"العُذْر الوحيد للاستعمار هو الطبّ"... يقول هيوبرت ليوتي، أحد الزعماء الفرنسيين الذين أيّدوا الطب العسكري، كأداة لإرساء السلطان الفرنسي في إفريقيا(1)، إذ ليس من مساحة جرى وأَن تصالَح فيها مُستعمَر مع مُستعمِره مثلما جرى في حقل الطب والمرض. حتى نحن الفلسطينيون في فلسطين، حيث أوضح وأقبح نموذج استعمار استيطاني نعرفه، فإن مشافي الدولة العبرية وحدها القادرة على جعلنا أحيانا في موضع المسح، إلى حدِّ الصفح والتصالح مع الصهيونية عبر نظامها الصحي.
إنّ للطب الأوروبي بشكليه التبشيري والاستعماري منذ القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، دور في إنقاذ حياة مئات الأفراد في مجتمعاتنا الشرقية بلا شك؛ غير أن المُستعمِرين كانوا وما زالوا خطرا صحيًّا على حياة المُستعمَرين! وهذا ما ظلّ يثابر دافيد أرنولد على إثباته في كتابه "الطب الإمبريالي والمجتمعات المحلية"، إذ استجوب أرنولد فيه صحة "إنسانية" الطب الاستعماري الحديث، خصوصا في ما يُعرف بـ"سياسات المرض"، إذ لم يرَ المُستعمِرون الأوروبيون البيض، أنّ أمراض الأفارقة والآسيويين وأبناء الأميركيتين، مُميتة، بقدر ما وجدوا فيها أمراضا "مُعيقة للتحضُّر". وبالتالي، لا يمكن السيطرة عليها إلا عن طريق ما في الطب الأوروبي من فائق المعرفة والمهارة(2).
تظلّ حكاية الطب الاستعماري ونشأته في بلادنا وغيرها، حكاية هيمنة واستعلاء، أكثر مما هي قصة مرض ووباء. وفيها ما فيها من سياسات التعسّف والاختراق، فضلا عن السيطرة والابتزاز، ففي كتابه "العام الخامس للثورة الجزائرية"، وهو بالمناسبة الكتاب الأقل شُهرة والأكثر أهمية برأينا لفرانز فانون عن الجزائر؛ يُشير فيه إلى ما يمكنّا أن نسمّيه "الإدلاء مقابل الدواء"، إذ نجح الأطباء الفرنسيون في استنطاق الناس، أكثر مما استطاعه المحققون العسكريون. كما يحاجج فانون في قدرة الطب الاستعماري على تسكين الألم والأُمَم معا(3).
"طبّ أوروبيّ بشكليه التبشيري والاستعماري"؛ في الصورة يظهر فيلهلم الثاني (Wilhelm II) الذي كان قيصرا للرايخ الثاني الألماني، إلى جانب كونه ملكا لبروسيا، خلال زيارة أما عن فلسطين، فقد تسلّل الطب الحديث إليها مخترِقا إياها، قبل أن يجري استعمارها واستيطانها، فمنذ مطلع القرن التاسع عشر، اشتغل الأوروبيون على إعادة إنتاج فلسطين بوصفها "مَحمية دينية" أثارت حميّة كل أوروبي مسيحي - مؤمن، للقدوم إليها قبل الساسة والعسكر(4)، لتشهد فلسطين منذئذ حراكا تبشيريا - دينيا، لم تعرفه أي مُستعمَرة أخرى على وجه البسيطة. كان الطب بابًا مُشرَّعًا ومُشرِّعا لتسلّل المبشّرين الأجانب لبيوت وأسرّة الفلسطينيين، ومنهم الألمان، وخصوصا الشمّاسات الألمانيات.
الشمّاسات
سنة 1859، هاجم أهالي مدينة القدس القنصلية الألمانية (البروسية)، وأضرموا النار فيها، كما قُتل رجل من أهالي المدينة على أيدي أهلها. كان ذلك الهيجان كلّه بحسب المصادر، بسبب تنصُّر أحد شبان المدينة العرب في المشفى الألماني. قُتل والد الشاب المتنصّر، بينما فرّ الشاب الذي اعتبره أهالي المدينة "مرتدا" إلى خارج فلسطين، بمساعدة المطران الألماني في المدينة غوبات(5).
