عرفت شعوب العالم حرب التحرير الشعبية كشكل أعلى من الكفاح لانتزاع الحرية بقوة السلاح، ونظّر لها قادة عظام برز منهم في القرن العشرين: ماوتسي تونغ،هوشي منه، جيفارا، كاسترو، ومن الذين ملأوا سمع العالم قائد حرب التحرير الشعبية في فيتنام الجنرال جياب، الذي قاد الانتصار على الفرنسيين، ومن بعدهم الأمريكيون رغم آلتهم العسكرية الهائلة.
شعوبنا العربية شاركت في إعلاء خيار حروب التحرير الشعبية، ولا سيما بثورة الجزائر التي تواصلت ثمانية أعوام، من العام 1954 وحتى العام 1962، فنالت الاستقلال والحرية بالدم، والتضحياتـ والبطولة.
الشعب الفلسطيني هو عميد ثورات شعوب العالم على امتداد القرن العشرين، وما زال هذا خياره في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، لأنه رغم طول مشواره لم يحرر وطنه من الاحتلال الصهيوني الذي بز كل الاحتلالات العنصرية التي سبقته في العالم، والتي انتهى آخرها في جنوب أفريقيا بقيادة نيلسون مانديلا ورفاقه.
بعد هزيمة حزيران 67 تفجرت المقاومة الفلسطينية، وصار الفدائي الفلسطيني رمزا للبطولة، وعنوانا لحقبة جديدة في حياة العرب الذين رفضوا الهزيمة، وأعلنوا أن الشعب العربي من المحيط إلى الخليج اختار حرب الشعب، بعد أن سقط رهانه على الجيوش التي دفعت فلسطين ثمن هزيمتها المرّة عام 48، وتكرر الأمر من جديد في حزيران 67 .
استقطبت المقاومة الفلسطينية ألوف الشباب العرب الذين تدفقوا على الأردن، وتوجهوا إلى الأغوار ليكونوا على مقربة من فلسطين، وعلى ثراها قاتل هؤلاء المؤمنون بعروبة فلسطين، وبحرب التحرير الشعبية، واستوعبوا كتابات منظري هذه الحرب التي باتت زادا فكريا لأجيال اندفعت إلى ميدان المعركة.
آمن أولئك الشباب القادمون من مشرق الوطن العربي الكبير ومغربه بأن معركة تحرير فلسطين تخص كل عربي، وتحدد مستقبل كل الوطن العربي، وأن فلسطين معركتهم كما هي معركة شقيقهم الفلسطيني.
كتب أبرز قادة حرب الشعب في القرن العشرين، ماوتسي تونغ: في أيام الهزائم نستذكر الانتصارات، وفي أيام الانتصارات نستذكر الهزائم لنتعلم منها.
نحن العرب، وأقصد العرب المؤمنين بعروبتهم، وبفلسطين قضية مركزية وجودية لهم، لا بد أن نتأمل ما يجري في الوطن العربي، وما يدبر له.
لقد استبشرنا بالحراكات الشعبية، الانتفاضات العاتية، انفجار الاحتقان الذي طال أمده من نظم حكم ظالمة..إلى أن أشعل البوعزيزي التونسي عود ثقاب في جسده، فإذا بالنار الصغيرة تلامس البارود المختزن في نفوس ملايين العرب، وإذا بالشوارع والميادين تكتظ بالحشود الزاحفة التي استشعرت قوتها في وجه هشاشة أنظمة القمع والقهر.
أخذت المفاجأة أعداء الأمة بعد سقوط بن علي، ومبارك، فتحركوا، ومعهم تحرك الطغاة التابعون الذين ارتعدوا رعبا من الزلزلة الجماهيرية العربية التي تتهددهم.
المستبشرون، وأنا منهم، قلقوا على الحراكات الشعبية، فهي بلا قيادات، ولا قوى حزبية وسياسية منظمة قوية تقود وتؤطر، وتحدد الوجهة، وتخرج بهذه الحراكات من أفقها الضيق الإقليمي إلى الأفق القومي الذي يحدد أهداف الأمة، ويحدد من العدو ومن الصديق، بالخبرات المتراكمة التي دفعت شعوبنا ثمنها فرقة، وضعفا، وتغييبا، ونهبا لثرواتها، واحتلالا لأقدس أرضه.
أعداء انتفاضاتنا، وحراكاتنا، أدركوا بهلع إلى أين تمضي, فثمة بشائر ثورة عربية واحدة تتخلق في الشوارع والميادين، وتهب رياحها على كل بلاد العرب، وهو ما يعني الاشتباك الجذري مع أمريكا، والكيان الصهيوني، والرجعيات العربية.
أعداء الأمة لم يقفوا صامتين منتظرين مآل الأمور، بل اندفعوا يخربون ويشوهون، ويستخرجون من داخل مجتمعاتنا العربية أبشع ما فيها، ويدفعون به لتحطيم آمال ملايين العرب..عرب الشوارع والميادين الذين ضحوا بالدم ، وأبدعوا، وتجلت روحهم الجمعية العميقة الأخوة والإنسانية من تونس إلى مصر، إلى اليمن، إلى ليبيا، إلى البحرين، إلى سورية.
