يلاحظ في السنوات الأخيرة، داخل المكتبة العربية، ظهور موجة من الكتابات التي تتناول تاريخ مدن الخليج العربي، في فترة ما قبل ظهور النفط. النفط الذي لعب دوراً في إعادة تشكيل المجال العام في بعض هذه المدن، وبالأخص على صعيد مفاهيم الدين والجنوسة. وهناك من يفسّر إعادة النظر في ذاكرة مدن الخليج بعدة أمور: الأول يتعلّق بموجة من الحنين يشعر بها جيل من المثقفين الخليجيين حيال ما عرفه هذا الفضاء، من تغيرات ثقافية واجتماعية.
أما العامل الآخر، الذي لا يقلّ أهمية في موجة الذاكرة هذه، يرتبط بالقلق الديموغرافي الذي تعيشه هذه المدن في ظل تزايد أعداد العمالة الأجنبية. إذ بات لها دور في رسم مشهد آخر عن هذه المدن، وبالأخص في الأقسام القديمة منها. كما أنّ هناك تفسيرا يتعلق بالأحداث السياسية التي شهدها العالم العربي بعد 2011، التي امتدت آثارها نحو بعض بلدان الخليج مثل البحرين. فقد شهدت البحرين موجة من الاحتجاجات في عام 2011، ما خلق لاحقا حالة من الصراع الكتابي على المدينة بين الجماعات الأهلية. وهذا ما نراه مثلا من خلال نشر بعض المجموعات المعارضة (مركز أوال البحريني في بيروت) لسرديات وجمع أرشيف غربي حول هذا البلد، تخالف أحياناً السردية الرسمية التي تنفي البعد الكولونيالي والإقليمي في مسار تطورها، ولذلك بات الصراع في هذه البلدان، في ظل الصراع السياسي، يُخاض أحياناً في ساحة الذاكرة والتاريخ. وبالعودة للعامل الأول، أي تسجيل ذاكرة الماضي كمادة للحفاظ على هوية المدن، وأيضا لإعادة كتابة التاريخ الاجتماعي، يمكن أن نتوقف عند الإسهامات التي يقدمها مركز البحوث والدراسات الكويتية. فقد نشر عددا من الكتب الجادة التي تناولت وكشفت عن مصادر جديدة لدراسة التاريخ الكويتي الحديث. مثل الكتب التي اعتمدت على رسائل بعض التجار (محمد السديراوي، فهد الخالد) لفهم صورة النشاط الاقتصادي والاجتماعي الكويتي في بدايات القرنين التاسع عشر وبدايات القرن العشرين.
ومن بين الكتب الجديدة التي أصدرها المركز مؤخرا كتاب طريف بعنوان «نداءات الباعة والصغار في الكويت القديمة» للمؤرخ الكويتي يعقوب يوسف الغنيم. ويدوّن الكتاب بعض العبارات التي كان الباعة في أحد أسواق الكويت القديمة يستخدمونها لتصريف بضائعهم. وربما يذكّرنا عنوان الكتاب بعناوين مشابهة انشغل عدد من الكتاب والباحثين السوريين بالبحث بها، ومنها كتاب «طريف النداء في دمشق الفيحاء» للطبيب الدمشقي قتيبة الشهابي. وقد أشار الشهابي في مقدمة كتابه إلى أنّ نداءات الباعة قد شكلت في النصف الأول من القرن العشرين شارة لسانية للتعرف إلى ما يبيعه أصحاب المحال، كما وظفت أحيانا كغزل مبطن لفتاة جميلة، أو لإهانة شخص غير محبوب يمر أمام البائع.
وفي حالة نداءات الباعة الكويتيين، يبدو مؤلف الكتاب متنبها لهذه النقطة أيضا. إذ يدرك أهمية تذكر الأصوات في أحد أسواق الخضرة الكويتية القديمة خلال الخمسينيات، بوصفها تعبر عن حياة المجتمع الكويتي في زمن مضى. كان الناس يستمعون كل يوم إلى أصوات متعددة ومتنافرة داخل الأسواق، تدعو إلى أشياء كثيرة، وتسهم في إثارة حركة البيع والشراء. ولأن البائع يريد أنّ يتخلص مما أمامه من بضائع، يكثر من الإلحاح في النداء رغبة منه في أن يلفت أنظار مرتادي السوق.
