شكلت النظرة إلى الحركات الصوفية ومواسمها الدينية وطقوسها، هدفا لانتقادات ضارية من قبل النخب الوسطى في المدن العربية الحديثة. وقد تقاسمت كافة أطراف هذه الأوساط، سواء الإسلامية منها أو العلمانية، رؤية سلفية حيال هذه الشعائر والطقوس المصاحبة للمواسم الصوفية (حلقات الذكر) باعتبارها شعائر بالية، وكون هذه السلوكيات تؤسس لتدين شعبي عدو لـ»التقدم» والعقلانية والإسلام القويم. في هذا الصدد، غالبا ما كانت هذه الرؤية تبدو متأثرة بالرؤية المعاصرة للمقدس وللطقوس الدينية، التي عبر عنها دوركهايم من خلال تعريفاته للمقدس، بجعله يتعارض بشكل كامل مع مجال المدنس (الدنيوي).
فالمقدس لا يلتقي مع الدنيوي إلا لكي ينتفي أحدهما ويظل الآخر قائما. وبقدر ما يميل المقدس داخل سياق تعارضه مع المدنس إلى ما هو طاهر وخالص، فإن المدنس (الدنيوي) يميل إلى ما هو دنس ونجس. وقد بقي هذا القصور ملاصقا لكل البحوث في هذا المجال. فكل سؤال عن المقدس يتحول إلى سؤال عما يعارضه ويخالفه، وكل تعريف للمقدس يميل إلى تعريف ما يعارضه، ليتقلص أمام الباحث تعقد المجال وتشعبه، حيث يصبح بالإمكان إرساء الحدود بوضوح بين ما هو مقدس وما هو مدنس، مثلما يمكن رصد علامات حضور كل طرف منها بدقة وتمييز.
وقد عمل باحثون مختلفون على الكشف عن هشاشة هذه الفكرة، حين اعتبر إيفانز بريتشارد أن العلاقة بين المقدس والدنيوي مطاطية وحركية وليست تعارضية متوازية. لاحقا جاء روجيه كايوا في كتابه «الإنسان والمقدس» ليرى من خلال دراسته للمجال الطقوسي أن الحديث عن التعارض الكامل بين المقدس والدنيوي يبقى شيئا غريبا عن المقدس ذاته. فالطقوس والمواسم الدينية تكشف برأي كايوا عن انقسام المقدس أو انشطاره إلى مقدس احترام يميل إلى نظريات المحرمات، ومقدس انتهاك يميل إلى نظرية الحفل التي ترافق المواسم والأعياد، التي تأتي لقطع سير الحياة النظامية، حيث الحياة مستقرة ومقيدة بنظام من المحضورات الدينية والاجتماعية. وعادة ما يتمثل هذا المقدس من خلال حالات الغناء والرقص (حلقات الذكر) واللعب (اختيار ملابس تنكرية ومحاكاة ساخرة للمؤسسات الاجتماعية مثل الزواج والطبقة والهوية الجنسية) أو حتى على مستوى الإسراف في الطعام (عادة ما يكون هناك إسراف في أيام العيد).
إن أول من تلقف هذه الرؤية الجديدة للمقدس في الساحة العربية في ثمانينيات القرن المنصرم، هم الباحثون الأنثربولوجيون المغاربة، الذي استطاعوا من خلال الاعتماد على مدخل كايوا السابق، صياغة رؤية جديدة للطقوس الصوفية الإسلامية، بوصفها جزءا من المقدس الإسلامي، وليست استمرار لبقايا وثنية، خاصة أن الحياة الصوفية وفقا للأنثربولوجي المغربي نور الدين الزاهي قد ارتكزت بالأساس على فعل الانتهاك، سواء من خلال انتهاك الحجب والقواعد الأخلاقية ـ التشريعية واللغوية، أو عبر ما جسدته في مناقبها وطقوسها. بيد أن ما تنبهت له الحفريات المغاربية، أن هذا الانتهاك ليس لأبعاد دينية فحسب، (كما ركزت على ذلك المدرسة البنيوية)، أو تطهيرية (كما في نقد عبد الله حمودي لرؤية كايوا رغم اعتماده على تعريفه السابق للمقدس) بل أن هذه الطقوس غالبا ما تسعى إلى إزاحة النظام الاجتماعي والسياسي السائد من دون تغيير كل ملامحه. من هنا أخذ ينظر إلى هذه الطقوس ودورها في الكشف عن حالة التوترات القائمة بين الأفراد في الحياة اليومية، أو بين الأفراد والنظام السياسي القائم، خاصة أن الأفراد العاديين غالبا ما يعبرون عن هذه التوترات في المواسم الدينية، من خلال «الانتهاك الصامت» وفق تعبير آصف بيات أو الإيقاف المؤقت لأشكال السيطرة الاجتماعية. من هنا يأخذ الموسم الديني معاني جديدة، بدل المعاني التقليدية ذات الطابع السلبي حياله، التي عادت ما تروجها بعض النخب الثقافية (العلمانية والإسلامية).
