أحدث الأخبار
السبت 12 تشرين أول/أكتوبر 2024
توزيع الميراث على الفتيات قبل وفاة الآباء ينقذ مصريات من الفقر!!
بقلم : أحمد حافظ ... 11.10.2024

*أجازت دار الإفتاء المصرية توريث الأب لبناته قبل وفاته ما يجنبهن الدخول في مشاكل مع أفراد العائلة الموسعة. ورغم أن هذا السلوك لم ينتشر بعد في مصر إلا أن فئة معتبرة من أرباب الأسر بدأت تتعامل مع إنقاذ بناتها من براثن العائلة، على أنه مصلحة وضرورة حتمية. ويتوقف توزيع التركة على الفتيات خوفا على مستقبلهن، على منسوب التحضر والوعي لرب الأسرة.
القاهرة - اضطر الأب المصري سيد حمدي إلى كتابة كل ممتلكاته إلى بناته الأربع، وهو على قيد الحياة، خشية أن يتعرضن للفقر بعد وفاته، في حين يمتلك الأب مساحات واسعة من الأراضي والوحدات السكنية، لكنه لم ينجب ذكرا، ما قد يعرض بناته لمشكلات مع العائلة ويُحرمن من الميراث أو يحصلن على الفتات مستقبلا.
ولأن الأب على قدر من التديّن استبق الخطوة بالذهاب إلى دار الإفتاء المصرية لاستطلاع رأي أحد شيوخها في ما يفكر، وحصل على مشروعية بأنه يحق له توزيع تركته على بناته في حياته، لأن ما يمتلكه جاء بعد تعب ومشقة وجهد، بالتالي فهو يخصه، يفعل به ما يشاء، بالبيع أو غير ذلك.
ارع حمدي لاصطحاب بناته إلى مكتب التوثيق الحكومي ونقل ملكية الأراضي والوحدات السكنية بالتساوي بينهن، وسلّم كل منهن الأوراق التي تثبت ملكيتها، لكنه ترك قطعة أرض صغيرة للغاية، يتقاسم فيها أقاربه بعد وفاته كي يُمسك العصا من المنتصف، فلا هو حرمهن من التركة، ولا ترك بناته يواجهن مصيرا مجهولا بعد رحيله، وقام بتأمين مستقبلهن المالي والاجتماعي.
قال الأب لـ”العرب” إنه لجأ إلى هذا الخيار بعد أن أقنعه أكثر من صديق بتكرار الأمر خوفا على البنات من الفقر والعوز على أيد أفراد العائلة، حيث لم ينجبوا ذكورا، بينما جاهدوا طيلة حياتهم في شراء ممتلكات تؤمّن مستقبل بناتهم، وقد تذهب إلى الأعمام والعمات وباقي العائلة دون أن يستفيد الفتيات منها إلا القليل، ومن الظلم أن يتعب الأب ثم يترك بناته يعانين بعد وفاته.
تلك الثقافة لا تنتشر داخل المجتمع المصري، حيث اعتاد أغلب الآباء عدم الاقتراب من التركة أو توزيعها قبل وفاتهم
ولا تنتشر تلك الثقافة داخل المجتمع المصري، حيث اعتاد أغلب الآباء عدم الاقتراب من التركة أو توزيعها قبل وفاتهم، بسبب المفاهيم الدينية التي تتوعد كل أب يفعل ذلك بأنه سيُحاسب على حرمان الورثة الشرعيين من الميراث، مع أن هناك فتاوى مرنة تصب في صالح النساء اللاتي يتعرضن لظلم وقهر وابتزاز نتيجة العادات والتقاليد بحرمانهن من ميراث الأب.
ما جعل حمدي يشعر بأنه على صواب ومحق في توزيع النسبة الأكبر من التركة على بناته أن بعض أخواته وأبنائهم عندما علموا بتصرفه، غضبوا منه وكأنه ارتكب جريمة، ولا يريدون الحديث معه أو زيارته، لأنه حرمهم من نعيم مستقبلي كانوا سيعيشون فيه بعد وفاته.
يستند الكثير من رجال الدين الوسطيين إلى الحديث النبوي الشهير “ساووا بين أولادكم في العطية، ولو كنت مؤثرا أحدا لآثرت النساء على الرجال”، وسبق وقالت دار الإفتاء إنه يحق للشخص الواهب أن يمنح بعض أولاده عطاء زائدا أو يوزع تركته على بناته لحاجة كمرض أو كثرة أولاد أو صغر السن أو مساعدة للزواج أو مساعدة على التعليم والدراسة وغير ذلك، بحيث توزع حسب ما يراه الأب محققا للمصلحة.
ولأن الشريعة الإسلامية لم تعدد مصلحة بعينها يرتكن إليها الأب في توزيع التركة، بدأت فئة معتبرة من أرباب الأسر تتعامل مع إنقاذ بناتها من براثن العائلة، على أنه مصلحة وضرورة حتمية، بغض النظر عن بعض الأصوات المتشددة أو التي تتعامل مع العنصر النسائي بدونية، وتعتبره دائما في حاجة إلى وصاية ذكورية.
