حين يصبح الواقع أَكثر تعقيداً من الخيال!
لكلِّ نصٍّ إبداعيٍّ محور يدور حوله، إنَّها أَشبه بعمليَّة التَّكامل في الرِّياضيَّات، حيث يحتلُّ النصُّ مكاناً له على المحور الدِّيكارتيِّ متَّخذاً شكلاً ما، يبدو للوهلة الأُولى ثنائيَّ الأَبعاد، لكنَّه لا يلبث يدخل في دوَّامة الحركة، ليتَّخذ الشَّكل الثَّلاثيَّ الأَبعاد، عبر مروره بالزَّمن، وتكون عملية التَّكامل في هذه الحالة هي محاولة تفكيك النصِّ إلى أَصغر وحدات بنائه، بما قد يقبل أَيضاً الوصول إلى المالانهاية، وذلك مرتبط بالنصِّ نفسه، بعمق دلالاته، وبنيته، فنقول في هذه الحالة إنَّ التَّكامل يعني تكاملاً من نقطة بعينها، وصولاً إلى نقطة أُخرى، أَو حتَّى وصولاً إلى المالانهاية.
يقودنا ذلك إلى أَنَّ الحدود الَّتي توضع للنُّصوص ما هي إلاّ حدود وهميَّة نحن الَّذين نفترضها، من أَجل إرضاء غايتنا كقرِّاء أَو نقاد، والوصول إلى نقطة ما نستطيع من خلالها الرُّكون إلى ما اعتاد العقل البشريُّ عليه، أَلا وهو الهدف، والتَّحديد الزَّمنيِّ الَّذي يبعث في كثير من الأَحيان على الطمأَنينة، لكنَّ الأَمر ليس كذلك بالضَّرورة.
إنَّ إخضاع النُّصوص الإبداعيَّة للمسطرة القياسيَّة ذاتها هو محض افتراء على تلك النُّصوص، من هنا، يعرف بعض النقَّاد، أَنَّ الكثير من النُّصوص ترفض التقولب في الإطارات الجاهزة، وتبدو بذلك مثل فرس شموس ترفض أَن يمتطي ظهرها أَحد، ما يستدعي بالضَّرورة إيجاد إطار ملائم بوسعه احتواء هذا النصِّ وتحليله إلى عوامله الأَوَّليَّة.
ليس ثمَّة نصُّ إنسانيٌّ مطلق كما يحاول البعض أَن يوهم القارئ، فلكلِّ نصٍّ شروطه المؤسِّسة، ما يعني اختلاف المرجعيَّات، وزوايا الرؤية، والمعادلة الَّتي يقوم عليها النصُّ، والَّتي تحمل ضدَّها، أَعني الصُّورة في المرآة، أَو الشكل المقابل على المستوى الدِّيكارتي، أَي أَنَّ الحقيقة ذاتها ليست حقيقة مطلقة كما قد يهيَّأُ للبعض، بل هي حقيقة بقدر ما يراها السَّارد حقيقة، تخضع أَحياناً للتأويل، أَو التَّبديل، أَو التَّحوير، حتَّى من قبل السَّارد نفسه، وهي تعنيه، وتعني الجهة الَّتي يدافع عنها، ولا تعني الآخر، لأَنَّ للآخر أَيضاً حقيقته الَّتي يرويها، من الجهة الأُخرى، حسب رؤية أُخرى، فلا يمكن على كلِّ حال أَن تتساوى رواية القاتل والضحيَّة.
من هنا، قد تُعدُّ الرِّواية التَّاريخيَّة، والتأريخيَّة، المرتبطة بالتَّجربة الحسيَّة الشَّخصيَّة من أَعقد الرِّوايات، لأَنَّها ببساطة تحاول أَن تؤسِّس لتاريخ مضادٍّ معتمدة على الشَّهادة الشَّخصيَّة من جهة، وعلى الذَّاكرة الجمعيَّة من جهة أُخرى، على الواقع من جهة، والمُتخَيَّل من جهة أُخرى، وعليها في الوقت ذاته أَن تكون مقنعة على صعيد الخيال، والحبكة، وأَن تمتلك أَدواتها الفنيَّة كما ينبغي لأَيَّة رواية متخيَّلة لا يقف التاريخ الواقعيُّ حائلا بينها وبين خيال الكاتب، ولا يحدُّ من جموحها حقيقة الشَّخصيَّات، والأَحداث الَّتي قد تكون في بعض الأَحيان معروفة لدى الكثيرين، ما يجعل القارئ يعقد مقارنة بين الشخصيَّة الحقيقيَّة، والشَّخصيَّة الرِّوائيَّة، وربَّما تصبح مقارنة ظالمة.