وقبلها بأيام، وبحسب تقارير لـ"جمعية الكيزرزفرت"(6)، اعتنقت سيدة مقدسية مسلمة المسيحية على أيدي شمّاسات المشفى الألماني أثناء علاجها. كما عملت السيدة المتنصّرة على تنصير ابنتها التلميذة في مدرسة "طاليثا قومي"، ولمّا علمت الشمّاسات بعِلم السلطات العثمانية بالأمر، قمن بتهريب الأم وابنتها إلى مصر بأسماء مستعارة(7).
كان ذلك بعد سنوات من نجاح نشاط شمّاسات "جمعية رهبنة الكيزرزفرت" الألمانيات في مدينة القدس وضواحيها، في اختراق البيئة المحلية عبر مشاريع خيرية تبشيرية، كان على رأسها التعليم والطب، إذ حطّ سنة 1851 كل من الراهب البروتستانتي الألماني تيودر فليدنر ومعه أربع شمّاسات ألمانيات في مدينة القدس، موفَدين من قِبل "جمعية الكيزرزفرت" التي أخذت على عاتقها تأهيل الشمّاسات (خادمات الرب)، من أجل إعادة إحياء المسيحية على المذهب البروتستانتي في الأراضي المقدسة.
فور وصول الراهب وشمّاساته الأربع القدس، كانت أسرّتهم قد أُعدت لهم، وأخرى فارغة في بيت مستأجر على جبل صهيون، تعود ملكيته إلى أحد الضباط الأتراك، والذي يُدعى خليل آغا، حيث افتتحت الشمّاسات فيه أوّل مشفى برعايتهن في عام قدومهن ذاته. عُرف المشفى بمشفى شمّاسات الكيزرزفرت(8). وأطلق عليه أهالي مدينة القدس في حينه "إسبتار الألمانيات".
ومع أن مستشفى شمّاسات الكيزرزفرت قد افتُتح مجانيًّا لجميع الطوائف والجنسيّات، إلا أن مرضاه المترددين عليه كانوا في معظمهم من الأجانب الأوروبيين المُقيمين في القدس، ففي السنة الأولى تمت معالجة 46 رجلا و 32 إمرأة، منهم 14 بروتستانتيا ألمانيًّا، و3 من الكاثوليك، و9 من اليهود وبعض الأحباش والإيطاليين والروس. ومن أهالي المدينة العرب، لم يكن غير 5 مرضى تلقوا علاجا فيه. وبحسب عبد الرؤوف سنو نقلا عن تقرير لجمعية الكيزرزفرت، فقد وصفت شمّاسات المشفى المقدسيين، وخاصة الفلاحين منهم، بـ"الفوضويين والقذرين"، ما جعل ذلك سببا في عدم معالجتهم، وإغلاق باب المشفى أمامهم(9).
"طاليثا قومي"
بعد سنوات من ذلك، وتحديدا في سنة 1855 أعادت الشمّاسات النظر في سياستهن الصحية تجاه السكان المحليين في القدس، وقررن افتتاح قسم لهنّ في مشفاهن، في محاولة منهن لفتح باب العلاج والتنصير معا، وأخذت أعداد المرضى العرب المسلمين من أهالي المدينة تزداد إلى حدّ "رعى فيه المشفى الألماني (البروسي) المحمديين أكثر من أية مؤسسة صحية أخرى"(10). الأمر الذي جعل الشمّاسات يَرَيْن بذلك "انتصارا للمسيحية على الإسلام"، خصوصا أن من بين مرضى المشفى، كان هناك متصوفون ورجال دين مسلمون(11).
لم يقتصر نشاط الشمّاسات على التطبيب في مشفاهن، فالمساحة التي كان يُتيحها سرير المرض مع المريض على المستوى الاجتماعي، قد أتاح لهن إحياء "طب الفراش" على "طب السرير"(12)، فإذا كان الأخير يعني استقبال المرضى في المشفى، فإن طب الفراش كان سابقا عليه زمنيا، إذ كان المطبِّب هو الذي يزور المريض في فراشه، وهذا ما فعلته الشمّاسات فعلا في القدس، حيث بدأن في زيارة مرضاهن في بيوتهم، خصوصا النساء المحليات، في محاولة لتقديم الأدوية والتعاليم المسيحية البروتستانتية معا.