وفي داخل سوق الخضرة، الذي درسه المؤلف، كان هناك باعة الخضار والفواكه والحلويات، وبعض النسوة اللاتي كن يجلسن لبيع بعض أنواع الخضروات الورقية. أما المهم في هذه النداءات أنها تكشف عن مستويات متعددة من العلاقات بين الكويتيين والمحيط المجاور لهم (إيران مثلا). إذ تكشف بعض عبارات الباعة عن وجود علاقة شبه يومية بين أسواق الكويت وبعض المدن الإيرانية في الخمسينيات. فمثلا هناك من الباعة من كان ينادي على العنب بالقول «بهمشيري يا عنب» وهو نوع من العنب حلو المذاق، منسوب إلى منطقة بالقرب من مدينة عابدان الإيرانية. ونداء «تنكسيري يا بصل» فيخص نوعا من البصل الوارد من منطقة تنكسير الإيرانية. ومن نداءات الباعة التي كان ينادى بها على البطيخ «فريدوني يا بطيخ» في إشارة للبطيخ الأصفر.
أصوات الطعام
وبالانتقال إلى بائعي الحلويات نعثر على عدد من النداءات التي تكشف أيضا عن انتقال المذاق وحركته بين مدن الخليج. فهناك من كان ينادي بالقول «حلواي مسقط بخصم اللوري» في إشارة لحلوى مسقط التي كانت مشهورة بجودتها وحب الناس لها، منذ كان البحارة الكويتيون يجلبونها معهم للإهداء عندما يأتون من تلك البلاد. وأما البخصم فهو نوع معروف من المعجنات، يتكون من عجين طحين القمح يجهز على هيئة قطع مستطيلة تدعى الواحدة بخصمه، وتؤكل مع الحليب. كما تكشف نداءات الباعة عن بعض الأكلات التي كان الكويتيون يتناولونها في الخمسينيات والستينيات. ومن بين هذه النداءات تلك التي تتعلق بتناول الجراد. وكان الناس يصطادونه ويأكلونه في مواسم انتشاره، بعد أن يُغلى بالماء والملح. وهناك من كان يبيعه، فيجلس في أحد أركان الحي ومعه ميزان، منادياً على بضاعته بقوله «يراد ومكن.. دخانه يفوح» واليراد هو الجراد والمكن الأنثى منه، وقوله دخانه يفوح دليل على أنه طازج. وكان هناك بائع الباقلاء/الفول، الذي يطهو المقدار الذي يقدر على حمله في بيته، ثم يحمله في قدرين يضع كل قدر منهما في وعاء من الخوص ويعلقهما بالحبال من طرفي عصا غليظة، ثم يسير بحمله هذا وهو ينادي على بضاعته «باجله (باقله) حار.. باجله حار».
