لا شك في أنَّ اغتيال شخصية قيادية مركزية في حركة حماس هو حدث مهمٌّ جداً، والأهم هو المكان والتوقيت الذي نفِّذ فيه هذا الاغتيال، وهو الضاحية الجنوبية لبيروت، المعقل الأساسي لحزب الله الذي عاش فيه الشَّهيد العاروري، بعد رحلة قاسية من السِّجن والتنقّل من بلد إلى آخر. حدث الاغتيال خلال الاشتباكات اليومية بين حزب الله وإسرائيل، ضمن دائرة المعركة الطاحنة التي تدور رحاها في قطاع غزة منذ ثلاثة أشهر.
اغتيال العاروري ضربة معنوية لحزب الله ولحماس ولجمهورهما الواسع، وفي الوقت ذاته فهي تعيد شيئاً من الاعتبار إلى أجهزة المخابرات الإسرائيلية، فالاغتيال لا يتم إلا بعد رصد تحرّكات مثل هذه الشخصيات، وتحديد الهدف بدقّة، وهذا يعني أن هناك عيوناً إسرائيلية تجول في ما يعتبر معقل حزب الله، إضافة إلى أجهزة التنصّت المتطورة جداً، إسرائيلية وأمريكية في مناطق المواجهات والصراع، رغم تأكيد مصادر حماس وحزب الله بأن العاروري كان يتجوّل في شكل شبه حُرٍّ، أي أنّه لم يتخذ التدابير الوقائية المشدَّدة، وكان يعتبر نفسه مشروع شهيد، وكان يتوقع استهدافه واستشهاده منذ فترة طويلة.
لو بدأنا بحساب الشَّخصيات القيادية التي جرى اغتيالها من شتى الفصائل الفلسطينية واللبنانية وغيرهم من المتورّطين منذ بداية الصراع، لأحصينا مئات الأسماء القيادية السياسية والعسكرية والفكرية، إضافة إلى أعداد كبيرة من القيادات التي قضت سنين طويلة بين جدران سجون الاحتلال، وبعضها ما زال في السجن، وبعضها ما زال في ساحات النِّضال، وفي نظرة سريعة إلى القائمة الطويلة، نرى أن تأثير الاغتيالات على الأرض كان ابن يومه، إذ سرعان ما تحل قيادات جديدة، بعضها كان معروفاً من قبل وبعضها كان مجهولا. ويبقى الصراع، والكرُّ والفرُّ على ما هو عليه ويزداد حدَّة عاماً بعد عام. في اغتيالها للشهيد العاروري وضعت إسرائيل حزب الله أمام خيارين كلاهما صعب، فإما التّصعيد والتعجيل في ردّ عسكري واضح مؤلم لإسرائيل، وهذه مخاطرة ستواجه بتصعيد إسرائيلي، الأمر الذي قد يقرّب حزب الله من فقدان السَّيطرة على الدور الذي اتخذه منذ بداية معركة طوفان الأقصى، أو الحفاظ على التوازن المحسوب بدقّة بين الإسهام في إشغال الجيش الإسرائيلي بجزء لا بأس من قواته على الحدود الشمالية، لتخفيف الضغط على المقاومة في قطاع غزة، وفي الوقت ذاته الامتناع عن التصعيد إلى درجة المواجهة الشّاملة، التي تعني تنفيذ إسرائيل لتهديداتها بتدمير بيروت ومدن لبنانية أخرى، مثلما حدث لمدن ومخيمات قطاع غزّة، رغم أنَّ الجانب الإسرائيلي سيتكبد خسائر أكبر بكثير من خسائره في حرب قطاع غزة في الجانب المدني، فالمسافة أقرب والقبة الحديدية أقل فاعلية في القرى والبلدات الحدودية في الشّمال، وسلاح حزب الله أثقل، وبعضه أكثر تطوّرا، ورغم ذلك، فإسرائيل تسعى إلى حسم الأمر مع حزب الله، لأنَّ حربها في قطاع غزّة قد تستمر لأشهر. هذه الوضعية المتوازنة التي اتّخذها حزب الله حتى الآن ترفضها إسرائيل، لأنّ ما يجري تحوَّل إلى حالة استنزاف ولو في نطاق ضيّق، فهناك إصابات متصاعدة بين الجنود والمدنيين والممتلكات، والأهم هو التأثير المعنوي على سكان المستوطنات الشَّمالية الذين نزح معظمهم بعيداً عن مستوطناتهم إلى مناطق يعتبرونها أكثر أمناَ، ولهذا تأثيرٌ سلبي بعيد