ازدادت خلال عقدي خمسينيات وستينيات القرن التاسع عشر ثقة أهالي القدس بمشفى الشمّاسات، ولم يعد مشموسا(13) كما كان عليه الأمر عند افتتاحه، إذ ازداد عدد مرضاه العرب المقدسيين وخاصة المسلمين منهم، مما دفع الشمّاسات إلى توسيع المشفى ببناء غرفتين إضافيتين على سطح منزل الآغا، فارتفع عدد المرضى المُعالَجين سنويا فيه إلى 100، الأمر الذي دفع في مرحلة تالية إلى مساعٍ من أجل تشييد مبنى جديد في حديقة منزل الآغا، يتبع للمشفى. ورغم معارضة السلطات العثمانية بمنح رخصة بنائه في البداية، استنادا إلى مرسوم سلطاني يقضي بتشييد أبنية جديدة عند مسافة معينة خارج سور القدس، إلا أن الشمّاسات قد استطعن انتزاع الرخصة من العثمانيين، بعد توسُّط القنصل الألماني (البروسي) في القدس(14). وفي عام 1860 تم تشييد المبنى وتدشينه بطابقين، خُصِّص الأول للمرضى الرجال، وفيه غرفتان ضمّت كل واحدة 12 سريرا، فيما خُصِّص الثاني للنساء، وضمّ 13 سريرا، كما أُنشئ فيه قسم لمعالجة أمراض العيون، وغرفة صغيرة للعمليات(15).
سنة 1853، وصلت إلى القدس شمّاسة أخرى، سيطغى اسمها على كل شمّاسة قبلها عرفها المقدسيون، هي الراهبة شارلوطة بلتز، في مهمة لإحياء النشاط التعليمي - التبشيري في القدس وضواحيها، وقد ظلّ اسم شارلوطة مقترنا بتعليم البنات في القدس لمدة نصف قرن، حتى أطلق السكان المحليون على مدرسة البنات اسم "مدرسة شارلوطة"(16). وإذا ما استاء الناس من صرامة تعاليم مدرستها، غضبوا منها وقتها سابِّين إياها، ومستبدِلين حرف "اللام" في اسمها بـ"ميم" غضبهم.
كان أهمّ المشاريع التبشيربة - التعليمية التي بادرت إليها شارلوطة في سنة 1860، هو تشييد مبنى جديد لمدرسة البنات الألمانية، بعد أن دفعت شارلوطة جمعية الكيزرزفرت إلى شراء قطعة أرض على "ربوة غوتفريد"، نسبة إلى الفارس الصليبي غوتفريد فون بويلون، الواقعة على رأس جبل بيت جالا، المُطِلّ على وادي المخرور غربا. وكان أهالي المنطقة يطلقون عليها اسم منطقة "السدر"، نسبة لشجر السدر فيها(17)، حيث كانت هذه الربوة منتجعا صيفيًّا للشمّاسات في حينه.
استمرّ بناء المدرسة حتى عام 1868، وقد أشرف على تصميمه وبنائه، الراهب شيك، وأُطلق عليها اسم "طاليثا قومي"، وهذا الاسم هو كلمة آرامية وردت في إنجيل مرقص (5، 41)، حيث ورد أن المسيح قد أعاد فتاة ميتة إلى الحياة مجددا بعدما ناداها قائلا " قومي أيتها الفتاة" وطاليثا تعني فتاة. وكان اختيار هذا الاسم للدلالة على مهام الشمّاسات في مساعدة المرأة العربية على النهوض الاجتماعي(18).
