أحدث الأخبار
الاثنين 25 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
إنها ذاكرة حيّة تتوارثها الأجيال!!
بقلم : رشاد أبو شاور ... 24.11.2014

هل يحتاج الفلسطيني لذاكرة ليتذكر فلسطين؟!
الرهان الصهيوني بألسنة مؤسسي الكيان كان مختصرا بجملة، تشمل الفلسطينيين جميعهم، أحياء، ومن سيموتون، ومن سيولدون: الكبار سيموتون، والصغار سينسون!
بعد 66 عاما، فشل الرهان فشلاً ذريعا، لأن الكبار قبل أن يموتوا زرعوا في ذاكرة أبنائهم وبناتهم حقول فلسطين، وحكاياتها، وتفاصيل القرى، وأحياء المدن، وحتى أسباب الخلافات العائلية الصغيرة، والمصاهرات بين العوائل، والقرى القريبة والبعيدة، وزرعوا برتقال يافا وحيفا واللد، والرمله بأنواعه، والصبّار والتين والعنب والزيتون، وموارس القمح والذرة، والشعير..في ذاكرة القادمين إلى الحياة.( المارس هو الحقل).
الكبار لم يموتوا إلاّ بعد أن صوروا بكلام حميم: الجبال بمغاورها، وكهوفها، وغاباتها، ومن من الرجال صعد إلى الجبل حاملاً بندقيته مقاتلاً الإنكليز الغزاة الذين اجتاحوا فلسطين بحجة أنهم انتداب بررته لهم (عصبة الأمم)، التي وجدت بعد الحرب العالمية الأولى، بهدف إصلاح النظام السياسي في العالم، ووضع أسس للعدل بين الشعوب، وإنهاء أسباب الحروب، فكان أن بررت الاستعمار، ونهب الأوطان، وفي المقدمة: فلسطين..ولم تحل دون انفجار الحرب العالمية الثانية!
الكبار سيموتون!..هذا صحيح، لأن الكبار يموتون بعد عمر مهما امتد فستكون له نهاية.
وقد يموت الصغار قبل أن يكبروا!..فالأعمار بيد الله..وأحيانا برصاص المُحتل المعتدي، كما حدث، ويحدث، في فلسطين!
ولكن ذاكرة الشعب، أي شعب، لا يمكن أن تموت إلاّ إذا مات كله، أو موّت روحيا ونفسيا، وهذا حصل له شبيه في أمريكا اللاتينية.
عندما اجتاح الإسبان بعض مناطق ما تسمى حاليا بأمريكا اللاتينية _ نسبة إلى اللغة الإسبانية، وهي إحدى مشتقات اللاتينية_ عمد الإسبان إلى فرض لغتهم على أصحاب البلاد الأصليين، الذين حُمّلوا اسم الهنود، ووصفوا بالحمر للصبغة التي كانوا يطلون بها وجوههم، وأُنسوا لغاتهم الأصلية، تمّت عملية مسخهم، وتغريبهم عن تراثهم، وثقافتهم، وانتمائهم!
الهنود الحمر، وقد أنسوا لغاتهم، أنسيت أجيالهم هويتها، وهكذا تمكن الغزاة الإسبان من مسخ شخصيتهم، وأفقدوهم كرامتهم الإنسانية، فسهلت عملية استباحتهم، وتدميرهم، والاستحواذ على بلادهم، ونهب ثرواتهم!
قرأت قبل سنوات تعريفا للثقافة بأنها تعني: الكرامة الإنسانية. وصاحب هذا التعريف استنتجه مما جرى مع الهنود الحمر.
الصهاينة المُحتلون عجزوا عن مسخ شخصية الشعب الفلسطيني وهويته القومية، ويئسوا من أمكانية تغريبه عن لغته العربية المبينة، حتى إن الكتاب العربي في الداخل يوزع أكثر من أي كتاب في الوطن العربي الكبير، رغم أن عدد العرب في داخل فلسطين المحتلة بالكاد بلغ أخيرا قرابة المليون ونصف المليون. (بالمناسبة عندما قامت دولة الكيان الصهيوني عام 1948، كان عدد الفلسطينيين الذين بقوا في مدنهم وقراهم في حدود المائة وخمسين ألفا فقط! )
الفلسطينيون لا ينسون، ويتزايدون، ويتكلمون اللغة العربية بطلاقة، وهم أنجبوا شعراء من كبار شعراء العرب، وقصاصين، وروائيين، وفنانين تشكيليين بارزين، وموسيقيين متفوقين، ورياضيين متميزين، وبعض أنديتهم في الداخل تغلبت على أندية التي تعود للمحتلين!
