تظهر لنا بعض الرسائل والمقالات، التي نشرت في بدايات القرن العشرين، أنها ما تزال تحمل لنا الكثير من الوقائع، وبعض التفاصيل اليومية، التي يشكل الاطلاع عليها شيئا من الدهشة، والمفاجأة، والحيرة حيال غيابها لاحقا عن النقاش، لصالح قراءات وسرديات بديلة. ومن بين هذه النصوص، نشير مثلا إلى رسائل المؤرخ والسياسي التركي يوسف آكشورا (آقجورا) والتي نشرت مؤخرا بعنوان «رسائل سوريا وفلسطين نيسان_ـ تشرين الأول 1913) ترجمها من التركية أحمد استانبولو، دار روايات.
في هذه الرسائل، التي نشرت على هيئة مقالات في صحيفة «الوقت» التركية، حاول من خلالها رواية تفاصيل الحياة في مدينة بيروت والقدس ويافا ومستعمرة تل أبيب. ولذلك يشكل الاطلاع عليها فرصة جديدة لفهم كيف كان يعاد تشكيل المنطقة عشية الحرب العالمية الأولى، ولكونها أيضا توفر لنا تفاصيل عن بدايات تشكل مستعمرة تل أبيب والحياة في داخلها. وآكشورا مؤرخ وسياسي تركي، وهو من مواليد روسيا، وغدا لاحقا أهم منظري القومية التركية ومؤسسيها، وشغل عدة أدوار مهمة في دائرة أتاتورك بعد إعلان الجمهورية.
اللافت في هذه الرسائل أن ما دفعه لكتابتها هو حدث استقلال ألبانيا عام 1912. فعشية الحرب العالمية الأولى، يبدو آكشوار قلقا مما تعيشه البلاد، خاصة إن كان شاهدا على ما حدث في ألبانيا، ولذلك كتب يقول في الرسائل الأولى «ما زلت غاضبا لأنني لم أكتب ما رأيته في ألبانيا، إذ حتى لو كتبت، سيبرز غاضبون مني وشاتمون لي كما برزوا حين كتبت عن طرابلس الغرب» وربما هذا الشعور، هو الذي دفعه في هذه الرسائل لأن يبدي نقدا حادا للأوضاع العثمانية.
عند وصوله لبيروت، كتب رسالة للجريدة ومما ذكره فيها أن المدارس الإسلامية بدت له مجرد كتاتيب قديمة للذكور، باستثناء مدرسة ثانوية عربية تسمى الكلية العثمانية، في المقابل بدت مدارس الإرسالية الأمريكية أكثر رقيا وتطورا، ولذلك وصف لنا في رسالة أخرى مشهد الكلية الأمريكية من الداخل، فالطلاب كما يقول ليسوا كسرب من الجنود في الثكنات حال المدارس الفرنسية والعثمانية، والمجمع أشبه بمدينة متحضرة للغاية، والفصول الدراسية تشبه تلك الغرف الدراسية في المنازل، وهناك غرف منفصلة لمن يريد الخروج والتحدث واللعب والضحك، وكل شيء مثالي ونظيف. كما يؤكد أنه لا بد من أن يغدو هذا المجمع قدوة لبيروت وسائر المدن الشرقية، فهنا لا يحاولون تعليم الكلمات والأخلاق الميتة وحشوها في أذهان الطلاب، بل يحاولون بناء الإنسان وتربيته. ولأن كيشورا بدا ناقما على واقع العثمانيين، وبالأخص بعد خسارة ألبانيا، ولذلك يؤكد في رسالة له أخرى في الصحيفة أنه على العالم الإسلامي والأتراك والتتار أن يجتهدوا في هذا العالم اجتهادا صادقا ليقلصوا الفجوة الكبيرة بينهم وبين العالم المسيحي، فليس استقلالهم السياسي وحده ما سيتعرض للخطر، بل استقلالهم الثقافي كذلك. كما يدعو في رسالة أخرى بتاريخ 7 أيار/مايو 1913 الصحف اليومية الكبرى في إسطنبول إلى ضرورة إرسال مراسل إلى سوريا، إذ يحتمل كما يذكر عند اكتمال طرد الأتراك من أوروبا، أن تكون القضية العربية هي إحدى القضايا التي ستبرز إلى الواجهة. ومما يذكره في هذا السياق أيضاً أن المثقفين وموظفي الخدمة المدنية من الأتراك الذين يعيشون في إسطنبول، وحتى أولئك الذين يشغلون مناصب عليا، ويملكون رأيا في إدارة البلاد، لا يهتمون بالموضوع الاهتمام الذي يستحقه. فهم لم يفهموا، ولم يعرفوا القضايا الألبانية والمقدونية جيدا حتى جرى حلها.
