«هاتف الرياح» لمريم مشتاوي، رواية التداعيات الحزينة، التي تتكرس مع مسار السرد الاستيعادي الكامن في إصرار الراوية على التشبث بإدامة وجه شخصية غائبة «المعلم صادق» تستمر الراوية في استدعائه لتتخلص من أساها، معلنة في ثنايا السرد عن اسمها «مريانا» فيتأثث المسار الحدثي بشخصيتين يشملهما الحضور والغياب.
«إنها الأحزان يا صادق» هكذا يفتتح السرد في رواية «هاتف الرياح» منذ البداية، فالأحزان مسار سردي يبني علاميته لا من طبيعته المستدامة والمتناثرة عبر شتات المعنى في كل مقطع وجملة، لكن من الصوت الاستدعائي، الذي ينادي على صادق باعتباره «المخلص». تكشف مريانا عن نفسها كصوت سردي ينبثق من شرنقة الراوية «أنا مريانا» لتندمج في الفضاء السردي كشخصية/ساردة/راوية تكشف عن وظيفتها التي تتودد بها، ابتداء لصادق حتى تستديم صورته كحالة سماوية تتحقق بين الكنيسة والذاكرة، «أجلس وحيدة بيدي كتاب». تحرك الكتاب لا باعتباره موردا للتفكير لكن باعتباره نقطة تتسلل منها الذاكرة إلى اللغة، حيث يسهل استذكار الأمكنة والأحداث.
*الذاكرة الارتجاعية:
كنيسة سانت بول مكان تمعلمه عجوز، تصفها الراوية بأنها «تجلس كعادتها في الصف الأول» وأهم ما يميزها بالنسبة للراوية ضفيرة واعوجاجُ ظهرٍ ومسبحة تحركها بأصبع معكوف، ولم تكن العجوز فقط علامة على مستوى الشكل، بل إنها كانت تمثل النموذج الاسترجاعي لمحطات حدثية تتعلق بحياة الراوية/الساردة، «ولا أعرف لماذا هناك تناغم روحي قديم بيني وبينها» هذا التناغم تمثله بتصور جمالي لحركة الأصبع، وهو يمرر حبات السبحة، فتتحرك الراوية تبعا لذلك في ذاكرتها الارتجاعية صوب الماضي. كانت الأسئلة هي المدخل إلى فضاء العجوز، لكن الراوية لا تجد شيئا مُهِما منها تطرحه عليها، وهنا تنبثق دلالة الذاكرة بكل ثقلها الحدثي، وكيفية اجتلابها إلى مسرح الواقع ومواجهة الذات بها، «تذكرت طفولتي بتفاصيلها البشعة» تكشف المقاربة بين الذاكرة والطفولة عن مدى هشاشة الذاكرة ذاتها أمام تفاصيل الألم الوجودي، الذي يتسبب فيه تغول الواقع وهو يستقبل ضعف الطفولة، في مدارات تجربتها الحياتية الصغيرة والشقية والمعطوبة.
تحضر العجوز في الرواية، وكأنها كينونة تمتلك مفتاح البداية الغامضة، ليتشظى بعد ذلك المسار السردي في اتجاهات متعددة تطرح سؤال البداية والمآلات السردية المنتظرة وغير المنتظرة، أي، جاهزية أفق التوقع لخوض مغامرة بناء التفاهم مع الحركة الحدثية، من خلال علامية (من العلامة) الظرف الذي تتركه العجوز للراوية/الساردة.
*راوول أو مأزق الإنسانية:
تتخلل الطفولة النص في صورة «راوول» الطفل الذي عاش في الميتم مع مريانا، وكان قريبا منها لكنه يؤسس علاميته من خلال الأزمة الوجودية في شقها الأخلاقي، حيث يتعرض جسده الطري للانتهاك بالضرب والاعتداء الجنسي، فيتأسس الميتم باعتباره الفضاء الذي يمثل الغربة داخل العالم، بتعدد أمكنته التي لا تفك الحصار عن الذات، فالوجود فيها لا يتحقق إلا عن طريق التنقل، لكنها تكشف عن مدى الحصار الكبير الذي يكمن في الذات، باعتبارها كينونة تتشظى وتتفكك بتوزعها المجبرة عليه، فهل تعدد الأمكنة يحرر الذات من أزمتها الانعزالية ومأزقها الوجودي؟
«راوول» مأزق الإنسان الذي ينعزل داخل ذاته، ولا يرى سوى صورته الناقصة التي تنتهك فيها حرمة الحدود، وتتحقق في الرغبات مهما كانت ومهما استوجب تحققها من الاعتداء على كل ما يتأسس براءة في ذاته، لأنه لا يقع في نطاق الآخر. تقول مريانا: «إلى أن وجدت نفسي خلف الأب جرمان، كان قد عرى راوول من ثيابه وربطه على الشجرة» إن تضارب القيم هو ما يتحكم في العلاقات بين الناس، والمسار السردي لا يكتفي فقط بتعرية المخفي في النفس الأمارة، لكنه يضع مستويات القيم في هرم الضدية، فابتداء يضع الأب كمركز ديني في تضاد مع قيمة العطف، فعلى التعاطف تنبني الأمكنة (الميتم) والذوات (الأبوية) ثم تضع الطفولة (راوول) في مواجهة مع العالم (الشجرة) طفل منقطع الصلة بالعالم، الشجرة تمثل الأصل الاجتماعي، والإيواء إلى الميتم يكشف غربة راوول عن ذاته والعالم، والاعتداء قمة الغربة.
تعتبر رواية «هاتف الريح» مسار سردي رؤيوي، أي تكثر فيه النظرة إلى الحياة، وهو ما يقترب بهذا النص الحكائي من الرواية الجديدة، باعتبارها تهتم بالإنسان وموقفه من العالم، طبقا لرؤية ميشال بيتور.
