"جرار الضوء" تتميز بالعمق الوجداني للإنشاد الشعري والرؤية الشعرية بلغة القلب الفياضة حنينا واشتعالا بنار الإبداع المتقد بجمر الحياة.
صدر عن أكاديمية الشعر بأبوظبي مجموعة شعرية بعنوان "جرار الضوء"، للشاعر اللبناني محمد غبريس.والمتأمل في مجموعته الجديدة سيقف عند ميزة العمق الوجداني للإنشاد الشعري التي تتسم بها، ذلك أن الذات الشاعرة اختارت التعبير عن الأحلام والهواجس والحب والوطن، والرؤية الشعرية بلغة القلب الفياضة حنينا واشتعالا بنار الإبداع المتقد بجمر الحياة. هذه الحياة هي الكتاب المفتوح على المعيش اليومي بأبعاده الوجودية، وعلى الأسئلة المرتبطة بالكينونة حيث يقول: لا تسألوني/ كم مضى من عمرك المبتل/ بالأحلام/ إني الآن/ أسبح في خيالات الثلاثين التي تقتادني/ للبوح والذكرى.
فالذات، وهي في حالة شعرية، تقرّ بعدم جدوى السؤال، فالحياة مليئة بالأحلام، وما على الإنسان إلا مراودة الخيال لنسج حكايا البوح الذي يستقي طاقته التعبيرية من الذكريات باعتبارها تاريخ الذات، وتجربة حياة، هذه التجربة التي يتمّ صوغها شعريا عبر لغة الطفولة النابضة بالنشيد والحكاية، وبالولادة والديمومة أيضا.
وعليه فعاطفة البوح مصدرها الأنثى، الشيء الذي فرض على الذات الارتباط بالأم التي تشكل بؤرة الحياة في رؤية الشاعر، فهي النهر المتدفق عاطفة، والنسمة الأولى والطبيعة في تجلياتها المتعددة. غير أن هذا البوح لا يقتصر على الأم بقدر ما تجنح الذات الشاعرة إلى معانقة الآخر المتجسد في المحبوبة التي تعتبر منبع الطهر والصفاء والكينونة،يقول محمد غبريس: تعالي/ يا معذبتي كفاك/ رحيلا/ من يداويني سواك؟
إن الذات تكشف عن نقصان الكينونة الناجم عن غياب الآخر/ المرأة بلغة الأنين والحنين التي تجسدت حروفا وقوافي تنضح بالعشق وبالوحي، أي أنها الوحي الذي يُسْتلهم لكتابة تجربة شعرية فياضة بباطن الروح. فالذات تظل ظامئة للحياة جراء الهجر والبعاد، مما يزيدها معاناة وتحفيزا للغوص عميقا في الكوامن، غير أن الصورة ستعرف انزياحات في القول التعبيري إذ تغدو هذه المرأة رمزا للمقاومة والتحدي يقول الشاعر: أشبعوك المر/ من كأس جورهم/ وآذوك عمرا/ في جحيم التشدد/ صنعت من الأغلال جسرا/ فما انحنى جبينك.
فالذات الشاعرة؛ ذات راغبة في البوح الكاشف عن رؤية شعرية، منبثقة من عمق الشعور بأهمية صياغة الحياة شعرا نابضا بالغناء والألحان الموقِّعَة لأناشيد الروح، وهي تسمو نحو الأعالي بغية الصفاء والوجود، فبالرحيل والبعد تحقق الذات وجودها، من خلال الاستحضار أو تداعيات الذاكرة، فالغياب دليل الحضور يقول: وأنت مضيت في درب البعاد/ وظل صوتك عالقا بدمي.
يسعى الشاعر محمد غبريس إلى خلق شعرية مكمنها الحب كتيمة تعبيرية وجمالية تصطبغ بها التجربة الشعرية، والطبيعة كمصدر للحياة. فالتغني بالطبيعة والحب لا قيمة له في غياب المرأة فبحضورها يتم التعبير عن الكينونة يقول: تغنى الحب يوما بدا/ ضياء رؤاك محتشدا/ كأنسام الربا فجرا/ كلحن الطير حين شدا.
