هذا الحوار أجرته الصديقة رشيدة الشارني القاصة والروائية التونسية ، ونشر في صحيفة ( الشعب) التي يصدرها الاتحاد التونسي للشغل، والحوار نشر بتاريخ 22 حزيران 2017:
سؤال 1: صدرت لكم رواية ( وداعا يا زكرين) ، وقد عدتم فيها إلى الماضي، ووثقتم من خلال قريتكم زكرين إلى بداية التسلل الصهيوني إلى فلسطين . هل تعتقدون أن إحياء ذاكرة المكان والروح والوطن وجه آخر للصمود والمقاومة؟!
- المكان لا بد أن ينزرع في روح كل فلسطيني، وفي عقله، وفي ضميره، بحيث يعش فيه، ومعه، ويستمر كحقيقة راسخة، فالوطن ليس فكرة: إنه واقع حي ملموس، من تراب، وجبال، وأنهار، وتاريخ متصل لأجيال متلاحقة، تبني وتترك لمن يأتي بعدها، وهكذا.
في ( وداعا يا زكرين) ، كما رأيت، لم تقع الهزيمة_ النكبة مصادفة، بل جاءت نتيجة لأسباب تراكمت على امتداد قرون غُيّبت فيها أمتنا عن الفعل، و( عاشت) حياة موات، طيلة أربعة قرون من التحكم العثماني الذي استبد بأمتنا العربية، وحذفها من التاريخ، وجعلها جغرافيا ميتة، يغرقها التخلّف والجهل، وبشرا خارج مسار الحضارة والتقدم والتطوّر.
عندما هُزم الرجل المريض_ الإمبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى، انقضت دول الغرب الاستعماري: بريطانيا وفرنسا، فوضعت يدها على المشرق العربي، وتقاسمته باتفاقية سايكس- بيكو، واستعملت ( العرب) – ما سُمي بالثورة العربية_ في المشرق وسيلة لتصفية الحضور العثماني..ثم استولت على وطنهم ومزّقته، وجعلته دولاً.
التقت مصالح بريطانيا مع الحركة الصهيونية، وبدأ التسلل الصهيوني إلى فلسطين بغطاء بريطاني، واستفحل تحت( الانتداب) البريطاني الذي عمل على تنفيذ وعد ( بلفور).
لم يسكت الشعب العربي الفلسطيني: هبّات، انتفاضات، ثورات أهمها ثورة 1936-1939 والتي تم إنهاؤها بنداء من ملوك وحكام الدول العربية ثقة بالصديقة بريطانيا!!
نكبة العرب في فلسطيني لم تقع بالصدفة، بل هي نتيجة لعوامل أدت إلى وقوعها.
هذا ما تقوله روايتي بالوقائع، وهي تبدأ منذ 1918 وتنتهي في عام النكبة 1948 .
لم أقدم مقولات وبيانات سياسية، بل قدمت حركة مجتمع متخلف يقاوم بأقصى طاقته، في حين تتآمر عليه كل العوامل المحيطة.
السؤال 2 : في روايتك ( سأرى بعينيك يا حبيبي) تثير بقوة سؤال الهوية: هل الحنين إلى عهد البداوة، واختيار العيش على حافة الوطن يخفي قلقا حقيقيا من التلاشي، وفقدان قيمة الانتماء؟
سؤال الهوية مطروح في الرواية بقوة، وأنبه أنه مطروح بالنسبة للفلسطيني المغترب بعيدا في الغرب، وهذا الفلسطيني يعاني من تخلف مجتمع عربي مشرقي ( بدوي) في طور الانتقال من البداوة إلى المدينة، ويعاني من التمزق، وهنا يأتي دور الفلسطيني، الذي ينطلق من أن قضيته في صلب تحولات المجتمع، وأن التعليم هو اللبنة الأساسية في التغيير، وبخاصة للمرأة..وسلمى الفلسطينية تقوم بهذا الدور.
الحب في الرواية يواجه التخلف، ويتحوّل إلى فعل تغييري، والحب هنا قيمة حضارية تغييرية، وليس مجرّد عواطف مائعة رومانسية.
