاعلا ذاكرته تبوح بخطابات عديدة، ولعلنا في هذه المقاربة نتوقف عند أبرز محطات الذاكرة في هذا العمل، ونتتبع ملامحها ونتلمس الخطابات التي تستبطنها.
محطة الأم
تأخذ كتابة الأم عادة بعدا عاطفيا ونفسيا، فهي نوع من الاعتراف بجميلها ونضالاتها، ولكنها تتحول عند الطبقات الفقيرة والمنحدرة من المناطق المهمشة، إلى كتابة معاناة ولعل هذا الأمر ظل طاغيا على أبرز التجارب العربية الحديثة، حيث ارتبطت صورة الأم بتحملها لعبء الواقع اليومي وتحملها للظروف القاهرة. تسجل الأم حضورها في هذا العمل الشعري، في قصيدة «وشم في أفق الماء» وهي كتابة تستند إلى الذاكرة وتحاول استعادتها، بل تتوهم مزاولتها وترحل إلى زمنها، من خلال كتابتها في صيغة المضارع، وتبدو العودة إلى الذاكرة عودة اعتراف بمعاناتها وتضحياتها، فهي «على قطعة الجهد»، و»على شفق الصبر»، وهي «تحنو على جهدها»، وهي»تنثر منسجها فوق أرض شقية»، فثمة حرص من خلال هذه الكتابة على تصوير نضالها والاعتراف بالتضحيات التي تكبدتها، ولعل هذه الصور تحيل في النهاية إلى خطاب اجتماعي، فهي تصور المعاناة الاجتماعية وحياة الفقر وطفولة الحرمان والشقاء، ولكن هذه الكتابة تستحيل إلى كتابة وشم واحتفاء بالتراث المحلي وبالنمط الاجتماعي التقليدي الذي ينقرض اليوم، فتصبح الأم حاملة لرمزية تراثية، ففي القصيدة تطل تلك الحياة البسيطة التي تغرق في الهوية المحلية، التي تعبر عن الوجه التراثي، فنجد مواسم جز الصوف في الربيع:
تجمع الصوف
ما جز وانفض عند الربيع
وغازله النوء
كما نجد المغزل والنسيج والبرنص
«عطر أمي
تنشف ما جمعت
ترتبه من فروق
توحده
يتماهى بمغزلها مسلكا
أو طريقا طويلا لجهد يدوم»
لعل هذا الوجه التراثي يبدو مهما في هذه القصيدة، ونفهم من عتبات الكتاب حرص الشاعر على إبرازه، ففي الغلاف نجد «الخلخال» باعتباره ينتمي إلى حلي وزينة المرأة التقليدية ويتصل بهويتها المحلية.
إن الأم تحمل في الذاكرة طابعا خاصا صورته القصيدة، فهي وجه اجتماعي وتراثي، يوفر للقصيدة أيديولوجيتها ويصلها بالواقع الاجتماعي، كما يوفر لها جماليتها ولغتها من خلال ضخها بألفاظ تنتمي إلى المعجم التراثي.
تنتسب المناجم التونسية بحكاياتها ومشاهدها وثقافتها إلى وجدان الشاعر، باعتباره قد تربى في مناخاتها، باعتباره أصيل إحدى جهات الحوض المنجمي في تونس، وتحديدا المتلوي، وهو ما يوحي بأنه عاش في منطقة تدرك معاناة عمال المناجم وكفاحهم من اجل الحياة، ولذلك حطت ذاكرته في بعض شعره بهذه المعاناة.
لعل هذا العنصر يتجسد في «تفيض عليّ المواجع شتى» وهي التي تكشف مداخلها عن طابع الذاكرة فيها، فالتصدير يصف القصيدة ويحدد مرجعها «قصيدة من وحي معاناة عمال المناجم وشقائهم». فمعاناة عمال المناجم تبدو مرجعا للقصيدة، ولعل المطلع يؤكد هدا التوجه، فالشاعر ينزع نحو الذاكرة الاجتماعية:
يفيض المكان مواجع شتى
أراقب ذاكرتي
فتعود إلى عاشقي الأرض
إلى من تقاطرت الروح منهم
فالكتابة في هذا المستوى كتابة معاناة لا تنفصل عن الأوجاع والآلام، ولعلنا ننتبه إلى صورة الأب:
«أبي حول الأرض تبرا
وأنبت في رفقة شجرا من ذهب
فطارت ثمار
ولم يبق إلا صفاء النجوم
وزرقة جهد
تبلل من عرق في الجسد
محطة المدن القديمة
تبدو هذه الكتابة التحاما بالذاكرة الجماعية، وبالفضاءات التاريخية، ولعل قصيدة «فضاءات منغسق الورد» تجسد هذه المحطة، وهي تتفاعل مع مدن مغربية أمازيغية التاريخ (تدرت/ورزازات/الصويرة…). تلتحم الكتابة في هذا المستوى التحاما بالذاكرة التاريخية وتربط معها هواجس وأحاسيس وتحن إليها:
«»تاوريرت»…. أول الخلق في حرف أوتارها
عدت أدراج ذاكرتي
والتقيت حنيني إلى عشق طين الوجود
بين خيمتنا وسفوح الجمال
هاهنا أول الخلق
وأبجدية الصورة الأولى
ورائحة النور
نخلص بعد جرد هذه النماذج إلى أن كتابة الذاكرة شعريا تحمل نزعة الحنين إلى الماضي في مختلف مستوياته الفردية والجماعية. وهي كتابة مشحونة بالأيديولوجي، ولكنها لا تخلو من جماليات، فتوظيف هذا الماضي بمصطلحاته ورموزه وصوره الغابرة، من شأنه أن يحدث نوعا من التغريب في النص الشعري، ويبتعد به مسافة مهمة عن اليومي والمألوف.

٭ ناقد تونسي
1