في 27 كانون الثاني/ يناير 1868، انتقلت الشمّاسات إلى المدرسة الجديدة "طاليثا قومي" المؤلَّفة في حينه من طابقين، مع 89 فتاة بينهن 4 فتيات مسلمات. ظلّ عدد التلميذات العربيات المسلمات في "طاليثا قومي" قليلا، مقارنة بعدد مرضى العرب المسلمين المُعالَجين في مشفى الشمّاسات في القدس، والذي بلغ 3/2(19)، ممّا يُحلينا إلى فكرة مفادها، مدى حساسية السكان المحليين في القدس وضواحيها تجاه تعليم بناتهن، معتبرين إياه اختراقا تربويًّا واجتماعيًّا عموما، وفي مدرسة مسيحية تبشيرية خصوصا؛ بينما استطاع الطب إسقاط هذه الاعتبارات من حسابات الناس، فحاجتهم للعلاج والتداوي، وهاجس سؤال المرض، قد جعل للطب سلطة تفوق سُلطتَي الدين والعُرْف معا، حتى لو كان ذلك تحت رحمة مبضع التبشير والتنصير، وهذا ما سيدفع الشمّاسات للتجرُّؤ خطوة أخرى نحو جَدْل التطبيب بالتبشير.
مشفى المجيدي
ظلّ التطبيب في مشفى الشمّاسات الألمانيّ مجانيًّا، حتى ثمانينيات القرن التاسع عشر. ومع ازدياد عدد المرضى من السكان المحليين، ازدادت نفقات المشفى إلى حدِّ عجزه المالي عن تغطيتها، فاضطرت الشمّاسات سنة 1885 إلى فرض رسوم علاج قدرها "مجيدية عثمانية واحدة"، أي ما يساوي "4 ماركات ألمانية". نظر أهالي القدس لهذه الخطوة باستياء في البداية، لكنهم سرعان ما تقبلوها. ومنذ ذلك الحين، أطلق أهالي مدينة القدس وضواحيها على مشفى الشمّاسات الألماني اسم "مستشفى المجيدي"، أي المشفى الذي يتقاضى مجيدية واحدةً، لقاء فترة معالجةٍ غير محدَّدة الزمن(20).
لم تتأخّر الشمّاسات عن استغلال أية مناسبة في سبيل تنصير مرضاهن المسلمين، ففي المشفى كان يوجد رجل دين مسيحي عربي، مهمته القيام بالقدّاس وتلاوة الإنجيل. وفي هذه الأجواء، كان الكثير من المرضى المسلمين يشاركون في القدّاس، للمحافظة على علاقة حسنة بإدارة المشفى، من أجل ضمان أسرّتهم فيه، إذ أنه دُفع إلى مغادرة المشفى، مَن رفَض المشاركة من المرضى في القدّاس.
وفي محاولة من الشمّاسات لوضع المرضى المسلمين في أجواء مسيحية كما تذكر التقارير، كانوا يُوضَعون في غرف تضمّ أسرّتها مرضى مسيحيين متدينين لتمكين الاتصال بين الطرفين، وبالتالي تسهيل عمليّة تنصيرهم(21). كما اتّبعت الشمّاسات سياسة "العناية والرعاية الحنونة" في محاولة لتغريب المرضى المحليين إلى حد أشارت فيه مجلة "أحدث الأخبار في الشرق" إلى أن بعض المرضى المسلمين، أصبحوا بعد فترة من إقامتهم في المشفى مقتنعين بأنّ ما يحدث لهم هو الإيمان الصحيح، وأن "المسيحية تهب قوّة حياة أقوى من تلك التي يهبها الإسلام"(22).
إلى الخليل
في خريف سنة 1885 شنّت عناصر من الدرك العثمانيّ حملة اعتقالات، طالت عشرات الرجال من أهالي مدينة الخليل. كانت هذه المرة الأولى التي يجد فيها أهالي المدينة أنفسهم تحت طائلة القانون، بسبب تلقيهم العلاج في أحد المستوصفات الطبية المُفتَتَحة حديثا في مدينتهم وقتها. جرَت تلك الحملة الغريبة، بعد أن ضرب أهالي الخليل بعرض الحائط، فتوى مفتي مدينتهم التي حرّمت عليهم الدخول إلى المستوصف الذي أنشأته جمعية "بيت المقدس التبشيري" الألمانية في مطلع عام 1884(23).
