حدثني مختص في طب النساء والأجنّة (الجنكولوجيا) عن جهل كبير في الموضوع وما يتفرّع عنه لدى الرجال والنساء في المجتمع العربي، وهذا يسبب في كثير من الأحيان مشكلات قد تصل إلى الخطر على الأرواح.
قال الدكتور (مشير): دعتني جمعية نسائية في إحدى مناطق الضفة الغربية إلى مقرها لأحاضر عن ملابسات تخص غشاء البكارة، بهدف توعية الشبان والفتيات، خصوصا أولئك المقبلين على الزواج، للتروي وعدم التسرع في الحكم على وجود غشاء بكارة أو عدم وجوده، فهناك حالات لا تظهر فيها نقاط دم عند فضّه، وقد لا يفض حتى بعد ممارسة الجنس، وبسببه وقعت حالات طلاق وانتكاسات لبعض الأسر بعد الفرح، وأعيد فتيات إلى ذويهن ذليلات مكللات بالعار والكآبة، وطبعا هذا يُدخل أسرة كل واحدة منهن في دوامة حول رد الفعل فالضغط الاجتماعي ليس بسيطا، الأمر الذي قد انتهى في بعض الحالات إلى القتل، علما أنه ليس كل ما حدث أعلن عنه.
تحمست ورأيت بأنها رسالة وطنية وإنسانية، فهناك قضايا كثيرة يومية معقدة وشائكة يعاني الناس منها، وليس الاحتلال وجرائمه فقط.
أعددت فيلما لأعرضه على الحضور، واتفقت مع المنظِّمات بأن يُحضرن جهاز عرض وأنا أحضر حاسوبي معي.
التطبيق الموجِّه في الطرق (waze) لا يعمل في معظم مناطق الضفة الغربية، ولهذا سألت أكثر من مرة حتى وصلت البلدة، ثم وُجِّهت إلى مقر الجمعية، رأيت لافتة واضحة باسمها، قرأت الدعوة مرة أخرى، وتأكدت أنه المكان المقصود وشعرت بارتياح لأن الأمور ميسرة.
حملت حاسوبي وأغلقت سيارتي ومضيت إلى مدخل الجمعية، حييت من وقفوا هناك ثم صعدت درجا إلى الطابق الأول، ودهشت من عدد الرجال والشبان الكثير الذين تجمعوا في الممر والقاعة، فوجئت أن كل هؤلاء أتوا لسماع محاضرتي، فهذا العدد نادرا ما أراه، بعضهم يعتمرون الكوفيات وبعضهم يلف جسده بعباءة وشبان من أعمار مختلفة، ولم يكن سوى بضع نساء.
معظم الحضور من الذكور، وهذه إشارة ممتازة، فهذا هو جمهور الهدف، هؤلاء الرجال الذين يبتّون في قضايا الشرف والعرض، هم المساكين الذين يجلدهم العار ويواجهون جلافة بعضهم بعضا، وهم أولى بشمعة تنير عقولهم، فهم الذين ينكسون عُقُلِهم فوق كوفياتهم ويُسْبِلون جفونهم خجلا من الناس.
وأضاف الدكتور: في الحقيقة بدأت بترتيب كلمة مرتجلة لأبدأ فيها محاضرتي أقول فيها: «أنا سعيد بهذا الحضور من الرجال، لأن وعي الرجل قوة وحماية له ولأسرته، ورحمة للفتيات البريئات، بهذا الوعي نتجنب ظلمهن وظلم أنفسنا وظلم بعضنا بعضا، وهذا يتفق مع شرع الله».
اتخذت زاوية جلست فيها وفتحت حاسوبي على ركبتي ورحت أعِدُ الصفحات التي سأعرضها، في الوقت ذاته كنت أتوقع أن تأتي إحدى المنظِّمات لترحب بي وتتحدث معي عن البرنامج.
كانت فرحتي تزداد كلما دخل شبان جدد إلى القاعة، وانتبت أن أكثرهم لا يجلسون على المقاعد، بل يقفون في حلقات ويتهامسون ويلقون نظرات غامضة اتجاهي، كذلك فإن الضيافة التي يفترض أن تكون في مثل هذه اللقاءات مثل فنجان قهوة وحبة حلوى غير موجودة، قلت لعلها جمعية فقيرة، أنا أيضا أتيت تطوعا من مسافة بعيدة.
