أحدث الأخبار
الثلاثاء 03 كانون أول/ديسمبر 2024
في صداقة الكتب ووداع المكتبة!!
بقلم : عبدالحفيظ بن جلولي ... 10.05.2023

نلم شمل الكتب، نجمع شتاتها، كم هي غريبة في عالم قد يقذف بها مزقا على حافة الطرقات، كم مرة وجدت كتابا يطل مهموما من حاوية قمامة، توشّي غلافه لطخات من وسخ، وإن كان هذا نادرا في الديار المتطورة، إلا أنه يحدث وفي أي بقعة من الدنيا، لكن هناك من تمتد يده إلى بعض كتبه يبيعها في سوق الأشياء القديمة، محلات الكتب القديمة تستقبل هذه النفائس بأسماء أصحابها، ربما قد تخلوا عنها، أو ماتوا وتركوها وحيدة تصارع عالما يرمي بها من يد إلى أخرى، يشدها حنين مرير إلى صاحبها الأول، أشعر بهذا الحنين في كتبي.
مؤخرا في مدينة وهران زرت حوانيت الكتب القديمة قرب الكاتدرائية، سائلا عن رواية les bestiaires للفرنسي هنري دو منترلان Henry de Montherlant فوجدت العديد من العناوين له إلا هذا. داخل المحل انتابني إحساس غريب، وفكرت لو عاد أصحاب الكتب من غفلتهم تلك التي جعلتهم يتخلون عن جزء من تاريخهم على رفوف غريبة لم تألفها كتبهم، هل سيطالبون بها ويدفعون أضعاف أثمانها لتعود إلى أحضانهم أم سيكتفون كما المارة الآخرون ويلقون عليها نظرة تصفح عابرة، ثم يمضون إلى شؤونهم، لأنني كقارئ حين أتجول بين صفوف كتب مستعملة، وأعثر في أحدها على ما لا يمكن أن أعثر عليه لو دفعت أموالي جميعها، كما حصل مؤخرا مع كتاب «لينين وغوركي/رسائل.. ذكريات.. وثائق» حينها، يتبادر إلى ذهني سؤال الجدوى والانتباه، جدوى أن أقتني كتابا وتمضي صداقتنا عمرا، ثم أتخلى عنه، وهل كان ذلك القارئ منتبها إلى أهمية المادة التي بين يديه؟
إن صداقة الكتاب تبدأ بحبل سري لا يمكن أن ينفصل عنه، لأن تلك العلاقة هي مع كائن حي، إذا لم تستشعروا حياة الكتاب فلا تلمسوا غلافه، ولا تقتربوا من صفحاته ولا تشموا رائحة ورقه، فإنكم لن تجدوها لأنه يمنحها فقط لمن تربطه علاقة حنان به. كنت في بداية الثمانينيات أزور «المدينة الجديدة» في وهران لأن فضاءها كان مسرحا لبيع الكتب القديمة وأحيانا حتى الجديدة، وكنت أعثر على بعض العناوين المفقودة القديمة، وكم كانت فرحتي عارمة حين أجد كتابا مبحوثا عنه وبطبعة تعود مثلا إلى الخمسينيات أو الستينيات، كما كان الحال مع «رسائل الجاحظ»/1965، «تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية» لمصطفى عبد الرازق، و»فلسفة الحضارة» لألبيرت شفيتزر، ترجمة عبد الرحمن بدوي ومراجعة زكي نجيب محمود، أحيانا أتأمل أغلفتها الخضراء الحائلة وأوراقها التي أخذت تميل إلى الصفرة وأسرح بعيدا إلى تلك الفترة الزاهرة متخيلا مؤلفيها وهم يحملونها إلى المطابع، مع كل ما يمثلونه من ثقل علمي وثقافي، ثم أغرز نظراتي في الأسماء لأشعرني أحاور شخصيات المؤلفين، أتصفح الأوراق، أقرأ فكرة من هنا وأخرى من هناك، ثم أسلم تلك الكتب التي آلت إليّ بعد أن فرّط فيها أصحابها على عبق تلك الرائحة التي تعود بي إلى حارات وحوانيت الوراقين في العصور الزاهية للحضارة العربية الإسلامية، أسلمها إلى رفوفها مستشعرا بعض ما تبثه في جوارحي من أحزانها، مهموما بسؤال الكيف في تحلل بعض «المثقف» أو صاحب الكتاب من صداقة هذا الأخير.