سيرة الأصوات
لاحظ المؤرخ المصري زياد فهمي، في كتابه «أصوات الشوارع: الاستماع إلى الحياة اليومية في مصر الحديثة» أنّ غالبية المؤرخين الذين درسوا تاريخ الحداثة والسلطة (ومن بينهم فوكو) ركزوا على الجانب البصري للسلطة، بينما أهلموا في المقابل جانب السمع وأصوات الناس في الماضي، وكيف أعادت مؤسسات السلطة ونخب الطبقة الوسطى قمع بعض هذه الأصوات لصالح أصوات أخرى. ونرى بعض ملامح هذه الفكرة في كتاب المؤرخ الكويتي الغنيم، الذي يكشف لنا في سياق تتبعه لبعض النداءات كيف كانت السلطة تشارك في إعادة رسم مشهد الأصوات داخل الفضاء العام. إذ يذكر مثلا ظهور باعة متجولين في خمسينيات القرن الماضي، جاؤوا إلى الكويت من أجل العمل، وعندما لم يروا بابا مفتوحا لذلك، ابتدعوا بدعة كانت مؤذية للشاعر الكويتي صقر الشبيب. فقد استعمل هؤلاء الباعة عربات تدفع باليد أو يجرها حمار فوقها صهريج يملؤونه بالكاز، ثم يمرون على البيوت كلها وهم ينادون، ويضاف إلى ندائهم صوت جرس عال إذا دقوا عليه ظهرا حرم الناس نوم القيلولة، وممن ضاق بهذا الجرس الشاعر الكويتي، ما دفعه إلى كتابة قصيدة تقول «يؤذي ويزعج إيقاظا تمر بهم.. ويطرد النوم من عين الذي نعسا».. ليطلب في نهايتها من مدير بلدية الكويت منع هؤلاء الباعة من استعمال الأجراس، فاستجاب له المدير وأصدر أمره بمنعهم. كما نشهد من هذا المنع، منع الرجال من المشاركة في نداءات واحتفالات القرقيعان، ما يظهر أنّ السلطة مشاركة أيضا في عملية مراجعة أصوات الفضاء العام والحد من بعضها. ولو أنّ صاحب الكتاب ركز على فكرة فهمي حول أصوات الشارع وإعادة تحديدها، ربما لكان قدم لنا تفاصيل أكثر حول موضوع الحد من بعض نداءات الباعة، وكيف كانت الصحف والنخب آنذاك تصف هذه الحالة (مثلما فعل فهمي).
ويبدو أن الأصوات لم تتعلق بالباعة الرجال فقط، بل نعثر من ضمن النداءات على نشاط النساء الغنائي، الذي قامت به الفرق النسائية الفنية. وكان يتم في الأحياء (الفريج) عن طريق المرور على البيوت، وتقديم أغان معينة أمامها. وتقف الفرقة أمام أبواب مساكن مختارة، تظن أنّ أصحابها سيقدّمون المكافأة المناسبة، وهن يرددن عبارة «جيناك يا بيت.. الكبير العالي». الطريف أيضا في هذه الكتاب، الفصل الذي خصّصه المؤلف لنداءات الأطفال، ومن بينها الأصوات المرافقة لطقوس القرقيعان في شهر رمضان. وتتمثّل في قيام الصغار من أولاد وبنات بجولات على منازل جيرانهم أو أقاربهم بنداء معين تقدمه كل فئة من هاتين الفئتين، فيحصل الصغار نتيجة لهذه الجولات والنداءات على مجموعة مختلفة من المكسرات التي تسمى القرقيعان. وكان بعض الرجال يمارسون هذه العادة، ويطوفون على المنازل لأجل جمع ما يتيسر لهم من القرقيعان، لكن يبدو أن بعضهم استغل هذا الطقس لغايات أخرى، ولذلك تم منعهم رسميا من ممارسة هذا الطقس. ويبدأ الطقس منذ انتهاء الناس من تناول طعام الإفطار، ويستمر عدة ساعات، وفيه يطرق الأولاد باب الجيران وهم ينادون:
سلم ولدهم يا الله.. خله (احفظه) لأمه يا الله
وهذا ما يضمن لهم الحصول على الحلويات والمكسرات.
ويبقى أن نشير إلى أنّ كتاب الغنيم يمثّل مدخلا مهما لتسجيل أصوات الناس في مدينة عربية خليجية، بما يفتح الباب أمام الباحثين لمزيد من التدوين لهذا الجانب، وبالأخص مع قدوم موجة من العمال الأجانب، الذين ساهموا، بلا شك، في إعادة تشكيل مشهد الأصوات في هذا الكويت والخليج عموما.
«فريدوني بطيخ»: أصوات الباعة والصغار في كويت الماضي!!
بقلم : محمد تركي الربيعو ... 29.01.2023
*المصدر: القدس العربي