الجدير ذكره هنا، أن هذه الرؤية الجديدة لطقوس الانتهاك وعلاقتها بالمقدس، إضافة إلى الأبعاد الاجتماعية لها، لم تحظَ إلى اليوم باهتمام كبير داخل الساحة المشارقية العربية، إذ ما يزال هناك قصور في فهم الظاهرة الدينية على المستوى الأنثربولوجي مقارنة مثلا بالمغاربة، إضافة لذلك ما تزال هناك سردية سائدة ذات مضمون سلبي حيال الجماعات الصوفية ومواسمها باعتبارها جماعات قريبة من سياسات النظام، وهذا بات يحظى بتشكيك كبير من قبل العديد من الباحثين الغربيين الدارسين لدور الطرق الصوفية وطقوسها على المستوى الاجتماعي، باعتبارها احتفالات لا تخدم السياسات الدينية للدولة، بل على العكس من ذلك فهي تعيد خلق المدينة ومكانها من جديد، الذي غالبا ما يحظى برقابة صارمة من قبل الدولة. في هذا السياق يمكن أن نشير إلى دراسة الباحثة الفرنسية أنا أدوف «موالد القاهرة، والاحتفالات الشعبية المتقلبة لمدينة يعاد ترتيبها» التي أعدتها حول احتفالات مولد الحسين والسيدة زينب في الفترة ما بين عامي 1998 و2003. وقد صدرت هذه الدراسة ضمن كتاب «القاهرة مدينة عالمية»، الذي أشرف على كتابته عدد من علماء الأنثربولوجيا الغربيين والمصريين. وستكون لنا عودة للتطرق له بشكل أوسع، خاصة أنه يعد اليوم من أهم المراجع والوثائق الإثنوغرافية حول التغيرات التي شهدتها المدينة العربية (القاهرة) على كافة المستويات الثقافية والاجتماعية (العمارة، والطقوس الدينية، والأغاني، الطعام، والسينما).
فضاء المدينة أثناء المولد
ترى أدوف أنه في دراسة الاحتفالات الدينية سيكون بلا طائل أن نبذل جهدا من أجل أن نقوم بتصنيف ما هو ديني ومقدس، وما هو أمر احتفالي. فليس هناك مولد بدون مكان للاحتفال به، وعناصر جذب، ومواضع لبيع بعض السلع وألعاب الأطفال وأماكن التسلية التي ترافق هذه الاحتفالات (الدنيوي). من جهة أخرى ترى الباحثة، أن ما تكشف عنه دراسة هذه الاحتفالات على المستوى الاجتماعي واليومي هي حالات إعادة تكوين المكان من قبل المشاركين في الاحتفالات. كما أنها تعيد من ناحية أخرى ترتيب الأوضاع الجندرية التقليدية لصالح احتمالات أخرى للاختلاط الاجتماعي، خاصة على صعيد الاختلاط بين الرجال والنساء. حيث يجد الرجال والنساء انفسهم في هذا السياق، جنبا إلى جنب في مكان عام، بينما الشائع بوجه عام، هو الاحتفاظ بالتباعد بينهما، في حين أن التقارب المادي والتلامس بين الرجل والنساء يكون أقل ما يمكن، وفي المكان الذي توجد فيه النساء بصفة خاصة، تكون هناك سيطرة متشددة.
ووفقا لأدوف يبدو فضاء المدينة في حي الحسين أثناء إقامة المولد وكأنه مفعم بالمفاجآت والتأويلات، ويتجسد وجود الزائرين أثناء احتفالات المولد من خلال توزيع الأشياء الموضوعة في الشوارع، وأمام الحيطان والحواجز الموضوعة على الأرصفة وغيرها. وحتى النافورة المائية الجافة الموجودة في وسط الميدان تكون ممتلئة بالمتعلقات الشخصية «للزائرين». كما تستخدم المسامير الضخمة على بوابات مسجد الحسين كمشاجب للمعاطف، وكل واحد من هذه المسامير مكدس بالملابس والحقائب المعلقة عليه. وتستخدم قاعدة البوابات بمثابة مائدة لأباريق الشاي، والأكواب، والصواني. كما تستخدم الأشجار القليلة المتناثرة في الميدان كدعامات وفروعها لا تكاد تبدو تحت الصرر المعلقة عليها. وتحدد الأرصفة وحواف الشوارع بالحصر المفروشة على الأرض، التي تحتلها مجموعات معينة، وتكتظ بالأدوات المستخدمة في تناول الطعام وأغطية النوم، وتستخدم بالطريقة نفسها المداخل والممرات للشقق السكنية.