ستحيلنا رواية رشاد أَبو شاور " وداعاً يا زكرين" مباشرة، بالضَّرورة إلى هذه المجموعة من المحاور المذكورة أَعلاه، بدءاً من العنوان، وليس انتهاء بالخروج من ذكرين، حيث سيشير العنوان إلى دالَّة مبطَّنة تقود بالضَّرورة إلى تكامل رياضيٍّ للرِّواية، الَتي بدت نقطة التَّكامل فيها من انتهاء حكم الدَّولة العثمانيَّة، وانتهت في الفراغ، ما قد يعني المالانهاية الرِّياضيَّة المفتوحة على السُّؤال.
" وداعاً يا زكرين"
ذكرين تحيل إلى مكان بعينه، قرية الكاتب الَّتي احتُلَّت من قبل عصابات العدوِّ الصُّهيونيِّ عام 1948، والوداع هو الوداع، أَما إصرار الكاتب على استعمال "يا" النِّداء، فذلك يحمل في طيَّاته لغز العلاقة بين الكاتب السَّبعينيِّ، والقرية الَّتي تركها وهاجر منها طفلاً في السَّادسة من عمره، إذ بدا بإصراره على استخدام "يا" في العنوان وكأَنَّه يحاول أَن يبيِّن للقارئ بعد المسافة الَّتي تفصل بينه وبين قريته، وقد لا تُفسَّر المسافة هنا جغرافيَّاً، بقدر ما تُفسَّر إنسانيَّاً، إذ تحتاج حدود ما لتقطعها دماء آلاف الرِّجال، رغم قربها الشَّديد.
هل أُصيب رشاد أَبو شاور باليأس؟ لا بدَّ أَنَّ المتن يجيب على ذلك.
إنَّ محاولة تفكيك النصِّ ليست إلاّ محاولة إلى الوصول إلى أَبسط الوحدات الَّتي من شأنها أَن تشرح آليَّة عمل النصِّ، وطريقة خلقه، والقاعدة الَّتي تمَّ تأسيس النصِّ عليها، وبالتَّالي القوانين الَّتي يخضع لها النصُّ بناء على ذلك.
من المعلوم، وتلك أَبسط أَبعاد الاستمراريَّة، أَن المرأَة هي رمز الولادة، وأَنَّ الموت يعوَّض بالولادة، فهل كانت صدفة أَن تموت الأُمُّ في بابور الطَّحين، ثمَّ تموت الطِّفلة معزوزة على يد جدَّتها، ثمَّ تموت ذكرين؟
لا يمكن قراءة هذه الرِّواية بعيداً عن السِّيرة الذَّاتيَّة، لذلك كان رشاد مصرَّاً على تسمية القرية باسمها، وأَبيه وأُمِّه باسميهما، والشَّخصيَّات الَّتي تحرَّكت في فضاء الرِّواية بأَسمائها الحقيقيَّة، وحتَّى رشاد نفسه ظهر باسمه الحقيقيِّ، ما يدلُّ كما أَسلفتُ على إصرار رشاد على قراءة الرِّواية كسيرة ذاتيَّة وذلك يحمل في أَعماقه ذكاء، وصعوبة.
لقد دأب رشاد أَبو شاور منذ بدايته الأَدبيَّة على المغامرة بخوض هذا اللَّون من الأَدب، في "آه يا بيروت" مثلاً، والربُّ لم يسترح في اليوم السَّابع، وغيرها.
هل من السَّهل أَن تخلق من اليوميِّ عملاً فنيَّاً رائعاً؟ ومتميِّزاً؟
هل من السَّهل أَن تعطي البطولة لشخصيَّة واقعيَّة، وساذجة أَحياناً، لا تحمل سمات البطولة المعروفة، دون إضافات؟
ذلك هو بالذَّات ما يُسمَّى تقاطع الواقع بالواقع…وليس بالخيال.
إنَّه لمن السَّهل على الرِّوائيِّ المتمرَّس أَن يخوض في خياله الجامح من أَجل مزاوجة الواقع بالخيال، وخلق تحفة فنيَّة من تلك المزاوجة، أَمَّا مسأَلة مزاوجة الواقع بالواقع فتحتاج إلى شروط خاصَّة جدَّاً، أَوَّلها أَن يكون الواقع أَغرب من الخيال، وأَكثر تعقيداً منه.
ثمَّة محطَّات يصبح الواقع فيها أَكثر غرابة من الخيال، منه تُستقى الرِّوايات دون حاجة إلى الجموح كثيراً، حيث الواقع وحده يكفي.
