المرأة العراقية التي تميزت طيلة عقود بإسهاماتها المجتمعية الفاعلة، فنيا وعلميا وثقافيا وفي غيرها من القطاعات، وجدت نفسها منذ الاحتلال الأميركي في وضعية تتسم بالنكوص والتراجع طال بدوره كل الأصعدة. وضعية تضافرت في رسمها عوامل عديدة، بدءا من الاحتلال مرورا بصعود تيارات وأحزاب دينية ترى المرأة وفق منظور يضيق أدوارها، وصولا إلى عودة أثر الاعراف والتقاليد القبلية والعشائرية. كل هذه العوامل وغيرها جعلت حضور المرأة العراقية محتشما ومحدودا، إلا أن ذلك كله لم يحل دون تميز بعض الأمثلة النسائية العراقية التي حاولت الخروج من أسر هذه الأطر وسعت إلى فرض وجودها واسترجاع دورها. منار الزبيدي مثال للمرأة العراقية التي اختارت أن تختط لنفسها سيرة مختلفة عن السائد الاجتماعي أو ما يراد للمرأة أن تكون عليه.
تعتبر منار الزبيدي نفسها من الصحافيات المحظوظات في مدينة الديوانية حيث استطاعت أن تصنع لنفسها اسما في الوسط الصحافي لمحافظة القادسية جنوبي العراق (180 كم جنوب بغداد) في حين تعذر العمل على غيرها من الكثيرات من خريجات كليات الإعلام لأسباب مجتمعية تخضع للأعراف العشائرية والتقاليد الدينية التي تضيّق على الفتيات العمل في الكثير من المهن التي لا يراها المجتمع هناك مناسبة للمرأة.
منار وجدت في دعم أهلها وزوجها ما لم تجده الكثيرات غيرها رغم أنها تؤكد أن مجتمعها الديواني المحافظ بدأ يشهد حضورا وإن كان خجولا للدور النسائي المتميز في العديد من المجالات.
واستطاعت منار رغم العوائق العشائرية والدينية في مجتمعها أن تؤسس وكالة إخبارية محلية تحاول من خلالها كسر الهيمنة الذكورية الواضحة على المناصب الإدارية في وسائل الإعلام المحلية كما أنها عمدت إلى جعل كل فريق عمل الوكالة من النّساء كردّ فعل كما تقول على سياسة تجاهل المرأة في المناصب الإدارية والتي لا تزال مستمرة.
وتقول منار لـ”العرب” إن “ثقة أسرتي بي ودعمها لي في دراستي لمواصلتها ساعدني كثيرا في الوصول إلى ما أنا عليه الآن فضلا عن دعم زوجي الذي يعمل إعلاميا أيضا والذي منحني القدرة على الاستمرارية في العمل الميداني بعد التخرج من الجامعة”.
وتضيف منار أن “الكثير من خريجات الإعلام بقين حبيسات منازلهن حرصا على سمعتهن أو بسبب منع أهلهن لهن من العمل في الوسط الصحافي”، مبينة أن هنالك “نظرة خاطئة تجاه الصحافية”.
وتعزو منار هذه النظرة الخاطئة للعديد من الأسباب التي عكست صورة سلبية عن العمل الصحافي في المجتمع الديواني.
وإضافة إلى الأعراف التي تقيد المرأة في محافظة القادسية، ترى منار أن “بعض النماذج السيئة الطارئة على الإعلام والمجتمع الذي نعيش فيه ونظرية المؤامرة التي أصبحت سلوكا يعج به مجتمعنا كلها جعلت العمل الصحافي أكثر تعقيدا للمرأة”.