هنا نجد أن وظائف الأماكن العامة يعاد تعريفها، حيث يتم الاستيلاء على الأماكن الحضرية العامة بكافة أبعادها، كما نجد أن المكان يتراوح بين ما هو يومي ومعتاد (دنيوي) وبين ما هو احتفالي (مقدس) والجميع منهمك في خلق عالم مدينتهم (وهو ما يذكرنا بتعريفات كايوا للمقدس). هذه الأماكن عادة ما تكون محمية من قبل قوات نظامية، الذين لا يتوقفون عن منع هؤلاء الأشخاص الذين يحاولون الجلوس أو الاستناد على الحواجز المقامة حول الميدان، والذين كانوا ينالون قسطا من الراحة في أوقات الظهيرة، كما يقومون بمصادرة الموائد والمطاعم والمفارش. بيد أن ما تسجله الباحثة من ملاحظات هنا، هو أنه مع اقتراب الليلة الأخيرة للمولد تزداد صعوبة تطبيق هذه الأعمال التعسفية وتتراخى قبضة رجال البوليس، ويستطيع الناس التغلب على هذه المحظورات رغم التعزيزات الأمنية (تبدل العلاقة بين الناس العاديين والسلطة)، وتنقلب المعادلة كذلك حيث نجد أن الأهالي يقومون بدور رجال البوليس، من خلال حل مشاكل الازدحام، والتدخل لحماية السيدات اللاتي يتعرضن للمضايقة.
التعديل الآخر الذي ترصده الباحثة على مستوى العلاقات الاجتماعية، هو دور حلقات الذكر في فسح المجال أمام النساء ليلعبن دورا أوسع على مستوى المجال العام والظهور، حيث تشكل النساء نسبة لا بأس بها من المشاركين في حلقات الذكر وبعضهن من الفتيات، ويتدافع المتفرجون للمشاهدة، بل أن كثيرا من الرجال يحملقون في تفاصيل أجسادهن التي تتكشف أو تفور بالحيوية المتولدة عن الحركات الراقصة التي تصاحب الذكر. ولكن هؤلاء النسوة، وبالذات ذوات الوجوه المشدودة وغيرهن (وهي التعبيرات التي تنم عن نشوة الوجد)، كلهن عيونهن مغلقة. وسواء كان حقيقيا أو زائفا، فإن عدم اكتراثهن يبدو مطلقا، فليس هناك أي نوع من أنواع الدلال في ملامحهن ولا أي نوع من عدم الاحتشام المتعمد في أوضاعهن، كما أنه ليس هناك تعمد في إظهار مفاتنهن. ما لا تذكره الباحثة هنا رغم هذا الرصد الدقيق لدور وتأثيرات الاحتفالات على حضور النساء وحرية أجسادهن من خلال انتهاك قواعد الحشمة، هو أن هذا التعديل الجندري على مستوى الجسد إنما يتعلق بما دعاه الأنثربولوجي المغربي نور الدين الزاهي في كتابه «المقدس الإسلامي» بطبيعة جسد الحضرة، الذي هو جسد من دون عين. ففي حضرة الطقوس ـ وفقا لزاهي- تندثر وظيفة العيون الطبيعية، وإذا ما استدعينا في هذه النقطة الاستبدال الرمزي الذي خص به جورج باتي العين عبر وصفها بأنها ترمز للقضيب والعكس أيضا، فان هذا الترميز برأي الزاهي نعثر على شرعيته داخل الثقافية العربية الإسلامية، حيث نجد حضور الحديث عن الزنا بالعين.
على هذا فإن غياب العين وانغلاقها ضمن لحظة الحضرة (كما أشارت أدوف إلى انغلاق عيون النساء، واغفلت انغلاق عيون الرجال المشاركين في الحضرة)، سيعني أن الجسد الطقوسي هو جسد من دون قضيب، ولأنه كذلك فهو يبدد العنف الجنسي ويهدره من خلال تبديد وهدر ثنائية الذكوري والأنثوي المميزة للجسد الدنيوي، وبذلك تنقسم الوظائف بشكل طبيعي مثلما يتم التحرك داخل المجال (يمكن ملاحظة الأمر ذاته داخل مواسم الحج) بدون تحفظات كما أن الاحتكاك داخل هذه الطقوس لا يحصل بدون إنذار .
المواسم الصوفية والمدينة والنساء: إعادة خلق عالم جديد!!
بقلم : محمد تركي الربيعو ... 10.07.2016
٭ باحث سوري