إنَّ الهجرة الفلسطينيَّة، أَو التَّهجير الَّذي مارسته العصابات الصَّهيونيَّة على شعب بأكمله، واقتلاعه من أَرضه، مع كلِّ ما حملتْ تلك المسأَلة من تفاصيل معقَّدة، وصولاً إلى إنشاء دولة على أَنقاض شعب دفع ثمناً لخطيئة لم يرتكبها، كانت مسأَلة أَشبه بالخيال.
إنَّ ذكاء رشاد بإصراره على أَن تكون الرِّواية سيرة ذاتيَّة، نابع من كونه يدرك أَنَّه يحاول أَن يكتب تاريخاً مضادَّاً، موازياً لتاريخين، الأَوَّل هو ما يكتبه الآخر من زاويته، والثَّاني هو ما تكتبه الأَنظمة الرَّسميَّة المتواطئة محاولة تبرير هزيمتها، أَما تاريخ رشاد فهو تاريخ الذَّاكرة الجمعيَّة، الشَّعبيَّة، الَّتي كانت شاهداً على حقيقة ما جرى دون إضافات، ودون رتوش.
كيف استطاع رشاد أَن يحوَّل كلَّ هذا اليوميِّ إلى ما فوق عاديٍّ كعادته؟
لقد حملتْ عمليَّة إنشاء ما يُسمَّى ب "إسرائيل" على أَرض فلسطين، وما تلا ذلك من تفاصيل مذهلة، ملايين الحكايات الغريبة، ورشاد يعرف هذا.
ستجد القرية هي القرية بكلِّ تفاصيلها، بأُناسها البسطاء، بأَرضها، وسمائها، وقمرها، ونجومها، وحقولها، ستجد أَنَّ فلسطين ضاعت بسبب كلِّ ذلك الجهل، وكلِّ تلك البساطة، وكلِّ تلك الخديعة، كيف كان يمكن للثَّور أَن يواجه التراكتور، وللفأس أَن يواجه البندقيَّة؟
لقد اتَّسمت الرِّواية بعدد هائل من الشَّخصيَّات قادها رشاد بمهارة عالية نحو برِّ الأَمان، فلم يدخل في التَّسطيح، والسَّذاجة، ولم يترك شخصيَّة معلَّقة في الهواء، أَو منسيَّة في فراغ ما، بل على العكس من ذلك حملت بعض الشَّخصيَّات دلالات عميقة، فتناسبت بساطة السَّرد، مع بساطة الحوار، مع بساطة القرية، وشخصيَّاتها، وطريقة تفكيرها، ما لم يترك فرصة للولوج إلى أَعماق الشَّخصيَّات، ربَّما لكثرتها، وربَّما لأَنَّ رشاد لم يكن يريد أَن يفضح بساطتها أَكثر، وربَّما لأَنَّه كان يريد أَن يكون أَميناً على شخصيَّات حقيقيَّة استأمنته ذواتها، فلم يرد أَن يخونها.
إنَّ حكاية ذكرين، هي حكاية مئات القرى الفلسطينيَّة الَّتي احتلَّت عام 1948، وقُتل أَهلها، وهجِّروا، وبُنيت على أَنقاضها دولة العدوِّ، لذا ترى رشاد يمرُّ سريعاً على القرى المجاورة لقريته، عجُّور، والدَّوايمة، وبيت نتِّيف، وغيرها…كلُّها صور متشابهة لما جرى في زكرين، وكلُّها لاعب رئيس في الرِّواية اسمه المكان، المكان الَّذي برع رشاد دائماً في رسمه لقدسيَّته، لأَنه فلسطين.
ما يميِّز رشاد في هذه الرِّواية، هي أَنَّها تأتي في هذا الزَّمن الَّذي تهالك فيه الكتَّاب والمثقَّفون على إرضاء العدوِّ، محاولين أَن يثبتوا إنسانيَّتهم على حساب دم شعوبهم، وقضاياهم، متناسين أَنَّ الأَدب لا يمكن له أَن يخضع لمسطرة واحدة، وأَنَّ الحقيقة لا تحتمل أَن تكون حقيقة واحدة بالنِّسبة لطرفين متناحرين، وأَنَّ ما يعنيني هنا، كمثقَّف هو دمي الَّذي ما زال يُسفك منذ احتلال زكرين، منذ وداع زكرين، أَو حتَّى ما قبل ذلك.
"وداعاً يا زكرين" لرشاد أَبو شاور
بقلم : أحمد أبوسليم ... 02.08.2016
*شاعر وروائي