„المرأة المتحررة والمتعلمة سترفض كل ما تجده غير منطقي وغير معقول في مجتمعها وبالتالي ستتبدد سطوة العشيرة على المجتمع وتفقد الأحزاب السياسية نفوذها“
رغم ذلك تنظر منار نظرة متفائلة إلى المجتمع الديواني وتؤكد أن مدينتها ذات الطابع العشائري لم تعد مغلقة على نفسها لأن “المرأة أخذت حيزا كبيرا في الحياة المتحضرة فهي تمارس عملها ميدانيا وتحظى بدعم المجتمع فهناك فنانات ومسرحيات وإعلاميات بدأن ينشطن كثيرا رغم قلة عددهن”.
يتجسد العرف العشائري في الهيمنة الذكورية التي تشكو منار وزميلاتها منها وهي بدورها تتمثل في محاولات بعض الرجال في مجتمعها “إثارة الشائعات وأسلوب المهاجمة والتشهير بسمعة الآخرين كسلاح لضعاف النفوس غير أنه بات قادرا على أخذ مداه الواسع في الانتشار لا سيما عبر مواقع التواصل الاجتماعي التي باتت أداة لفضح الناس وابتزازهم”.
كما تواجه منار وزميلاتها منافسة غير شريفة من زملاء وحتى زميلات لهنّ رغم أنهن حافظن على مظهرهن الاجتماعي الخارجي والأخلاق التي تربّين عليها.
وقد يكون طبيعيا أن تواجه الصحافة العديد من العراقيل كما تروي منار في مجتمع محافظ مثل المجتمع الديواني لكون هذه المهنة قد تعتبر مهنة حديثة العهد على المرأة في هكذا مجتمعات لا تقتنع بالضرورة أن الصحافة تحتاج إلى النساء، لكن من غير الطبيعي أن تواجه مهن كالطب على سبيل المثال رفضا لعمل المرأة في هكذا مجتمعات رغم حاجة المجتمع لطبيبات أو ممرضات وما إلى ذلك.
يعترف المجتمع بأن تعامله مع النساء يعكس ازدواجية منقطعة النظير ولعل أكثر ما يلخّص هذه الازدواجية المقولة التي نصها “إن الرجل يرفض أن تصبح ابنته طبيبة لكنه يرفض أن يعالجها طبيب حينما تمرض”، هذه الازدواجية قد تجد لها حضورا أيضا في مجتمعات أخرى غير المجتمع العراقي تتميز أيضا بالعرف العشائري الرجعي.
هذه الطرائف وحتى النكت في هذا الموضوع وغيره، ما هي إلا تجسيد لما تعايشه المرأة العراقية من نظرة مجتمعية تعتبرها أقل من نظيرها الرجل غير أن اقتصار تأثير الأعراف العشائرية والتقاليد الدينية على واقع العمل للمرأة قد يكون أقل تأثيرا على واقعها الإنساني في أمور أخرى كالزواج الذي تتعامل معه هذه الأعراف والتقاليد في المجتمعات المحافظة جنوبي العراق بطريقة أكثر قسوة تجاه المرأة.
فرغم الحداثة والتطور وغيرها من أساليب حياة يفترض أنها غيرت من فكر المجتمعات تجاه مواضيع مهمة كالزواج، فإن الصور المتخلفة للزواج ظلت تفرض نفسها على هذه المجتمعات كزواج الفصلية والنهوة.
زواج الفصلية هو أحد أنواع الزواج الذي ظلت العشائر تتخذه وسيلة لحل نزاعاتها مستندة بذلك إلى أعرافها التي لا تنص عليها حتى التشريعات الدينية التي تتبعها العشائر.
ويتمثل زواج الفصلية بموافقة عشيرة ما على تزويج واحدة أو أكثر من بناتها إلى ابن أو أبناء عشيرة أخرى لترضيتها في حال كان هنالك خلاف عشائري تتحمل مسؤوليته العشيرة الأولى. ورغم كل محاولات الدولة العراقية إلغاء العمل بهذا النوع من الزواج الذي يشبّهه البعض بالسّبي العشائري فإن سطوة العشائر ظلت هي المسيطرة وبالتالي لم تتمكن الدولة من الحد من هذا النوع من الزواج.