انتبهت أن هناك من يشيرون إليّ فشعرت بحياء، وصرت أرفع رأسي بين حين وآخر عن شاشة الحاسوب وأنظر إليهم ليشعروا بأنني أبادلهم الاهتمام والاحترام، وفجأة انتبهت لرجل شديد الشبه بالمرحوم والدي الذي شقي كي يعلمني، سَرت في جسدي قشعريرة، وتمنيت لو أنه ما زال حيا، كنت أحضرته معي ليرى رجالا وشيوخا من أصحاب الحل والربط يستمعون إلى محاضرتي حول أمر في غاية الحساسية، بلا شك كان سيفخر بي، لأنني بهذا أنقذ أرواحا بريئة، وأعيد لكثير من الناس كراماتهم وهيبتهم عندما يفهمون حقيقة هذا الغشاء اللعين، وسيتنفس بعضهم الصعداء ويشكرني من القلب، في الحقيقة شعرت بسعادة تغمرني ثانية بعد ثانية.
دار حديث بين شبيه والدي وآخرين، ثم رأيته يتقدم إليّ، ولكنه عابس الوجه تماما مثل والدي، وفكّرت بأنه عندما يصبح قريبا سأقف لأصافحه وسوف أعانقه، كثيرا ما يحدث هذا الإحراج والارتباك بين الاكتفاء بالمصافحة أم إضافة العناق الخفيف، وفكرت بالتقاط صورة (سيلفي) معه، وبأن أصوّره صورة مقرّبة جدا تبرز ملامحه لأعرضها على والدتي وأخواتي، لن يصدقوا الشبه الشديد بينهما، حتى الخال فوق جبهته من جهة اليسار باللون والحجم والشكل نفسه، ونفس تغضنات الجبين العريض، التشابه غير معقول.
تقدم الرجل مني وقبل أن يصلني وقفت ومددت يدي للمصافحة، فمد يده ببرود كأنه متقزز ثم قال بصوت يكاد يكون همسا: حضرتك الدكتور بتاع المحاضرة!
ابتسمت وقلت له- نعم أنا بتاع المحاضرة…
- وجئت للحديث عن ذاك الشيء…
ابتسمت مرّة أخرى وقلت: يا حاج، ذلك الشيء له اسم…
وحينئذ قال لي بجفاء- احترم نفسك يا دكتور، أنت في بلد محترمة وعند أناس محترمين.
-أنا لا أمزح يا حاج، هذا له اسم، مثله مثل طبلة الأذن والسُرّة والحنجرة وال…
- طيب عال، هل ترى هذا الجمهور! أمهلك خمس دقائق للخروج من البلدة والعودة بالسلامة من حيث أتيت، أو أنك سترى ما لا يعجبك أنت وسيارتك والجمعية التي دعتك.
غاض اللون من وجهي وجفّ حلقي، أغلقت حاسوبي وبصعوبة تغلبت على الصدمة ورددت محاولا تلطيف الجو: هل تعرف أنك تشبه المرحوم والدي كثيرا….
فرد بغضب- دعك الآن من الكلام الفارغ… يلا من غير مطرود…
تأبطت حاسوبي وبدأت أخطو مرتبكا نحو الباب، استرقت نظرة حولي لعل أحدا ما يسعفني من هذا الخذلان، فانتبهت لضابط شرطة وسيدة يقتربان مني: متأسفة كثير يا دكتور، خطبة الجمعة في مسجد النور كانت هجوما على الجمعية وعلى المحاضرة…
- ولكنها محاضرة علمية…
وعاد شبيه والدي ليؤكد- علمية مش علمية، يلا تفضل بلا مطرود..
وقال ضابط الشرطة: ما رأيك أن تحكي يا دكتور عن أضرار الأرجيلة، أما عن ذلك الشيء فلن أستطيع حمايتك..
تدخل شبيه والدي مرة أخرى- لا نريد منك لا أرجيلة ولا سجائر…
تدخل رجل آخر وقال بتهذيب: أدعوك عندي إلى عشاء، أهلا وسهلا بك، ولكن انس قصة المحاضرات..
- شكرا شكرًا، ثم التفتُ إلى شبيه والدي وقلت له: بلاش محاضرات، فقط اسمح لي بالتقاط صورة للذكرى معك…
فرد وقد فتح عينيه على وسعيهما- لشو الصورة، يعني تتمسخر، تفضل من غير مطرود وبسرعة…
تفضل من غير مطرود…!!
بقلم : سهيل كيوان ... 09.11.2017