أكد أحمد كريمة أستاذ الشريعة الإسلامية والفقه المقارن بجامعة الأزهر أن الترابط العائلي تراجع بشكل ملحوظ، ما أوجد آباء يخافون على بناتهم بعد الوفاة بسبب التوترات الأسرية، ومن يكتب التركة لبناته يمنحهن هبة من أمواله، وهذا ليس حراما، لأنه بذلك لا يوزع ميراثا، عكس كلام المتشددين.
وأوضح في حديثه لـ”العرب” أن كل ما يمنحه الأب لابنته وهو على قيد الحياة حق مكتسب له، سواء أأنجب ذكورا أم لا، ومن يوهم نفسه بمخالفة الشريعة عندما ينصف الفتاة بتوزيع التركة فليتعامل على أنها هبة، وليس ميراثا، وغير مطلوب من الأب أن يظلم بناته كي يرضي الآخرين.
اقتنع فكري محمد، وهو أب مصري لخمس فتيات، بأنه من الجنون أن يترك بناته وسط عائلة تحيطها الخصومات والمشاحنات بسبب الميراث، دون أن يؤمّن مستقبلهن، بتوزيع التركة عليهن في حياته وإلا ارتكب ظلما في حقهن، عندما يتركهن دون حماية، مع أن بيديه فعل ذلك لمبررات كثيرة.
تذكّر محمد في حديثه لـ”العرب” كيف أن قريبه قطع صلة الرحم مع أحد من أبناء عمومته لمجرد أنه قام بتوزيع التركة دون أن يترك له شيئا، رغم كونه لا يحتاج إلى أموال ويعيش ميسور الحال، بل كان يطمع في المزيد، ولجأ إلى القضاء للتشكيك في صحة الأوراق والمطالبة بحقه في الميراث، غير مكترث بصلة الرحم.
وقال “كان أكثر شيء يثير قلقي على بناتي أن أتركهن يعانين ويدخلن في صراعات مع أقاربي، وأسأل نفسي، هل الله يرضيه ذلك، وهل بعد أن جمعت كل هذه الأموال في حياتي لا تستفيد منها بناتي بعد مماتي، هل أكون مدركا لما سيعانينه في المستقبل من مرارة الفقر وقلة الحيلة، ولا أقوم بتوزيع تركتي عليهن وأحميهن من أي خطر قادم إليهن من العائلة. كل هذه التساؤلات إجاباتها رأيت أنها لا ترضي الله”.
صحيح أن هذا الأب لم يجد نصا قرآنيا يحلل له توزيع التركة على بناته، لكنه تعامل بالعقل والمنطق دون أن يُسلم نفسه لأي رجل دين أو شيخ يمارس الفتوى بشكل عشوائي كي يقرر لأبنائه حياة آدمية خالية من الصدامات مع الأقارب، في ظل أن العائلة نفسها منقسمة ومفتتة بسبب الخلاف على الميراث.
يصعب فصل اقتناع شريحة من المجتمع المصري بنفس المنطق عن انهيار صلة الرحم داخل الكثير من العائلات، فالأخوة لا يسألون عن شقيقهم إلا نادرا، أما لو رحل تاركا بناته، فيسارعون للمطالبة بحقهم في التركة، سواء أكانوا يحتاجون إليها أم يطمعون في المزيد، ولا يجد الفتيات سوى القليل من المال.
يرى متخصصون في العلاقات الاجتماعية أنه مهما كانت هناك رؤى دينية متفتحة وبعيدة عن التشدد لنصوص التراث، فتوزيع التركة على الفتيات خوفا على مستقبلهن، يتوقف على منسوب التحضر والوعي لرب الأسرة، لكن المشكلة أن صوت المتشددين أقوى من فتاوى المؤسسة الدينية الوسطية، فقد يلجأ بعض الآباء إلى استفتاء شيوخ السلفية في فتوى التركة ويأتي الرد بالتحريم، وتدفع البنات فاتورة باهظة.
تستسلم الشريحة الأكبر في المجتمع لأي رأي ديني يُحرم توزيع الأب لميراثه على البنات، بدعوى أن ذلك يمنع باقي الورثة الشرعيين من حقوقهم مثل الأعمام والعمات وأبنائهم، رغم أن الدين أباح للناس استفتاء قلوبهم وتجنب اتخاذ قرار يقود إلى الظلم.
وثمة مشكلة أخرى أكثر تعقيدا ترتبط بوجود فئة ليست بالقليلة تتعامل مع المرأة بنظرة دونية كأن تراها فاشلة في الحفاظ على أموالها، وإذا كانت لها تركة من أراض أو عقارات يتم منحها بعضا من المال نظير التنازل عن تركة لن تستطيع إدارتها بالشكل الأمثل، وهي نظرة سلبية اعتاد بعض الأهالي التعامل بها مع النساء، ما عمّق أزمة حرمانهن من الميراث في بعض الأماكن، خاصة في الريف وجنوب مصر.