السؤال 3 : من بين أسباب نقمة الشعوب العربية على حكامها قبل( الربيع العربي) تخاذلهم أمام الاعتداء الصهيوني، إلى أي حد ألهت اليوم موجة الثورات العربية الشعوب العربية عن القضية الفلسطينية؟
لم تكن الأنظمة العربية يوما جادة في مواجهة العدوان الصهيوني الذي يحتل (كل) فلسطين، والجولان، وسيناء رغم اتفاقية (كامب ديفد). الجماهير العربية خبرت الأنظمة، وهي تعرف تقاعسها، وتآمر بعضها، والقوى الواعية ربطت بين استبداد الأنظمة وتبعيتها وتواطؤها على القضية الفلسطينية.
ما سمي بثورات( الربيع العربي) – وانأ كتبت كثيرا في الموضوع، تاهت مبكرا عن طريقها، بسبب غياب القيادات، والافتقار للخبرة، وعدم تحديد الأهداف، ومنها رفع راية فلسطين عاليا في مواجهة القوى التابعة، والقوى الرجعية، والقوى التي لعبت بعقول الجماهير..وقفزت على حراكاتها.
أحيانا ارتفعت شعارات تنحاز لفلسطين، تحديدا في الحراك التونسي الشعبي العارم، وبعد سقوط بن علي تواصل رفع هذه الشعارات..ثم حدث هبوط في الشارع، وارتباك، ويأس بسبب سرقة _ والسطو، على الحراكات الشعبية التي طالبت بالعيش الكريم، والشغل، والكرامة الإنسانية.
ستستيقظ الجماهير العربية على جريمة تغييب القضية الفلسطينية بعد قفز بعض القوى على الحراكات، ففلسطين هي التي تكشف من هي القوى التابعة والمتواطئة و..القوى الجذرية المخلصة التي تربط بين أعداء أمتنا العربية والصهيونية وقوى الرجعية والظلام التي فرّخت الإرهاب في بلاد العرب مشرقا ومغربا.
سؤال 4: لديكم كتاب جديد بعنوان ( في مواجهة الإرهاب): كيف تنظرون إلى هذه المسالة المحيرة التي دمرت دولاً، وتسعى إلى بث الرعب في العالم؟
هذا الكتاب يضم بعض كتاباتي حول تفشي الإرهاب في بلاد العرب مشرقا ومغربا.
الإرهاب كان ( ثاويا) في استبداد دول الفساد، ونفاقها تجاه الدين..وهي غير متدينة، بل لا تؤمن بشيء سوى بمصالحها، ولا تحرص سوى على تبعيتها، فهي محمية أمريكيا، وضمنا لا تعادي الكيان الصهيوني.
السادات أدعى أنه مؤمن، وعقد اتفاقية كامب ديفد مع الكيان الصهيوني، وأدار ظهره للأمة العربية، وعقد تحالفا مع ( الإسلامويين) في مواجهة قوى اليسار، وهكذا زرع بذور الفتنة والشقاق في المجتمع المصري، وشجّع على التطرف، ومن تركوا المجال للجهلاء ليستولوا على ( المسجد) فتحوا المجال لتفشي فكر الإرهاب والتكفير..مشرقا ومغربا!
يجب تحرير المسجد من الجهلة، ودعاة التكفير، وناشري ثقافة القتل، ورفض ( الآخر) .
لا بد من تحقيق المساواة في( المواطنة) لجميع نساء ورجال الوطن، وسيادة القانون، وحرية الصحافة، وتحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة في الفرص..فرص التعليم، والعمل، والعيش بكرامة..والمواطنة، وإلاّ: فما هي المواطنة، وما هو الانتساب للوطن؟!
سؤال 5: رافقتم إضراب الأسرى الفلسطينيين عن الطعام بمقالات ومواقف شجاعة، فهل تعد معركة الأمعاء الخاوية وسيلة جديدة للمقاومة؟
معركة الأمعاء الخاوية ليست جديدة، فالأسرى الفلسطينيون خاضوا إضرابات كثيرة جماعية، وفردية، وبعضهم انتزع حريته الفردية بالإرادة..بالجوع حتى الوصول إلى حافة الخطر..الموت! فشعارهم: الموت أو الحريّة.