ففي ذلك العام، كانت الجمعية قد أوفدت إلى مدينة الخليل، المعلّم إلياس ضاهر، وطبيبا لبنانيًّا يُدعى صليبي، مُكَلَّفَيْن بمهمة التبشير بين أهالي المدينة، عبر قطاعَي التعليم والطب. وأشرف صليبي على إقامة المستوصف وصيدلية تابعة له، بعد أن استأجر منزلا في المدينة. تكفّل بإقامتهما الأمير البروسي "ألبرشت"، بمبلغ قدره 1200 مارك، وسيدة ألمانية تُدعى "دونر"، تبرّعت بمبلغ 3 آلاف مارك(24).
صورة التُقطت بالقرب من القنصلية الألمانية في القدس، في الثمانينيات (geety images)
تمكّن الطبيب اللبناني صليبي في الأشهر الثلاثة الأولى من معالجة 712 مريضا، كان من بينهم 280 مصابا بأمراض العيون(25)؛ غير أن صليبي كان قد تجاوز واجباته المهنية، وأَخَذَ يعقد مناقشات دينية مع المرضى المحليين، ويتلو عليهم الإنجيل في عيادته، الأمر الذي دفع السلطات العثمانية إلى التدخُّل لمنع أهالي مدينة الخليل من زيارة المستوصف بفتاوى دينية(26).
لم يدُم المستوصف الألماني في الخليل طويلا، فرغم قدرة التبشير الطبي على اختراق المجتمع المحلي عبر تقديم خدمات صحية - خيرية، واستجابة الناس لها، إلا أن السلطات العثمانية ما انفكت في حينه عن عرقلة سير عمل المستوصف، إذ منع العثمانيون سنة 1887، قيام جمعية بيت المقدس التبشيري باستبدال الطبيب صليبي بطبيب لبناني هو إسكندر دباك، خريج الكلية السورية الإنجيلية، بحجة كونه لم يتقدّم إلى امتحان الكوليكيوم في الأستانة، والذي كانت تجريه هيئة عثمانية مستقلّة(27). ولمّا لمْ تجد الجمعية طبيبا ألمانيا بديلا لصليبي ودباك، تخلّت عن مشروع المستوصف وأقفلته. ورغم ذلك، فإن مستوصفا تبشيريًّا آخر كان قد بدأ يحثّ أهالي الخليل على زيارته لتطبيبهم، هو المستوصف الإسكتلندي، الذي افتتحته الكنيسة الإسكتلندية سنة 1892 في المدينة(28).
أخيرًا
إنّ كل محاولات السلطات العثمانية وفي ظهرها رجال الدين المحليين بفتاواهم، لم تثنِ الناس عن الانبطاح على أسرّة طبّ المُبشرين الأوروبيين. وحتى حينما كان يهبّ الناس فجأة ضدّ طبيب مُنَصِّر أو مشفى مُبشِّر بعد خدش عقيدتهم أو عقليتهم، فإن ذلك، لم يمنع تسلّل الطبّ الأجنبيّ الحديث بكامل نواياه إلى مُدن البلاد وبيوتها.
خلال قيام فيلهلم الثاني برحلته إلى فلسطين، عام 1898، حيث افتتح كنيسة المخلص الألمانية في القدس (Getty Images)
وهذا ما دفع العثمانيين أساسا في التفكير منذ نهايات القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين إلى إنشاء مشافٍ صحية وطنية حديثة، موازية للمشافي الأجنبية التبشيرية في البلاد، ففي مدينة نابلس، ما كان للعثمانيين أن يقوموا على بناء "مشفى الوطن" في عام 1908، إلا بعد أن هبّ وحرَق أهالي حيّ القصبة في نابلس، مشفى تعود ملكيته لمبشِّر بروتستانتي إنجليزي، والذي اعتاد على إلزام مرضاه من أهالي المدينة على سماع مواعظه الدينية، كشرط لعلاجهم (29).
وإذا ما تُوفي أحد المرضى في المشفى، يقول صاحب كتاب "ولاية بيروت"، إنه كانت تُجرى له أوّلا جنازة على الطريقة البروتستانتية، سواءً كان المتوفى مسيحيًّا أو مسلما(30).
