عيسى قراقع أسير في سجون الاحتلال الصهيوني طيلة اثني عشر عاما، خبر فيها كل جرائم ووجوه انحطاط السجانين والمحققين الصهاينة، وتعذيبهم للأسرى الفلسطينيين رجالاً ونساءً وفتيانا وأطفالاً.
لا يمكن لنا أن نتخيّل وحشية الاحتلال والبشاعة التي تتجلى فيها عقلية المُحتلين وهم يعملون على تدمير الإنسان الفلسطيني، معبرين عن رغبة في تغييب الشعب الفلسطيني من الوجود بحرمانه من الحياة تماما.
أمّا والفلسطيني لا يموت، بالأحرى تتأبى روحه على الموت، فهذا ما يضاعف حنق الصهاينة ويدفعهم للتنكيل بهذا الفلسطيني الذي لا يموت، رغم كل صنوف التعذيب والتجويع والامتهان و( الحرب) النفسية التي تُشّن على روحه لتدميرها.
كتاب عيسى قراقع حفنة من ( بحر) العذاب الفلسطيني، جرعة تكوي الروح، وترّج البدن، وتفجع الضمير، لأن من كتب ( امرأة الساعة والثلاثين) لم ( يؤلف) كتابا متخيلاً، فهو أعطى من عمره 12 سنة لفلسطين متنقلاً في سجون المُحتل المجرم، وواصل بعد مغادرته السجن معاناة الأسرى والأسيرات.
قبل هذا الكتاب صدر له تسعة كتب، كلها عن الأسر والاعتقال، سواء قبل ( أوسلو) أو بعد ( أوسلو).
هو من مخيم ( عايدة) المتداخل مع ( بيت لحم)، ومن بلدة ( علاّر) المحتلة عام 1948. بعد خروجه من السجن لم يبتعد عن السجن والسجناء ( الأسرى)، ولم تغب عن نظره وجوه السجّانين المتعاقبين على تعذيب الفلسطينيين، فقد تسلّم مهمة رئيس هيئة شئون الأسرى والأسرى المحررين، ومهمة وزير الأسرى بين 2009 -2018، وبهذه الخبرات بات واسع الاطلاع والمعرفة بمعاناة الأسرى والأسيرات انطلاقا من تجربته الشخصية ومتابعته اليومية غير المنقطعة عمّن يحمل همومهم ويشعر بآلامهم وأوجاعهم البدنية والنفسية.
لم يكتب عيسى قراقع دراسة، أو تحليلاً جافا، مع إن الكتاب زاخر بالمعلومات الدقيقة والتفصيلية، ولكنه عمد إلى نقل حكايات واقعية بأسماء الأسرى والأسيرات، ومن سجون بعينها وبمواصفاتها، وبأسماء المجرمين الصهاينة محترفي التعذيب الوحشي المدججين بالحقد الصهيوني على الشعب الفلسطيني الثابت الصامد المتشبث بحقه في وطنه فلسطين، والذي لم ينكسر..ولن، وهذا ما يغيظ الصهاينة كيانا وأجهزة بوليسية، وجيش احتلال مجرم عدواني يمارس القتل وقطع الأشجار وهدم البيوت بهدف غلق كل أبواب الأمل في وجوه الفلسطينيين.
يهدي عيسى قراقع الكتاب: إلى زوجتي الغالية، ما زلنا في جوف الوقت.
وزوجته، مثله، عانت من السجن الصهيوني، وهكذا فقد تعمدا معا في التجربة الرهيبة، ومعا يواصلان في جوف( الوقت) كما النبي يونس عانى في جوف الحوت لأيام محدودة، بينما القرش الصهيوني لا يبتلع الفلسطيني ولكنه يأكل لحمه، ويمتص نخاع عظمه..ويمتد الصراع مفتوحا على احتمال واحد بالنسبة للفلسطيني: تحرر الفلسطيني وطنا وشعبا وحياة.
