كثيرة هي الأعمال الأدبية التي تتناول سيرة الأمكنة، وهي بالطبع سيرة أشخاص أيضا وسيرة بيوت وشوارع وأزقة وجدران وقلاع وأنهار، يعتمد فيها الكاتب على الوصف وشيء من السرد القصصي، ما يضفي على مادته روحا سردية سلسة وشفافة، وهي أمكنة وذكريات وحكايات وأمثال وآثار وأشخاص هم في الحقيقة أبطال هذه الأمكنة.
عمان - يضم كتاب “الدانوب يعرفني.. الوجهُ الآخر لسيرة الأنهار” للأديبة والأكاديمية السودانية إشراقة مصطفى حامد، ما يشبه السيرة التي يطل منها القارئ على حياة المؤلفة منذ نعومة أظافرها في كوستي بالسودان، مرورا بهجرتها إلى النمسا سنة 1993، وانتهاء بنشاطاتها في الفضاء العام، مدافعة عن حقوق الإنسان وحقوق اللاجئين في الحياة الكريمة، ومتصدّية للممارسات والطروحات العنصرية.
وفي هذه الرواية استطاعت إشراقة مصطفى حامد أن تمسك بالمفاتيح الرئيسية للأسئلة الكبرى في الوجود، كما استطاعت أن تلقي القبض على الخوف من خلال سيرة حياة ما كان يمكن أن تنجو من أهوالها ونيرانها. وتجاوزت كل ذلك وأوقدت شموعها وسط الظلام وأبحرت في جراح الإنسانية وأبدت جسارة لا نظير لها في مقاومة القبح واختلال الموازين وهي تنظر إلى قضايا الهوية واللون والعنصرية والتمييز والحرية والعدل والهجرة والنزوح، بل وأصبحت الخبيرةَ التي تقدم الاستشارات هنا وهناك، حيث يواجه الإنسان ظلم أخيه الإنسان.
رواية الإنسان والوطن
تحتوي الرواية، الصادرة عن “الآن ناشرون وموزعون”، على أكثر من عشرين فصلا من بينها: “الخطوة الأولى”، “هولابرون”، “بدايات الاكتشاف”، “عشب على صخرة اللغة الألمانية”، “المشي على النار حافية”، “من عاملةِ نظافة إلى الأفق العريض”، “حاملةُ ورد الخزامى”، “لَوني في مواجهة العنصرية”، “اجتراحات الهويات وتحولاتها”، “الوطن فردوس الغريبة”، “سيرة الموت في الليل الغريب”، “الإبداع.. الطريق نحو الكونيّة”، “يتيمة في غربتي”، و”يعرفني الدانوب بعد ألف قرن”.
وفي هذا العمل لم تفصل إشراقة مصطفى حامد بين رؤاها واهتماماتها ودراستها الأكاديمية وأبحاثها، فكلّ هذه التجليات تصدر عن ذات واحدة وتعبّر عن نسيج واحد، وهنا يبرز بوضوح جوهر رسالتها القائمة على الإنسانية والتسامح والتقبّل والتعايش وإثراء التجربة بالاطلاع على تجارب الآخرين وإغناء المعارف بالتفاعل معهم. ولهذا ربما لا يكون منصفا أن يكتفي المرء بما تكتبه هذه المبدعة دون الاطلاع على مدونتها اليومية الحافلة بالنشاط في قضايا تتصل بالشأن العام.
وجاء في تقديم الرئيس السابق للجمعية العمانية للكتاب والأدباء خميس بن راشد العدوي “هذه السيرة هي انعكاس لحياة حقيقية، ليست المعاناة ولا الأمل فحسب، بل للإنسان الذي يعيش الحياة على سجيتها. تمرق الأيام من بين جوانحها كشعاع شمس، فلا يستطيع الزمن أن يغيّب بصيصا من إشراق شمسها الإنسانية”. ويضيف العدوي في تقديمه أن “سيرة الكاتبة قريبة إلى نفس القارئ، سهلة في عبارتها، تنساب بلطف بين ناظريه، تحكي عن حياته أكثر مما لو كتبها هو بنفسه، ليس لأي شيء سوى أن كاتبتها لم تسطرها بالحبر، وإنما رسمتها بالدمع، حزينة وسعيدة”.