**الهوامش:
1. أرنولد، دافيد، الطب الإمبريالي والمجتمعات المحلية، ترجمة: مصطفى إبراهيم فهمي، عالم المعرفة، الكويت، 1998، العدد 236، ص 14.
2. أرنولد، دافيد، الطب الإمبريالي والمجتمعات المحلية، ص 14.
3. راجع: فانون، فرانز، العام الخامس للثورة الجزائرية، ترجمة: ذوقان فرقوط، دار الفارابي، بيروت، 2004، ص 127-155.
4. عن ذلك، راجع: شولش، ألكزاندر، تحولات جذرية في فلسطين - دراسات حول التطور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي -، ترجمة: كامل جميل العسلي، منشورات الجامعة الأردنية، عمان، 1993، ص 70 - 74.
5. سنو، عبد الرؤوف، المصالح الألمانية في سورية وفلسطين 1841 - 1901، معهد الإنماء العربي، بيروت، 1987، ص 56.
6. نسبة إلى مدينة كيزرزفرت الألمانية، حيث جرى فيه تأسيس أول منزل للشمّاسات في سنة 1836، برعاية على نهر الراين، برعاية الراهب تيودور فليدنر، وأطلق عليها اسم "رهبنة شمّاسات الكيزرزفرت على الراين"، حيث أُنيطت بهذه الجمعية مهمة بدء النشاط التبشيري الألماني النسائي خارج ألمانيا.
7. سنو، عبد الرؤوف، المرجع السابق، ص 101.
8. المرجع السابق، ص 88.
9. المرجع السابق، ص 89.
10. المرجع السابق، ص 90
11. المرجع السابق، ص 90.
12. يُعدّ "طب الفراش" مرحلة سابقة على "الطب السريري" من تاريخ الطب، ففي المرحلة الأولى كان الطبيب هو من يزور مريضه في فراشه. ومع نشأة الدولة الحديثة صار الطب سريريًّا، يزور فيه المريض الطبيب. عن ذلك، راجع: باينم، ويليام، تاريخ الطب – مقدمة قصيرة جدا، ترجمة: لبنى تركي، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، 2015.
13. أي لم يعد محلّ شكٍّ وارتياب لدى الناس، و"مشموس" هو فلسطيني عاميّ، ما زال دارجا على ألسنة الناس إلى يومنا.
14. سنو، عبد الرؤوف، المرجع السابق، ص 90.
15. المرجع السابق، ص91.
16. راجع: العارف، عارف، تاريخ المسيحية في القدس، القدس، 1951، ص 178.
17. منطقة "السدر" حيث مدرسة طاليثا قومي إلى يومنا، وتسمية "السدر" يطلقها على الموقع كل من أهالي قريتي الولجة والخضر... مقابلة أجراها الكاتب مع أحد السكان المحليين في المنطقة.
18. سنو، عبد الرؤوف، المرجع، ص94.
19. المرجع، السابق، ص 95.
20. العارف، عارف، المرجع السابق، ص 179. راجع أيضا: سنو، عبد الرؤوف، المرجع السابق، ص 107.
21. سنو، عبد الرؤوف، المرجع السابق، ص 100.
22. المرجع السابق، ص 101.
23. المرجع السابق، ص 125.
24. المرجع السابق، ص 124.
25. يُقصد بأمراض العيون، مرض "الرمد" تسببهُ بكتيرية تؤثر على العينين. كان منتشرا في فلسطين قبل النكبة.
26. سنو، عبد الرؤوف، ص 125.
27. المرجع السابق، ص 126.
28. المرجع السابق، ص 127.
29. انظر: التميمي، محمد رفيق، و بهجت، محمد، ولاية بيروت - لواء نابلس - تحقيق : مجموعة باحثين، مكتبة الإسكندرية، جزء 1، ص 97.
30. التميمي وبهجت، المرجع السابق، ص 98.
طبّ الشمّاسات... من ذاكرة التدخُّل الصحيّ الألمانيّ في فلسطين!!
بقلم : علي حبيب الله ... 01.09.2022