يقع الكتاب في 282 وقد صدر قبل أيام عن دار الشروق رام الله – عمان، ويضم فصولاً عن الأسرى والأسيرات، يرويها قراقع الذي عايش بعضها، وتابع بعضها، وهذه الفصول، وهؤلاء الأسرى بحكاياتهم يهزون القلب والروح والضمير، ويضعون القارئ أمام السؤال: وبعدين مع هذا الاحتلال؟ وأيضا: ما العمل؟ هل (نترك) بناتنا وأطفالنا وأخوتنا بين براثن هؤلاء الوحوش؟!
من خلال الحكايات المكتوبة في فصول قصيرة يمسك بنا قراقع ويثبّت نظرنا على الزنازين، ويفتح آذاننا على صرخات أحبتنا الذين يستفرد بهم وحوش الصهاينة، وهو يدفعنا للتساؤل بحرقة بحثا عن ( فعل) ينقذهم، وقبل ذلك يريدنا أن لا نغفل عنهم وعن آلامهم وتغييبهم وراء جدران ملطخة بدمائهم وأنينهم ودموعهم..فهم بشر يتألمون، وينزفون دما، ولا تغمض عيونهم من شدّة الوجع وآلام البدن، وشوقا للحرية، وللزوجة، والأم والأب، والأبناء والبنات..والعيش حياة طبيعية ككل البشر الأحرار في هذا العالم الملوث المشوّه بأيدي الصهاينة العنصريين.
إبّان حرب فيتنام ( أبدع) المسرحي البريطاني بيتر بروك مسرحية غير مكتوبة تعتمد على فكرة وتلخّص بسؤال وجهه لممثلين وممثلات محترفين: كيف يعيش أي إنسان في عالمنا حياته اليومية بشكل طبيعي بينما هناك شعب في فيتنام تدمّره وتحرق بلاده الحرب الإجرامية المتواصلة تحت أنظارنا : وجعل عنوان المسرحية us وقصد بالعنوان: نحن..وأيضا: الولايات المتحدة الأمريكية..أو: نحن والولايات المتحدة.
كتاب عيس قراقع، وبالحكايات المفجعة المفزعة يطرح علينا السؤال: كيف تعيشون حياتكم بينما الأسرى والأسيرات يفترسهم الصهاينة، ويسرقون أعمارهم، ويقتلونهم بالإهمال الطبي، ويحرمونهم من أبسط حقوق الأسرى المتعارف عليها ( دوليا)؟!
يبدأ قراقع كتابه بالفصل المعنون: أبو السعدي في القاعة: ما هذا؟!
هذا الفصل يمكن تقديمه في عرض مسرحي متنقل – مع نصوص أُخرى متوفرة في الكتاب- فهو نص مسرحي جاهز.
أبو السعدي العجوز الثمانيني الذي لا يغيب عن احتفالية، والذي يجلس في المقاعد الخلفية أشبه ما يكون ( بالكورس) في المسرح اليوناني، فهو يعلّق على كل ما يسمعه في( الاحتفالية) الخطابية التضامنية بالسؤال: ما هذا؟! وهو على قصر التعليق المكون من كلمتين يوقظ فينا أسئلة ساخرة ومرّة.
يرسم قراقع شخصية أبي السعدي بكلمات قليلة، ولكننا نتعرف إليه، فهو واحد منا، إنه صوت غضبنا الساخر سخرية سوداء مستفزة.
يتحدث خطيب عن الجدار، ويصرخ، ويعرق..وإذ يفرغ من خطابه المنفعل يرتفع صوت أبي السعدي: ما هذا؟! وهكذا بعد خطاب المتحدث باسم القانون الدولي، وذاك الذي يهاجم الجدار..الخ.
ما هذا؟! شو هذا؟! وبعدين؟ ونستعير من لينين، الذي لم يسمع به أبوالسعدي: ما العمل؟!
ضم الكتاب ثمانين فصلاً، يحضر فيها شهداء قتلهم الاحتلال في الشوارع والتقطت الكاميرات أجسادهم وهي تنزف وترتعش قبل أن تفيض الروح، وأسرى في غرف التحقيق والتعذيب، منهم أطفال أخضعوا لأشكال من التعذيب والابتزاز من محققين ساديين، ولا يغيب عن ذاكرتنا الطفل أحمد المناصرة، ومنهم القائد مروان البرغوثي الذي عزل في زنزانة كالقبر، وبصلابة روحه وإرادته تسبب للسجان رائد فارس بالانهيار والاستقالة والخضوع لعلاج نفسي.