المدى على المشروع الاستيطاني في المناطق الحدودية، إذ لا يشعر الناس بالأمن، إضافة إلى مكانة المنطقة في المجال الزراعي والاقتصادي، فهناك الجانب الاستيطاني المعنوي في هذه المناطق، التي تعبّر عن الرّوح الصهيونية والإيمان بحركة الاستيطان، وخصوصاً في المناطق الخطرة. ضمن مشاريع دعم الاستيطان وتشجيعه في المناطق الحدودية، تمنح دولة إسرائيل الكثير من التسهيلات الضرائبية والمنح والدّعم الخاص لسكان القرى الحدودية في مختلف مجالات الحياة، لجذبهم وترغيبهم للعيش فيها، وما يجري خلال هذه المواجهة، أن عشرات المستوطنات والبلدات القريبة من الحدود غادرها سكانها، وهذا أمرٌ خطير في تاريخ الصراع، خصوصاً أنّه يتزامن مع نزوح معظم سكان ما يسمى غلاف غزة تحت تأثير الصدمة والحَرب، إضافة إلى أن معركة غزّة ما زالت غامضة المآل، والأرجح عدم وجود حسم في الأفق القريب وحتى البعيد، فالمواجهة قد تتحوَّل إلى استنزاف طويل الأمد على غير ما ظنّ وخطّط مجلس الحرب في إسرائيل.
تسعى القيادة الحالية في إسرائيل إلى تفجير الوَرَم من جهَّة الشَّمال، وتفضِّل المواجهة الشاملة على حرب استنزاف، في عهد حكومة تسعى إلى ترسيخ قيمة الاستيطان في كل فلسطين، وما تسميه أرض إسرائيل بين البحر والنهر. حاولت إسرائيل الحؤول دون توسيع المواجهة على الجبهة الشمالية، بالتزامن مع جبهتي قطاع غزة والضفة الغربية، ولكن مع تصعيد العِيار، خصوصاً بعد اغتيال رضا موسوي، القيادي في الحرس الثوري الإيراني أواخر الشّهر الماضي في سوريا، لم يعد الأمر قابلاً أكثر لضبط النفس. حافظ حزب الله في المواجهة الأخيرة على دوره، كما رسمه بعد اشتعال معركة طوفان الأقصى وكما أراده، وهو التوازن بين الإسهام في التخفيف عن غزّة وفي الوقت ذاته عدم الدخول في مواجهة شاملة لا يريدها، كما لا تريدها إيران لحساباتها المبنية منذ سنوات على شدّ الخيوط، ولكن ليس إلى درجة انقطاعها، وهو ما تعلن عنه إيران في كلَّ فرصة وبعد كل حادثة، فهي لا تريد مواجهة شاملة مع إسرائيل والولايات المتحدة، رغم استفزازات إسرائيل الكثيرة واغتيالها لشخصيات داخل إيران. أغلب الظن أنَّ حزب الله سيحاول البقاء في الإطار الذي رسمه لنفسه منذ بداية طوفان الأقصى، مع إضافة عيار الاشتباك قليلا، وبهذا ينقل الكُرة مرّة أخرى إلى ملعب إسرائيل، بأن تتقبّل حالة الاستنزاف مع زيادة العيار، أم تردُّ بعنفٍ أكبر مما فعلت حتى الآن، وتوسيع الدائرة إلى مواجهة واسعة! نصر الله في امتحان، وحركة حماس تخوض المعركة، بكلِّ ما لديها من قوة، وهو ردّها على الاغتيالات التي بدأت منذ عقود ولم تتوقّف.
في إسرائيل، قيادة وشعباً، يسودُ شعور بالحصول على صورة تعزِّي بالذات الجانب المخابراتي الذي تعرَّض إلى هزَّة عنيفة في السَّابع من أكتوبر، حيث بدا وكأنّه كان في سبات عميق عن ما دار تحت سمعه وبصره في قطاع غزة المحاصر، وتعرّض إلى كثير من الانتقادات ولأصوات تنادي بمحاسبته، خصوصاً أن هذا الاغتيال يأتي بعد أقل من أسبوعين من اغتيال رضا موسوي في حيّ السّيدة زينب في سوريا. إنها حلقة أخرى من حلقات الاغتيال والرّدود، والرّدود المضادة، التي لا نهاية لها حتى في الأفق غير المنظور، والتي سوف تستمر ما دام هذا الاحتلال مستمرّاً.
نصرُ الله في الامتحان!!
بقلم : سهيل كيوان ... 04.01.2024