لقد تجاوبت أصداء هتافات ملايين الحناجر في عواصم ومدن وقرى بلاد العرب: حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية..وارتفعت أعلام فلسطين، وانطلقت الهتافات بعروبتها، وتجلّت روح الأمة بالتواصل بين المنتفضين في الأقطار العربية لتبادل الخبرات، انطلاقا من أن المعركة واحدة.
ماذا نرى الآن؟!
عمليات إرهابية تستهدف الناس العاديين..الناس العابرين في الشوارع، والمتجهين إلى أعمالهم، وجامعاتهم، وحياتهم اليومية..الناس الذين تدفقوا إلى الشوارع مطالبين بالحرية، والعدالة الاجتماعية، والكرامة الإنسانية. عمليات إرهابية تستهدف مناضلين عرفوا بصلابتهم، وانتمائهم القومي، وبكفاءتهم: في تونس، واليمن، ومصر، وسورية، وليبيا، ولبنان رغم أنه أعلن عن النأي بالنفس سياسة يتبعها مع ما يجري في سورية، علما أن مئات الإرهابيين يتسربون من حدوده!
لقد اختطفت الانتفاضات والحراكات الشعبية، وشوهت، ثم هاهي حرب التدمير الذاتية من حيث التنفيذ، بتخطيط جهنمي يدبره أعداء الأمة، بتمويل (عربي) نفطي، وبأدوات جاهلة مغلقة العقول،حشيت رؤوسها بالأوهام، وحقنت نفوسها بالحقد على كل أبناء الأمة، فهم مؤمنون، وغيرهم كفرة يستحقون القتل، ولذا يفجرون أنفسهم فيهم دون أي شعور بالإثم أو الذنب، بل إنهم يمضون في موتهم مجللين بدم ولحم الناس.. مستبشرين بالجنة التي أُقنعوا بأنها تفتح أبوابها بانتظارهم!
حرب واحدة، بمفاهيم واحدة، بأساليب متطابقة، تشن في سورية على الشعب السوري، وكل ما بناه، قتلاً، وتدميرا. حرب واحدة تحصد أرواح العباد في اليمن، مصر، تونس، وليبيا، وفي سورية تتجلى كل قباحتها، وهدفها الشرير الذي بات مفضوحا هو: تدمير سورية، وتمزيق نسيج شعبها، وتنفيذ مخططات التقسيم للبلد، والانتقال من بعد ، أو بالترافق، إلى أقطار عربية أخرى!
في العراق ظهر الإرهاب بعد بروز المقاومة العراقية المظفرة ردا على الاحتلال الأمريكي، فدقت الأسافين بين أبناء الوطن الواحد، وبهذا حرفت المعركة عن هدفها، وصار الصراع السني الشيعي بديلاً لمقاومة الاحتلال الأمريكي، وما زال حصد الأرواح العراقية البريئة متواصلاً!
في سورية يقتتل يوميا من يدعون أنهم يريدون بناء دولة الإسلام، ودولة الخلافة، رغم أنهم ينتمون( للقاعدة)، ورغم توجيهات الدكتور أيمن الظواهري لداعش بالتوجه للعراق، وللنصرة بالبقاء في سورية!
إنهم يتقاتلون على( الغنائم) التي ينهبونها، فمشروعهم جميعا ليس البناء، ولكنه الهدم، وهذا هو دورهم، وهذا ما سحّروا له، ولهذا يمولون، ويسلحون، ويدفع بهم عبر الحدود السورية التركية، اللبنانية، العراقية،الأردنية، ولهذا تعالجهم ( إسرائيل) في مستشفياتها، ولهذا تعتم ( إسرائيل)على اتصالات الجيش العربي السوري في غوطة دمشق دعما( لمجاهدين) لا تخشى استدارتهم عليها لإنقاذ القدس والأقصى!
مصر تستنزف، ليبيا تنهب، اليمن تدمى، تونس تعاق مسيرتها، سورية تخوض حربها التي هي في الجوهر حرب الدفاع عن وحدتها ومستقبلها في وجه كل أعداء الأمة ومخططاتهم التي لم تعد خافية، ومن يموّل يعلن بصفاقة، ومن يسلّح يتباهى وهو منتش بحرقه لدمشق، وحلب، وحمص…
حرب التدمير الذاتية بالمال والسلاح( العربي)، بالدم العربي، في خدمة أعداء الأمة، وفي المقدمة أمريكا والكيان الصهيوني، هي الحرب البديلة لحرب التحرير الشعبية العربية التي هدفت لتحرير فلسطين، ووحدة الأمة، وامتلاك الثروات التي تنهب منذ عقود.
المعركة على الإرهاب، ومن يخطط له، ويموله، ويسلحه، هي معركة كل مجتمعاتنا، بكل مكوناتها، فالإرهاب يستهدفنا جميعا، وهدفه تضليلنا عن أعدائنا، عن طريقنا وأهدافنا…
حرب التدمير الذاتية!!
بقلم : رشاد أبو شاور ... 11.12.2013