*أفق المجهول/كينونة الروح:
يؤثث الرواية سياق ديني تُشكل الكنيسة والقديسة علامتيه البارزتين، ثم يتفرع السياق ببناء هرم للوجودية المتوائمة مع الغامض، فالعجوز، تخبر المربية أيفون مريانا أنها القديسة ريتا الميتة، ثم تتواصل العجوز مع مريانا بظرف يُفتح بنفسه على صندوق فيه مفتاح، داخل هذا السياق تنبثق صورة الفقد في موت المعلم صادق، وافتراق رياض عن مريانا. إن السياق الذي يربط هذه العناصر الحدثية هو الرسالة المقبلة من أفق مجهول، حيث العجوز لا وجود لها في الواقع الروائي، سوى ما تحكيه لنا الراوية/الساردة، لكن يصبح الفضاء الروائي أكثر إقناعا عندما فجأة تذكر الساردة هادئة بعد قلق: «ربما نمت لأحلم» عند هذا المفصل السردي تتحدد العلاقة بين العجوز ومريانا والرسالة، ويتطور شكل واقع يراود الوجودية المفعمة بالحياة والتخيل متمثلا في الواقع المحايث للواقع الوجودي المحدد بأطر ما يمثل حركتنا التاريخية والثقافية، فالرسالة تتأسس كرمز لكتابة دالة على الوجود، أي ذلك الوعي العارف بالكينونة في أفقها الحركي، للدلالة على كينونة الكائن البشري الروحية، وهو ما يكثفه الترميز الفانتازي لـ»تلفون الرياح» المقطوع الأسلاك المهمل في غرفة زجاجية في شارع غريب.
*القصة داخل القصة:
تحيلنا الراوية/الساردة إلى قصة متضمنة، تجمع طوني إلى روزا، زوجين حبيبين تفرق بينهما مسارات القدر، يجن طوني وتشل روزا، لكن ما يرسم خيطا دقيقا بين القصتين – القصة الإطار والقصة المتضمنة – هو تلك المشاعر التي أعادت مريانا إلى الحياة، لتستذكر مسار ثلاث شخصيات رجولية في حياتها، صادق المعلم، طوني الفيلسوف ورياض الخائن في حبه لها، «لم يرفع رياض رأسه إلى السماء كما فعل حبيب روزا» يصبح المتخيل الحكائي داخل واقع السرد في المتن، الإطار مغير لمصير مريانا انطلاقا من التقابل بين طوني ورياض على أساس قيمة الحب، فهل الحب قيمة طوباوية إلى هذه الدرجة التي نعيشها به واقعا وحلما، «نمت وجاءني طوني في الحلم.. نعم طوني زوج روزا» لماذا تؤكد الراوية على هوية طوني، مع أن التلقي يكتشف شخصيته. يمكن أن التأكيد كان للراوية أكثر منه للمتلقي، لأن «طوني» أعاد مريانا إلى الواقع من أفق الخيال، واستعادت به فكرة العلاقة التي تربط الكيان الإنساني إلى واقعه، من حيث تمثلات تخييلية تبرهن على إن الإنسان كائن جمالي يمتلك خيارات وجدانية تؤثر فيه عميقا ولعل أقلها علاقته بالنص.
*أمكنة البداية أمكنة القلب:
تفترق مسارات الراوية/الساردة باعتبارها تؤثث كينونتها بثلاثة أمكنة، بيروت، دمشق ولندن، وتشكل بيروت الحنين إلى الطفولة وإلى الأم، «وصلت إلى بيروت وكانت أمي أيفون في المطار بانتظاري ومعها سائق الضيعة العم أنور» التماثل والتقارب بين صورتي الأم والوطن، يجعلان من الأم معادلا موضوعيا للوطن، لكن لا بد من حضور ذاكرة تقوي هذا التماثل، فبيروت حضرت في شكل الأم، لكن الذاكرة تشخصنت في حضور سائق الضيعة، ولابد من ربط مسار السفر من لندن إلى بيروت واستكمال مسار الحركة بحضور «السائق» وكأن الاستمرار في المسافة لا يعني فقط الحضور في الطريق، بل هو قائم بحضور الذات في الزمن، وبذلك تتعدد الأمكنة لا لتلغي بعضها لكن لتكمل مسارات الذات نحو وجودية مستقبلية، تلك التي تبني شكلها وطبيعتها من تاريخية الذات، ففي شوارع بيروت المنتفضة تستعيد الذاكرة واقعا صورة الحبيب، «إنه الثائر رياض» رياض الذي كانت مريانا قد نفضت يديها منه، وأزاحته من مدار تفكيرها إلى الأبد، عاد ليتشكل حركة مناهضة للواقع في بيروت، وهنا تتأكد الحركة المستمرة لمريانا باعتبارها راوية باحثة عن مستقبل ما، داخل منظومة وجودية شكلتها رؤيتها القلقة للحياة، تلك الرؤية التي استفادت من حركة «صادق» في الحياة، «لما نبتعد عن الفلسفة يا مريانا نصبح لا شيء».
تعتبر رواية «هاتف الريح» مسار سردي رؤيوي، أي تكثر فيه النظرة إلى الحياة، وهو ما يقترب بهذا النص الحكائي من الرواية الجديدة، باعتبارها تهتم بالإنسان وموقفه من العالم، طبقا لرؤية ميشال بيتور.
التداعيات الحزينة واستدعاء الماضي في رواية «هاتف الرياح»!!
بقلم : عبدالحفيظ بن جلولي ... 04.05.2021
*كاتب جزائري..**المصدر : القدس العربي