الاحتلال الصهيوني يضع شعبنا الفلسطيني كله في ( الأسر) سواء أهلنا في فلسطين المحتلة عام 1948، أم في فلسطين التي احتلت في حزيران 1967..يعني في كل فلسطين. تصوري أن أكثر من مليون فلسطيني دخلوا سجون الاحتلال منذ العام 67؟! منهم الطفل، والمرأة، والشاب، والعجوز..ومع ذلك تتصاعد مقاومة شعبنا للاحتلال.
الأسرى لعبوا دورا هائلاً في تعميق مقاومة شعبنا، وأدوا دورا كبيرا في الانتفاضتين، وفي الهبات، وفي قيادة الشارع الفلسطيني بعد أن ( أُخرجوا) في صفقات ( التبادل) مع جنود العدو الأسرى..يعني أفرج عنهم بالقوّة.
الإضراب الجديد جاء في فترة انقسام بين سلطتي رام الله وغزّة. وفي فترة تتدافع فيها بعض الدول العربية ( للتطبيع) مع الكيان الصهيوني، وفي فترة سعار سياسة الاستيطان ونهب أرض الضفة الفلسطينية، وتهويد القدس، ذلك أن الكيان الصهيوني لم يكن يريد سلاما حين وقع مع القيادة الرسمية الفلسطينية على اتفاقيات( أوسلو) في البيت الأبيض الأمريكي.
تذكرين أنني حذرت من نتائج أوسلو، ورفضت( العودة) والإقامة في ما سمي بمناطق السلطة( الوطنية)، وأنا في تونس، وقد عدت وأقمت في عمان..وزرت ( فلسطين) وكتبت ما شاهدت، وفضحت مسيرة السلام الكاذب، وحذرت من مواصلة سياسة الوهم..وقلت بوضوح: لن تكون هناك دولة فلسطينية، فكفوا عن الركض وراء السراب والوهم.
الأسرى الأبطال يفضحون من جديد عنصرية الاحتلال، وتماديه في استكمال مشروعه الصهيوني الاحتلالي الذي يحوّل العرب الفلسطينيين إلى غرباء في وطنهم، والتضييق عليهم حتى يضطرهم للرحيل من فلسطين..وهذا لن يتحقق له بفضل صلابة ووعي شعبنا ومقاومته الباسلة.
سيكون لما فعله الأسرى الأبطال ما بعده، فهو يعبّر عن غضب شعبنا، وتأجج نيران انتفاضة عارمة ستكنس ما يدبره عدونا.
سؤال 6: كيف تقيمون المشهد الروائي العربي اليوم في ضوء جوائز كبرى تكرس الرديء أحيانا؟
النتاج الروائي العربي غزير جدا، فمع تأسيس جوائز كثيرة في بلاد العرب اندفع كثيرون لكتابة الروايات، وهكذا بتنا نرى غثا كثيرا، فهناك كتاب يكتبون للجوائز، والقائمون على الجوائز يشجعونهم، ويوحون لهم بالمواضيع التي تحظى برضاهم.
هناك روايات مهمتها هجاء ، ليس الواقع العربي، بل الإنسان العربي، وهي تقوم باستشراق معاكس، استشراق ( عربي) يتساوق مع رؤية الغرب الاستشراقية للإنسان العرب كإنسان.
هذه الكتابة لا تضع الإصبع على أساب الخراب والفساد والتخلّف في بلاد العرب، فهي سطحية ومزوّرة.
أقرأ لكاتبات يعمدن للإثارة، والتلفيق، وليس لكتاباتهن صلة بالواقع، ولا بحقيقة ما تعانيه المرأة العربية، ولا بكفاحها الجدي، ومشاركتها للرجل ميدانيا في التصدي لنظم الحكم المستبدة...
وأقرأ كتابات ( تطبيعية) لكتاب يسعون للحظوة ( غربيا)، وبعضهم يمنح جوائز هي غير ذات قيمة، ولكن بالنسبة لهم تفسح لكتاباتهم بالترجمة، وبالمناسبة هذه الترجمات لا تحظى باهتمام القارئ الغربي، ولا تبيع إلاّ القليل من النسخ.