فالملح الرومانسي حاضر بقوة في المتن الشعري، إذ الاحتفاء بالطبيعة ما هو إلا احتفاء بالعمق الإنساني الكامن في البوح والإحساس بجدوى الحياة. فالطبيعة صنو المرأة وبالتالي فكلاهما لقنا الشاعر الكيفية التي بها يخاطب آلهة الحب بلغة الباطن يقول غبريس: إنني الآن في الأربعين/ وأنت كما أنت/ مازلت/ تلك الفتاة التي لا تنام/ لتكمليني/ كما نقص العمر/ مع فارق الزمن.
كينونة الذات الشاعرة ناقصة بغياب المرأة، وكمالها مرتبط بالحضور. هذه الفتاة التي ظلت متصفة بصفة الثبات، من حيث الحفاظ على وجودها في الذاكرة والقلب، تشكل جوهر هذا البوح، فثنائية الغياب والحضور سمة من سمات القلق والتوتر التي تميز التجربة الشعرية عند الشاعر محمد غبريس، وهو الشاعر المتقد حياة واعترافا، إبداعا واحتراقا، من أجل صوغ رؤية شعرية منبعها الباطن، ومتخيل طافح بينابيع ثقافية فكرية. ذلك أن البوح لا يدل على تعبير مجاني عن العاطفة، بل ناتج عن عمق في التصور لكتابة شعرية ملتصقة بالموروث الشعري العربي قديمه وحديثه، وهذا ما وسم التجربة بالثراء، والانتقال من قصيدة الأشطر إلى نصية أسطرية: كل شيء بي ناقص/ ومضاف/ من سوانا، أنا.
وعليه تشكل المرأة محور العملية الإبداعية في هذه التجربة، ومقوما من مقومات شعرية البوح التي يبدعها الشاعر، فالكمال الوجودي لا يتحقق بعيدا عن غياب العنصر الأنثوي، بقدر ما يسهم في تشييد عوالم شعرية الحلم والحب والعشق.
لكن هذا لا يعني أن الشاعر يتخذ هذه الثيمات للهروب من الهم الجمعي، وإنما التجربة تقوض هذا الحكم، ذلك أن الذات منغمسة في الوعي الجمعي، حيث نعثر عنها رهينة قفص الواقع، أسيرة الأحداث والوقائع، والتحولات الراهنة التي يمر منها المجتمع العربي يقول: إني أنا العربي/ أسكن بين عاصفتين/ أمتشق السيوف الراعفة/ أتنفس العبرات/ أشعر بالليالي/ ولا تكف عن التخبط بي/ كأن قصائدي قفص.
فالإقرار بالاحتراق والمكابدة جلي واضح في هذا المقول الشعري، وبلغة شعرية بسيطة رغم جسامة الخطب والانكسارت والخيبات التي تكالبت على الذات التي تتكبد المنافي، إذ الذات الشاعرة تعبر عن جوهر المحنة التي تلازمها ومن ثم تحولت القصيدة إلى أسر يكبل رغبة الشاعر في البوح.
فالأرض ضيقة والمنافي شاسعة، والعذاب شوك يدمي الذاكرة ويحول التاريخ إلى نزيف أبـدي، ومـن ثـمّ تبقى الـذات رهينـة هذا الـواقع، لكنها تجنح نحو البوح المشتعل شعرا يفيض محبة واعترافا كي تداوي الجراح وتخفف من الألم السرمدي المصاحب للذات الجماعية.
إن شعرية البوح ميسم التجربة الشعرية عند محمد غبريس سواء في ديوان “جرار الضوء” الـذي تنـاولنـاه أو فـي الديـوان الثاني “أحـدق في عتمتهـا” ممـا يـدل على أن الــرؤية الشعرية عميقة في أبعادها الموضوعاتية والجمالية، والأكثر من هذا جعلت التجربة مفتوحة على تآويل قراءاتية متعددة.
محمد غبريس يرسم صورة الأرض الضيقة والمنافي الشاسعة!!
بقلم : صالح لبريني ... 28.01.2016
المصدر : العرب