النوع الآخر من الزواج العشائري لا يقل خطورة عن زواج الفصلية وهو النهوة التي تعني أن ابن عشيرة ما يعلن أن واحدة من أبناء عمومته ستكون زوجته في الوقت الذي هو يريده من دون الأخذ برأيها أو حتى رأي ذويها في بعض الأحيان لكون العرف العشائري يعطيه هذا الحق.
ومن بين الأمثلة على هذا النوع من الزواج قصة فريال عبدالكريم التي أكملت دراستها الجامعية وشارفت اليوم على الحصول على شهادة عليا في القانون غير أنها انصاعت إلى هذا العرف لتترك كل ما وصلت إليه ولتقرر العودة للزواج من ابن عمها الذي أعلن نهوته عليها.
فريال أكملت دراستها العليا في إحدى جامعات العاصمة العراقية بغداد بانتظار حصولها على شهادة الماجستير في القانون الذي كانت ترغب دائما في حمل شهادته وممارسته مهنيا غير أنها مضطرة للعودة إلى مدينتها العمارة (مركز محافظة ميسان – 320 كم جنوب شرقي بغداد).
فريال كانت قد خطبت قبل سنتين لابن عمها الذي اشترط عليها ألاّ تعمل لكونه يعتقد أن الزوجة يجب أن تكون متفرغة لزوجها وبيتها.
وبسبب الأعراف العشائرية التي تقيد عائلة فريال اضطرت ابنة الخامسة والعشرين إلى الموافقة على شرط ابن عمها والتخلي عن أكبر أحلامها الذي ضحت لأجله سنوات طويلة من عمرها. وتخبر فريال صحيفة “العرب” أنها ليست منزعجة كثيرا من هذا الأمر فهي مكتفية بحصولها على الشهادة العليا حتى وإن ظلت حبرا على ورق فالأهم برأيها “عدم خذل والدها أمام العشيرة” ولكون الزواج والتفرغ للبيت هو “واجب أساسي للمرأة”. تؤمن فريال أن شهادتها الجامعية ستزيد من قوتها في تكوين أسرة متماسكة وترفع من مكانة زوجها المستقبلي في العشيرة وتربية أبنائه على هذا السياق.
قصة فريال تشابه قصص الكثير من الفتيات العراقيات لا سيما في محافظات الجنوب العراقي حيث لا تزال الأعراف العشائرية تسيطر على المجتمع الذي بات ذكوريا بامتياز رغم محاولات البعض تغيير هذا الواقع لا سيما من النسوة.
الأسوأ أن الفتيات اللواتي واجهن النهوة العشائرية أضاعت بعضهن الطريقين بعد أن اختار الزوج المرتقب إلغاء نهوته فجأة ليترك الزوجة المنتظرة دون زواج منه أو من غيره لتظل بلا زواج كما خسر الكثير منهن الدراسة أو العمل الذي كان بمتناولهنّ.
فهبة محمد مثلا تشعر وكأن “القطار قد فاتها” رغم أن سنها لا يزال دون الخامسة والعشرين من العمر لكونها لم تتمكن من الارتباط بأيّ شخص كان يتقدم لخطبتها في السنوات الماضية بسبب “نهوة” ابن عمها ضياء منذ سنوات والذي كان يمنعها أيضا من العمل في مجال تخصصها الجامعي.
غير أن ضياء اختار أخيرا ألاّ يرتبط ببنت عمه هبة لأنه وبكل بساطة وجد امرأة ثانية هي أنسب له كما يرى.
لن تتمكن هبة من الارتباط بأيّ شخص من أبناء العشيرة لأن الجميع كان يعلم أنها “محجوزة” لضياء الذي لم يجد مشكلة في الارتباط بغيرها.