يوسف آكشورا
الخطر اليهودي في فلسطين
وبموازاة القضية العربية، نراه في رسالة لاحقة بتاريخ 22 حزيران/يونيو 1913، يروي تفاصيل عن رحلته إلى فلسطين، وما سماه بالخطراليهودي. فبعد أن انتهت رحلته في بيروت، سار قدما نحو مدينة يافا الفلسطينية، وهناك عثر على شارع قريب من سوق المدينة، وقد بدا له واسعا وقذرا بعض الشيء، وعلى جانبيه بنيت بيوت حجرية ذات طابقين مغبرة حال لونها إلى الترابي، وفي أسفل تلك البيوت ثمة حدادون ومحلات ساعات وملابس، ترفع لافتات باللغة الروسية والألمانية، وهناك رجال يهود مسنون محدودبون يرتدون ثيابا طويلة. وفي الرسالة ذاتها يكتب آكشورا (آقجورا) أنه لم يبق أحد وإلا سمع عن حقيقة مفادها، أن اليهود بدؤوا منذ عدة سنين الهجرة من أوطانهم إلى فلسطين، وعن محاولاتهم إنشاء مركز لهم، ويطلق على اليهود الداعمين لهذه الحركة بالصهاينة، وعدد الأشخاص الذين يعرفون بوضوح ما يكمن في ظل الصهيونية قليل جدا في تركيا، وليس بأكثر منه في الأنحاء الأخرى، فمرة طرحت أسئلة حول الصهيونية في دوائر إسطنبول السياسية، وردا على ذلك أجاب الصدر الأعظم حقي باشا: «الصهيونية خيال بعض الشباب خفيفي العقل. يخدعون أنفسهم بتحقيق حلم سخيف، حّد أن جميع اليهود ينظرون إليهم نظرات استخفاف وازدراء» لكن هذا التصريح بدا لأوكشارا غير كاف، ولأنه كان في زيارة لفلسطين، لذلك قرر التعرف أكثر على وضع الحركة الصهيونية. كان قبل سفره لسوريا قد تواصل مع عدد من الصهاينة في إسطنبول. أحدهم كان المحامي اليهودي نيفاه أفندي صاحب المعرفة العميقة في القانون العثماني، الذي أعطاه رسائل توصية موجهة إلى خمسة أو ستة أشخاض في المجمع الصهيوني في يافا والقدس.
داخل تل أبيب
واعتماداً على رسائل التوصية هذه، زار بلدة تل أبيب، التي تبعد قرابة نصف ساعة شمال يافا. يكتب آوكشارا، عندما وصلت للبلدة بدت لي «لا تختلف قيد أنملة عن أنظف وأجمل وأغنى المدن الصغيرة في سويسرا. ويا للعجب، فقد بنيت هذه البلدة منذ خمسة أعوام أو ستة فحسب». ويكمل وصفه للبلدة، فيقول «أنا في أحد شوارع المدينة الكبيرة، ويبلغ عرض الشارع نحو خمسة وعشرين مترا أو ثلاثين مترا. ورصفت على كلا الجانبين الأرصفة الكبيرة المصنوعة من الإسمنت برمل أحمر ناعم جميل.. والبيوت من طابق أو اثنين بنيت من الحجر بطراز يذكرنا بالمنازل الروسية». وكان الشباب في داخلها يعتمرون قبعات من حصير ويرتدون قمصانا روسية مشدودة بأحزمة سوداء عريضة عند الخصر، وهناك متاجر في أسفل بعض البيوت، وغالبية اللافتات مكتوبة باللغة العبرية.