كتبت الشاعرة والمترجمة الهندية ساريتا جينماني تقول “إشراقة قادرة على سرعة النفاذ إلى قلب الأشياء وجوهرها، وربما ذلك ما يجعلها تلجأ كثيرا إلى الكتابة عن التمييز وعن الظلم، وكثيرا ما كنت أتساءل بين نفسي عن تلك الشجاعة التي تتمتع بها في مواجهة العقبات. فرغم أن الحياة التي تواجهنا جميعا قاسية، فإن إشراقة كانت أكثر قسوة معها، فهي لا تتردد في مواجهة تلك العقبات بشجاعة”، وأضافت أن أعمال إشراقة مصطفى الإبداعية تمثل جسرا بين الثقافات، وهي أعمال “ذات أهمية كبيرة لما تتسم به من خلق عالم حيٍّ وجميل وقابل للحب ويسود فيه السلام”.
التمييز والظلم
تقول إشراقة مصطفى حامد في مستهل كتابها “ما كان للدانوب أن يعرفني لولا تلك الدروب التي حفرتْ فيها الخطوات الأولى قصصا من بلادنا البعيدة، من أمّنا العجوز الجميلة، أفريقيا”، وتضيف “قصتي مع الدانوب قصة تنتمي إلى الملايين من قصص المهاجرين. قطرةٌ في بحر الكفاح والصبر والمثابرة وإعادة اكتشاف الذات، قصص اليأس والهزيمة والانتصارات المجيدة، قصصٌ تحكيها سلطة اللغة، والدين، واللون والنوع.. قصة للأطفال المُوَلَّدين من عساكر الاستعمار بعد الحرب العالمية الثانية، كبروا ومات من مات منسيّا”.وتتابع إشراقة قولها “إنها ليست قصتي وحدي ولا ينبغي لها أن تكون كذلك، فهي تستمد طاقاتها من عيون تدمع حنينا للأزقة البعيدة، لصوت الجدّة الحنون، لصوت أذان في الحلة القريبة من بيتنا يُنادي على الصلاة ثم يدعو الناس إلى المحبة والسلام.. قصةٌ لا يمكن فصلها عن حكايات النزوح والنازحين، الهاربين والهاربات من جحيم الحروب والإفقار والحكام القساة. هي سيرتي، سيرة المراكب التي غرقت في البحر، سيرة من نجوا ودخلوا (الفردوس) في أوروبا، ولم يدروا يومها أن حنينهم في البحر، في عمق البحر وحوتُ يونس يشهد بالحكاية، حكاية السلطة والثروة التي لم تقسَم بالعدل، وحكاية إفقارنا؛ ومن قبل ذلك الحقّ الإنساني في الهجرة المؤنسنة. حكايتهم حكايتي، الحكاية التي لن يعرفني الدانوب إلّا بها”.
ويذكر أن إشراقة مصطفى حامد من مواليد مدينة كوستي بالسودان، درست الصحافة والإعلام في جامعة أم درمان الإسلامية وجامعة فيينا، ونالت درجة الماجستير في الإعلام. ثم نالت درجة الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة فيينا. وهي تقيم في فيينا منذ العام 1993. تتوزع نشاطاتها بين البحث، والكتابة، والصحافة، والتدريس الجامعي، وتعمل مستشارة في منظمة “دياكوني” المتخصصة في حقوق الإنسان وحماية اللاجئين.
نشرت كتاباتها باللغة العربية في صحف عربية، وشاركت بالنشر في أنطولوجيات مختلفة باللغة الألمانية، واختارتها مؤسسة ناجي نعمان الأدبية بلبنان سفيرة فوق العادة للثقافة بالمجان. وهي عضو في اتحاد الكتاب النمساويين، وممثلة الأدب العربي في “القلم النمساوي”، وناشطة في لجان “القلم”، حيث تشغل منصب نائبة رئيسة لجنة المرأة، وعضو لجنة سجناء الضمير، وهي مؤسسة للجنة الهجرة والأدب في المنظمة. ومن إصداراتها الأدبية “أحزان شاهقة”، شعر، و”ومع ذلك أغنّي”، شعر (بالألمانية)، و”أنثى المزامير”، شعر (بالألمانية والعربية)، وأعيد نشره بالألماني، و”وجوه الدانوب” (بالألمانية)، و”أنثى الأنهار.. من سيرة الجرح والملح والعزيمة”، 2015. ولها أعمال في الترجمة منها “الخندريس” (من يخاف عثمان البشري)، رواية لعبدالعزيز بركة ساكن، و”في محبة الحياة”، نصوص شعرية ونثرية للشاعر عمر حاذق، و”سيمفونية الربع الخالي”، بالتعاون مع الكاتب النمساوي يورغن اشتراسا، و”لؤلؤة الدانوب”، ترجمة للعربية لنصوص نمساوية بالألمانية!!
رواية تستمد سحرها من عيون تدمع حنينا للأزقة البعيدة!!
بقلم : الديار ... 22.12.2016