تمكنت هبة بعد ذلك من الحصول على فرصة عمل جيدة في مجال تخصصها غير أنها باتت أكثر حسما في موضوعة الزواج لا سيما من أولئك الذين يحملون نفس أفكار أبناء عشيرتها فهي تتطلع إلى زواج بطريقة أكثر تحضرا يجمعها بشخص يحبّها ويحترم كيانها ومستواها العلمي والفكري.
أكثر ما ساعد هبة على تجاوز محنتها في المجال العملي هو أنها من سكان العاصمة بغداد بينما يسكن ابن عمها ضياء في إحدى المناطق الريفية التابعة للعاصمة ما يجعل تأثيره هو وأبناء العشيرة المباشر عليها ضئيلا وهو ما تعوّل عليه أيضا في تجاوز محنتها على صعيد الارتباط.
حالتا فريال وهبة ليستا غريبتين عن المجتمع العراقي الذي يشهد العشرات إن لم نقل المئات من هذه القصص والتي لا تقتصر تداعيـاتها على النساء فقــط بل تمتد لتؤثر على المجتمع ككل. حيث تولّد النهوة وغيرها من أنواع الزواج العشائري إعاقات لتقدم المرأة والمجتمع ككل لكونه يجعل المرأة أسيرة للمنزل وبالتالي يقلل من رغبة الكثير من الفتيات في التعلم والعمل لكونهن يعرفن أن مستقبلهن لمنازلهن.
حتى سبعينات القرن الماضي كانت المرأة العراقية منفتحة على أطياف المجتمع العراقي وكانت تمارس كل الاختصاصات أما اليوم فباتت منقادة لتقاليد اجتماعية ودينية متخلفة جعلت منها مجرد هامش لواقع رجالي وعشائري رثّ.
لكن اللافت أن المجتمع العراقي كان يسير نحو التخلص من القيود العشائرية والدينية المتخلفة مع تمسكه بالموروثات الأصيلة التي تعكس قيمه الاجتماعية المتقدمة والتي كان يتفاخر بها بين الشعوب منذ بدايات القرن الماضي غير أنه عاد اليوم إلى سلطة العشيرة وذكورية المجتمع.
ولا يخفى أن هنالك توجها عاما لدى العشائر في الحفاظ على موروثاتها من خلال فرض القوانين التي تلائم هذا الغرض حتى وإن تعارضت مع القوانين العامة في البلد. فالعشائر تستغلّ ضعف الدولة وعدم الالتزام بالقوانين في تطبيق قوانينها الخاصة فيما يبدو أنه توجّه مدعوم سياسيا لكون الكثير من الأحزاب السياسية تستند إلى القوة العشائرية في خلق نفوذها داخل المجتمعات.
ربما يكون تحرر المرأة عامل تهديد لسطوة العشيرة باعتبار أن المرأة المتحررة والمتعلمة سترفض كل ما تجده غير منطقي وغير معقول في مجتمعها، وبالتالي ستتبدد سطوة العشيرة على المجتمع وتفقد الأحزاب السياسية نفوذها.
كما أن هذه الأعراف والتقاليد التي كانت تتجه نحو التلاشي تدريجيا في المجتمعات الريفية بفعل مدّ التمدن إليها أصبحت اليوم هي من تمتد إلى المجتمعات المدنية في المدن الأخرى حتى وصلت إلى العاصمة بغداد لتؤثّر عليها وتصبح هذه الأعراف والتقاليد جزءًا من عاداتها.
فالمجتمعات التي ترتدي الزي الرسمي لا تزال تخفي عقلية العشيرة المتزمتة تجاه قضايا عدة في مقدمتها قضية المرأة التي كانت في العراق تمثل نقطة ضوء طيلة عقود مضت غير أنها باتت تخفت شيئا فشيئا باتساع دائرة الأعراف العشائرية على حساب التمدن.
المرأة العراقية والعرف العشائري.. أزمة لا تنتهي !!
بقلم : إبراهيم صالح ... 31.07.2016
كاتب عراقي..المصدر : صحيفة العرب