يذكر أحد أصدقاء الروائي المغربي محمد شكري وهو الصحافي محمد بوخزار، أنه ذهب إليه رفقة أحد أصدقائه بعدما صدرت قصته «العنف على الشاطئ» في مجلة «الآداب» في الزمن الذي كان يحتفى فيه بالإبداع حقيقة وجوهرا، التقوه في مقهى «الرقاصة» في طنجة، فأكرمهم، اختفى لمدة ثم عاد إليهم بعدما كان قد باع عددا من كتبه ودفع ثمن ما استهلكوه، وهنا يضعنا شكري أمام سؤال كبير، هل الكرم أكبر من الكتب؟ إن تاريخية السلوك تكشف استمرارية شيمة الكرم في الوجودية العربية التي كانت تقدم أغلى ما تملكه وهو الراحلة لتكرم الضيف، وشكري لم يتخل عن كتبه ليتلقفها الرصيف، بل لتَخْلُد في ذاكرة حكايا الثقافة الإنسانية، ويستمر الكتاب بطريقة أو بأخرى على رفوف مكتبته الرمزية.
هناك من يمتد به العمر فيتبرع بمكتبته كلها لجهة من الجهات العلمية، أو الثقافية أو البحثية، ويبدو لي أن هذا مبالغ فيه ولا يتوافق مع محبة الكتاب والعمر الذي ترافق فيه الكاتب/المثقف والكتاب، فمن مقتضيات المحبة أن تستمر المكتبة رمزيا لأنها من متعلقات الوجدان، ولهذا على أصحابها أن يفكروا في إبقاء فضاءات مكتباتهم مستمرة في بيوتهم بعد رحيلهم بجزء من كتبهم حتى يُستشعَرَ حضورهم في وعي وفي ذاكرة البيت.
إن العلاقة مع الكتب ليست تلك التي تبدأ باقتنائها من المكتبة شراءً، لأن العملية حينذاك ليست أكثر من حاجة إشباع اقتصادي، بيع وشراء، لكن العلاقة مع الكتاب أكبر من الحاجة الغريزية في العملية الاقتصادية، إنها عملية «مخاض وولادة» فنحن المهمومون بالكتاب نلج المكتبة نهيم بين رفوفها بحثا عن عنوان، فنعثر على عنوان آخر، نفرح به فرحا أسطوريا حد التباهي، خصوصا إذا كان مبحوثا عنه من طرف أصدقاء لنا ولم يعثروا عليه، وهي تجارب معيشة، أخبرت أحد أصدقائنا أنني رأيت في معرضٍ كتاب «نظرة جديدة إلى التراث» لمحمد عمارة، أوراقه تقريبا مالت إلى صفرة، طبعة ثانية 1979، فما كان منه إلا أن سابق الريح لعله يظفر به، لكنني كنت قد سبقته إليه ولما التقينا عرف كل منا أننا سوف ندخل في مباراة سباق للفوز به. فبعد كل هذه العلاقة، كيف ينتهي صديقي الكتاب، إما على رصيف لأحد الشوارع يصارع أحذية المارة وتطاير غبارها وعدم مبالاتهم به، أو في أحسن الأحوال غريبا على رفوف ليست تلك التي ألفها. العلاقة مع الكتاب أيضا هي ما يمكن أن أطلق عليه «بحث في فائدة مفقود» فنحن عادة ما نبحث عن كتاب ولا نعثر عليه، فنضطر إلى السفر ربما إلى مدينة أخرى بحثا عنه، أو نوصي بعض أصدقائنا في أسفارهم ليقتنوه لنا، وهي عملية أشبه بالبحث عن أحد أقرب الأشياء إلينا، ثم حين العثور عليها يعود إلينا رمق الحياة والأمل، الكتاب شبيه فلذة الكبد والأعزاء علينا، فكيف نتخلى عنه بهذه السهولة؟