أكتب هذا الكلام بمناسبة العملية التي قام بها غسان وعدي الجمل_ وهما أبناء عمومة_ يوم الثلاثاء الماضي 18 الجاري في حي ( هارنوف) المقام على أراضي قرية دير ياسين الشهيدة، التي اقترفت فيها مذبحة مروعة يوم 9 نيسان عام 1948 ، وربما لم يكن والدا غسان وعدي قد ولدا آنذاك!
لما زار جان بول سارتر، فيلسوف الوجودية الفرنسي الأشهر، قطاع غزة عام 1966 ، كان أحد مرافقيه شاعر فلسطين الكبير الأستاذ عبد الكريم الكرمي( أبو سلمى)، وكان يتقن الفرنسية، وقد حدثني رحمه الله، بأن سارتر ذهل عندما التقى بعدد من الأطفال قرب أحد المخيمات، فطلب من المترجم أن ينقل أسئلته التي يوجهها للأطفال، وأن ينقل أجوبتهم له بشكل دقيق.
أسئلة سارتر تركزت على: من أين أنت؟ من أي قرية، أو مدينة أنت؟ فكان الأطفال يجيبونه أنهم من فلسطين، من المدينة الفلانية، أو قرية كذا، وهي تقع في قضاء مدينة كذا، وإذا ما مشيت إليها مشيا فستصلها في كذا ساعة، وهي تشتهر بزراعة كذا وكذا من الأشجار والحبوب..وكان الأطفال يشيرون بأيديهم إلى جهات قراهم، ومدنهم، ويرسمون في الهواء الطرق المؤدية إليها.
دهش سارتر، وأطرق قليلاً صامتا ولم يعلق، فهو التقى بالأطفال قرب أحد المخيمات صدفة، ولم يجيبوه بأنهم من المخيم، لأن المخيم عندهم لا انتماء له، وكل الانتماء هو لمسقط رأس الأب والأم، والجد والجدة من قبل، وهم يتوارثون الانتماء للقرية نفسها، وللمدينة نفسها، وكذا أبناؤهم وبناتهم من بعدهم...
الشباب المدافعون عن القدس كلهم في عشريناتهم، لم ينظمهم أحد، ولا دفعهم أحد للقيام بواجبهم الوطني، وبعضهم لا يُصلون، ولكنهم يدافعون عن الأقصى، وقبة الصخرة، وكنيستي القيامة والمهد في القدس وبيت لحم، وهم الشباب لا يعرفون العنصرية، ولا التعصب، ولكنهم وطنيون ينتمون لفلسطين، ويعتزون بعروبتهم، ويقاومون بكل ما يقع تحت أيديهم، وهذا مبرر لشعب وطنه مُحتل.
المشكلة أن الاحتلال لا يريد أن يفهم، وهو وقد فشل رهانه على مسح ذاكرة الأجيال الجديدة، بعد موت الأجداد الذين استلب منهم أرضهم، فهو يواصل سياسة القتل، والإبعاد، وسياسة تدمير البيوت، وحرق بعض الأطفال أحياء لنشر الرعب في نفوس الفلسطينيين!
ذاكرة الفلسطينيين الحيّة تتغذى صباح مساء من جرائم الاحتلال، ومن حب وطن لا يمكن التنازل عنه، ومن ثقافة انتماء تتغذى بتفاصيل الحياة المستمرة..ولكن المُحتل لا يتعلم، ولا يريد أن (يتذكر) أن كل المُحتلين والغزاة قد انهزموا ورحلوا..وهذا ما سيحدث في فلسطين..طال الزمان أم قصير!

1