بعض الجوائز محظورة على الكتاب الذين يدعون للمقاومة، ويكتبون أعمالاً روائية جدية وجديدة، وأنت ككاتبة تعرفين هذا وأكثر منه.
تلاحظين أناكم الكبير، وفيه، روايات جيدة لا يتم التوقف عندها من لجان الجوائز.
تلاحظين أن الحركة النقدية المتابعة لهذا الكم الروائي فقيرة، لذا فالساحة فالتة، والفوضى عامة، وهي تضر بالجيد والجديد والجاد.
سؤال7: تبدو في كثير من كتاباتك ساخرا: هل السخرية وجه آخر للألم؟!
السخرية سلاح..وهذا سلاح من أسلحة الفقراء ، والمظلومون يلجؤون له في أوقات الشدّة، والاستبداد، وانغلاق الآفاق، وتجبر الحكام، فالسخرية إذا سلاح مقاومة .
تتفشى السخرية مع اشتداد الظلم، وتبدأ همسا، ثم تعلو أصوات الناس_ المواطنين، فهي تضع ( الحاكم) فردا، ومجموعة، في موقع المسخور منه، بهدف تجريده من ( الهيبة)، والأبهة، وكل مظاهر القوّة والعنجهية.
أنا ككاتب عربي فلسطيني تعلمت في مدرسة السخرية الشعبية، في المخيمات، احتجاجا على حياتنا غير اللائقة، أي رفضا لها، وهذه السخرية مهدت دائما لهبات الاحتجاجات، والتظاهرات، وفورات الغضب...
والدي كان رجلاً ساخرا، وهو أُمي، وكان يساريا، سجن وعذّب، وطورد، أذكر أنك التقيته في تونس عندما زارنا، واستمعت للهجته الشعبية المسيسة الساخرة المحتجة..والغاضبة في جوهرها.
السخرية قد تكون (مهذبة) لا تجرح الناس العاديين ولا ( الآخر) الذي نتحاور معه، وإن كنا نختلف معه، ولكنها تسدد( ضرباتها) إلى ( أوضاع) سيئة تهين آدمية الإنسان وتحط من قدره وقيمته...
السخرية ( موهبة) فليس بمقدور أي إنسان أن يكون ساخرا، لأنها غالبا تولد بالفطرة، وفي بيئة معينة، وفي ظروف معينة، ولكنها تصقل ( بالثقافة) الواعية.
السخرية في أدبنا العربي أبقت على آثار أدبية رائعة، مثل ( البخلاء)، ووجدت في الشعر الساخر الهجائي، وهي، في زمننا، ظهرت في الصحافة، وقد برز كتاب أتقنوا السخرية، فأضحكوا، وأمتعوا..وأحيانا دفعوا الثمن.
أستطيع القول بأن فن الكاريكاتوري هو التعبير الأبرز عن السخرية، فبالكاريكاتور قاوم ناجي العلي، و( مسخر) أعداء فلسطين، والمتآمرين عليها، ورفع من الروح المعنوية لشعبنا، وسلّح بأعماله المناضلين العرب، فالسخرية الكاريكاتورية سلاح فعّال..ويدّفّع الثمن لصاحبه، لفرط جديته..وانظري لاستشهاد ناجي العلي فنان الثورة ، والقضية، والمواجهة، على المستوى العربي، فهو قرن بين فلسطين وكل قضايا الإنسان العربي مشرقا ومغربا.
أخيرا: تحياتي لأهلنا في تونس، الذين عشنا بينهم، وأحببناهم، وعشقنا تونس الخضراء التي تنفسنا هواءها، وأقمنا فيها لسنوات، وسنبقى نحفظ لأهلها _ أهلنا الود والحب والتقدير، متمنين لشعب تونس الأصيل الانتصار في مواجهته للإرهاب...
حوار مع رشاد أبوشاور في صحيفة ( الشعب التونسية)!!
بقلم : رشيدة الشارني ... 13.07.2017