ويصل الأمر في بعض المجتمعات أن تتعامل العائلة مع المرأة التي تتمسك بالحصول على ميراثها من أبيها كأنها ارتكبت جريمة، وإذا كانت هناك استجابة لطلبها يتم منحها حفنة من الأموال على فترات متقطعة على سبيل المصروفات التي تعينها على الإنفاق ومواجهة صعوبات الحياة، ولو كان لديها ميراث يغنيها عن التسول لأحد أقاربها، لكنها في النهاية امرأة تحتاج إلى عائل أو وصي عليها.
من يكتب التركة لبناته يمنحهن هبة من أمواله، وهذا ليس حراما لأنه بذلك لا يوزع ميراثا، عكس كلام المتشددين
تكفي متابعة الظروف المعيشية لبعض النساء اللاتي رحل آباؤهن دون توزيع للتركة قبل الوفاة، فمن السهل اكتشاف المعاناة والصعوبات اللاتي يعشنها، وقد تموت إحداهن ولا تستفيد من الأموال والأراضي والأملاك التي تركها الأب، وإذا تعرضت لأزمة مالية أو صحية وطلبت حقها من أعمامها تتعرض إلى معاملة بالغة القسوة، وهي حقيقة أصبح يدركها بعض الآباء لتبرير موقفهم من توزيع التركة.
من هؤلاء صابرين (ع)، وهي أم ريفية لأربعة أبناء، رحل والدها تاركا مساحات من الأراضي لها ولأخواتها البنات ولم ينجب ذكرا، وكلما طالبت أعمامها بتقسيم الميراث لتحصل على حقها وتزوج أبنائها يأتي الرد بالرفض، وإذا أرادت أن تحصل على نصيبها عليها أن تبيع ملكها لأعمامها كي لا تذهب الأرض لغرباء، وكلما وافقت على العرض يُطلب منها الحصول على مبلغ زهيد لا يُساوي الحد الأدنى من قيمة ميراثها.
لا تنسى الأم أنها عندما طلبت من والدها توزيع التركة قبل وفاته، خوفا من أعمامها، أبلغها بأن ذلك حرام، وأن أخواته يصعب عليهم فعل تصرف مشين أو تعريضها وأخواتها لظلم بعد رحيله، معقبّة “والدي كان مخطئا، فقد مررت بتجربة مريرة وقت الإصابة بمرض السرطان، وعندما طلبت ميراثي من أعمامي لاستكمال علاجي، تعرضت لمعاملة قاسية، لأن والدي كان يخشى ارتكاب فعل محرم بتوزيع التركة”.
عكست أزمة الأم وجود معضلة ترتبط بشعبية الفتاوى الوسطية الخاصة بالنساء في مصر، فرغم أن بعض الآراء تبيح للآباء توزيع التركة قبل الوفاة، لكنها لا تصل إلى المجتمع بالقدر الذي تنتشر به الرؤى الدينية المنغلقة التي ظلمت المرأة على مدار عقود في قضية الميراث، ما جعل بعضهن عرضة للقهر والفقر.
قالت عبير سليمان، الناشطة الحقوقية في شؤون المرأة بالقاهرة، إن توزيع التركة على البنات في حياة الأب حصانة لهن من بطش العائلة والمجتمع، والاستسلام لفكرة ارتكاب الفعل المحرم من جانب بعض الآباء، قاد إلى انتكاسات لشريحة ليست بالقليلة من النساء في البيئات السكانية المنغلقة التي تسيّر حياتها بالعرف والتقليد والفتوى.
وأوضحت لـ”العرب” أنه لا بديل عن نشر الرأي الديني الوسطي حول أحقية كتابة الأب لتركته لبناته ليكون كل أفراد المجتمع على دراية كاملة به، وعكس ذلك يعني أن الأغلبية ستظل تتعامل مع حرمان المرأة من ميراثها على أنه عرف، ويكفي أن هناك الملايين من المصريين لا يدركون أن الواقع تغير والفتوى تتغير بتغير الظروف.
واقترحت لذلك أن يتم تخصيص خطبة الجمعة في المساجد حول أحقية الأب في توزيع التركة على بناته طالما يخشى عليهم من الخطر بعد وفاته، مؤكدة أن الأزمة مرتبطة بكيفية وصول الفتوى العقلانية التي تساند النساء في مسألة الميراث إلى عموم الناس وهزيمة الخطاب المتطرف المناوئ للأنثى عموما.
ومهما كانت هناك فتاوى تساند المرأة، ومواقف أخرى لآباء تحدوا المجتمع والعرف وأنقذوا بناتهن من القهر المستقبلي بسبب التركة، تظل العبرة في أن يكون رب الأسرة نفسه لديه انفتاح فكري ولا يتمسك بمعتقدات بالية أو موروثات قديمة تحول بينه وبين تأمين حياة بناته بعد رحيله ولو دخل في صدام مع المحيطين، المهم ألا يتركهن يعشن ظروفا معيشية قاسية لمجرد الخوف من كسر العادات.

*المصدر : العرب
1