التقى آكشورا الطبيب حسين، أحد مديري المدارس هناك، والذي حدثه عن قصة إنشاء هذه المستعمرة، وكيف أن من قام بانشائها كانوا في الغالب من الفقراء اليهود، وأن البنوك اليهودية والأثرياء اليهود لم يساعدوا في أي شيء، لكن أكثر ما توقف عنده في كلام الطبيب هو قول الأخير بأن العرب واليهود قبيلتان ولدتا من صلب زوجتي النبي إبراهيم اللتين لم تستطيعا التعايش معا، وما زالوا يتقاتلون منذ آلاف السنين، كما أشار له الطبيب عن اعتقاده بأن العرب البدو هم يهود في الأساس، «هم جميعا يهود قدماء روي عنهم ونقلت حكايتهم في التوراة المقدسة. قبل 15 عاما سافرت إلى ديار البدو ودعيت إلى خيامهم، ورأيت بأم عيني ترحيبهم البالغ.. كما روي عنهم في التوراة تماما.. وكأني أعيش في زمن النبيين إسحق وإبراهيم، لم تتغير الألوان، الأسود والأبيض يرتديها البدو حتى الآن وما يزال يهودنا أيضا يرتدون شالات من الحرير الأسود والأبيض على رؤوسهم عندما يصلون».
وعن علاقة هذه المستعمرة بالسلطات العثمانية، يلاحظ آكشورا أن يهود المستعمرة تمكنوا من خلال علاقاتهم الجيدة مع الموظفين العثمانيين (وعبر الرشوة مثلا) من أن يحافظوا على استقلالهم، دون أن يتدخلوا في شؤونهم، حتى إن القائممقام قال لهم «لماذا، تكافحون عبثا، لا أحد يلزمكم بشيء هنا، لذا استمروا في العيش كما اعتدتم» ولذلك فقد كانت لديهم لجنة خاصة، وحراس وبلدية. وعن حياة المستعمرة، يشير إلى أنه ليس هناك أراض في تل أبيب للزراعة، أو برتقال، على الرغم من قربها من يافا، وأنهم كانوا يعملون فقط في تعليم أطفال المستعمرات الأخرى؛ إذ ذهب جميع الأطفال من المستعمرات الأخرى في فلسطين إلى مدارس هذه البلدة من أجل تحصيل التعليم الثانوي، خاصة أن اليهود لم يمتلكوا، وفق ما ذكره له الطبيب أي مدارس ثانوية أخرى في فلسطين، باستثناء مدارس فنية في القدس ويافا، ولذلك يرسل اليهود أطفالهم الذين يعيشون في أماكن مثل اليمن وبغداد ومصر. وهناك عائلات ترسل أطفالها من روسيا وحتى من أوروبا لكي يتعلموا لغتهم القومية العبرية، ولعل ما يدعم كلام الطبيب هو لقاء آكشورا بشاب يهودي يمني. ويعلق على هذا الوضع بالقول «تبدو السياسة في أنحاء العالم جميعها هي «سياسة المدرسة» وهي السياسة التي يطبقها اليهود أيضا، فهم يبنون المدارس بغية الاستيلاء على فلسطين، وتحقيق هدف الصهيونية بأي معنى كان». وبالتالي ما أردا قوله في نهاية رحلته للبلدة، أنه وخلافا لحالة اللامبالاة التي أبداها بعض سياسيي إسطنبول من مشروع الصهيونية في فلسطين، فقد بدا له أن هذا المشروع ماض في تحقيق أهدافه، فما الذي يمنع شعبا كما يقول في عام 1913 «أنشأ مدينة (تل أبيب) من أن يبني مدنا أخرى، ثم يبني ولاية، ثم ينشئ دولة في غضون سنوات معدودات؟».
رسائل يوسف آكشورا: رحلة مؤرخ تركي إلى يافا عام 1913!!
بقلم : محمد تركي الربيعو ... 30.12.2023