هنا طبعا علينا أن نتحدث عن إهداء الكُتاب مكتباتهم للجامعات ومراكز البحث وما شابه ذلك، وهذا مطلوب وجميل، لكن هذا، ألا يثير فينا سؤال فضاء المكتبة الذي شكلته لعقود في بيت الكاتب؟ ألا يثير فكرة إعدام شنيع لذلك الفضاء المقدس، الذي ساير لقاءات الكاتب مع أصدقائه من حملة القلم والفكر والإبداع، وجلساتهم الممتعة التي كان يشارك فيها البيت بأجمعه بتحضير القهوة والحلويات أو الغذاء، و»الغضب المرح» أحيانا من امتداد السمر إلى ساعات متأخرة تعطل العائلة عن بعض شؤونها إذ تدخل في طقس أشبه بزيارة ولي من أولياء الله الصالحين، لأن ذلك الاستقبال يدخل في إطار محبة ما يحبه أحد أفراد العائلة، فكيف يُستبدل «الحب» بإلغاء طلله؟
هناك من يمتد به العمر فيتبرع بمكتبته كلها لجهة من الجهات العلمية، أو الثقافية أو البحثية، ويبدو لي أن هذا مبالغ فيه ولا يتوافق مع محبة الكتاب والعمر الذي ترافق فيه الكاتب/المثقف والكتاب، فمن مقتضيات المحبة أن تستمر المكتبة رمزيا لأنها من متعلقات الوجدان، ولهذا على أصحابها أن يفكروا في إبقاء فضاءات مكتباتهم مستمرة في بيوتهم بعد رحيلهم بجزء من كتبهم حتى يُستشعَرَ حضورهم في وعي وفي ذاكرة البيت.
ما جعلني أفكر في هذا الموضوع هو وفاة أحد أصدقائي الكتّاب والمثقفين، وبعد أيام طلبت مني عائلته إن كنت أرغب في أي عنوان في مكتبة صديقي الراحل، بعدها علمت أنهم تبرعوا بها للجامعة التي كان يدرّس بها، وهذا كما سبق وأشرت شيء يثمن، لكن ليس بالطريقة التي تؤدي إلى التفكير في أن هذا السلوك هو نوع من التخلص من المكتبة للاستفادة من فضائها في أمور استهلاكية، ستتحول إلى غرفة للنوم أو للاستقبال أو الجلوس العائلي في الوجبات الغذائية الرئيسية، وسيندثر مع ذلك تاريخ حواري لمعارك جمالية شهدتها تلك الغرفة، سوف تغيب رائحة البن وشفطات عميقة تمهل صاحبها فكرة تنقدح فجأة لفتح كوة أخرى لنقاش عميق وسمر جميل، سوف تتحول من فضاء لاستهلاك المعرفة يشمله العقل والروح، إلى آخر بديل للاستهلاك يشمل البطن، وشتان بين الوعيين.
إن قضية الكتاب والعمر الذي يفنى في صداقته، يتشكل رمزيا في ذلك البحث عن استلهام العالم عقليا، إننا نذهب إلى السوق لنقتني ما نقتات به، وبذلك نعرف العالم غريزيا، والكتاب يفتح أعيننا على العالم روحيا وعقليا، صفحاته أشبه بشيفرة سرية لا يعرف طبيعتها إلا من أدرك أن العالم لا يمكن أن يكون جماليا إلا إذا استوى على تلك الصفحات متخفيا بين كلماتها التي في مجموعها تؤدي المعنى فيه، ولا يمكن أن يكون العالم حاضرا إلا إذا عرف به الكِتَاب، ولهذا جاء الدين في مجموعه بـ»الكتاب» ليضع الإنسان على طريق معرفته بربه أولا، وبنفسه وبالعالم، فالكتاب هو معرفة العالم، كيف إذن نتخلص من هذه القيمة الكبرى في لحظات تجعلنا نعيش فجيعتين، فجيعة موت الكاتب وفجيعة موت الكتاب.

*كاتب جزائري..*المصدر: القدس العربي
1