المخيم الأول الذي عشت تحت خيامه، وارتجفت تحت أمطاره وثلوجه،وغرقت قدماي في أوحاله، وتعلمت من أستاذته أول كلمات القراءة..هو مخيم ( الدهيشة)، وفي الكتاب فصل بعنوان(عندما تورط الاحتلال مع مخيم الدهيشة): لقد تورط الاحتلال مع مخيم الدهيشة، لأنه يعرف أن أبناء المخيم عنيدون، وهم الذين اسقطوا السياج الأمني الذي التف حول المخيم في الانتفاضة الأولى، وهم الذين فخخوا الشوارع والحارات والأزقة والقصائد بغضبهم الرمادي، وتجاوزوا بطاقة الإعاشة عندما فتحوا أبواب الأرض والبحر عائدين إلى حلمهم الأول.( ص 20)
في فقرة تالية يشير الكاتب إلى الشاعر خليل زقطان:..ومع قصيدة خليل زقطان وهو يحذّر من غضب اللاجئين( ص21)
أمّا خليل زقطان فهو شاعر من زكريا، كان لاجئا في مخيم الدهيشة، وقد جمعت أبي به صداقة، وعرف كشاعر بقصائده الأولى في المخيم بعد النكبة، وتحت الخيام، وحمل ديوانه الصغير بحجم الكف عنوانا له( صوت الجياع)، وما زلت أحفظ مطالع بعض القصائد، منها:
قسما بجوع اللاجئين وعري سكان الخيام
لنصارعن الموت من أجل الوصول على المرام
امرأة الساعة السادسة والثلاثين هي زميلته في الجامعة، وحبيبته، وزوجته، وهي مثله زُج بها في السجن، وتعمدت في الزنازين، وتحت سياط الجلاّدين، وهو يكتب لها ما يرقى إلى الشعر، وفي الكتاب يسري شعر شفيف شجي: في الساعة السادسة والثلاثين اعتقلوها. جرت كالغزالة هاربة من الجنود والرصاص...(ص168)
هذه الفصول التي يضمها الكتاب نُشرت في الصحافة الفلسطينية، ولكنها في الكتاب باتت ( متحفا) بالكلمات، يضم وجوه وأنّات ودماء أحبتنا، ووجوه المحققين الصهاينة بكل وحشيتهم وقبح نفوسهم وعقولهم، وزنازين سجون الاحتلال، ودروسا من البطولات التي تعلي من عظمة أخوتنا وأخواتنا وأطفالنا وطفلاتنا.
لا يمكن التوقف عند ما تكتنزه فصول الكتاب الغنية العميقة الإنسانية، المكتوبة بشاعرية وبحزن وبغضب وبانتماء وبحرارة التجربة وبصدقها..والتي تطرح علينا طيلة الوقت السؤال: ما العمل؟ وبلهجة أبي السعدي: ما هذا؟! وباللهجة الشعبية المستهولة: وّل!
تمنيت لو أن الأخ عيسى قراقع دوّن في نهاية كل فصل تاريخ النشر واسم الصحيفة التي نشر فيها، وأيضا: لو أنه يوضح بكلمات قليلة أسماء الأماكن ومواقعها، والتعريف ببعض الأسماء الواردة المجهولة من القرّاء ..خاصة والكتاب سيقرأ عربيا كما آمل..وآمل أن يترجم أيضا..وبعض حكاياته تكتب قصصا للأطفال.
وبعد: أحيي الأخ عيس قراقع على هذا الكتاب الذي يعرّفنا أكثر بمعاناة وآلام وتضحيات الأسرى والأسيرات، ويضعنا أمام واجبنا الوطني، ويلّح علينا بالتحرك الجدّي على كافة الصعد لتحريرهم، وأثناء ذلك لفضح الاحتلال الصهيوني البشع الذي تفوّق على كل من سبقه من أعداء حريّة الشعوب.. أولئك الذي اندثروا تحت ضربات وبطولات عشّاق الحرية.
امرأة الساعة السادسة والثلاثين .. عيسى قراقع يكتب معاناة الأسرى!!
بقلم : رشاد أبوشاور ... 12.02.2019