عبر أكثر من خمسمئة وستين صفحة، ومن خلال ألف ومئتي مرجع معتبر ويزيد يأخذنا الباحث العراقي نبيل الحيدري في رحلة عبر تطور الفكر الشيعي وأثر الفرس في ذلك.
بحث الحيدري مرجع مهم وربما الأهم في نظر بعض الباحثين في فهم الافتراق الأصولي والفقهي الذي عانت ولا زالت تعاني منه الأمة إلى الآن. فهو يثبت أن ما بدأ كحب وموالاة للنبي وآله عليهم الصلاة والسلام، تطور إلى نظرية دينية كاملة وصلت، في أقصى مراحل غلوها، إلى تأليه الأئمة كما أطلق عليها «لاهوت الإمامة» وجعلهم بمرتبة أكاسرة فارس القدماء، الذين حازوا «المجد الإلهي»، حيث تفاض عليهم العظمة والجلال من لدن السماء.
الحيدري يوضح ومن أول صفحة في كتابه أن ما يعنيه بالفرس ليس القومية أو العنصر الفارسي كجنس، بل الثقافة الفارسية السابقة لدخول الإسلام إلى بلاد فارس، التي تسللت عبر مراحل متعددة متراكمة إلى الثقافة الشيعية، وخلقت هوة ازدادت اتساعا بين السنة والشيعة، ويضرب أمثلة تاريخية واضحة لاحظها حتى الباحثون الإيرانيون المعاصرون، كقصة زواج الإمام الحسين، رضي الله عنه، بشهربانو بنت يزدجرد الثالثة، التي انجبت له علي بن الحسين فاصبح أبناؤه الأئمة كلهم من أبناء ملوك الإيرانيين بالتبعية، وهي القصة التي ينفيها المؤرخون الإيرانيون قبل العرب مثل سعيد نفيسي وعلي شريعتي، إذ لم تكن ليزدجرد بنت باسم شهربانو، كما أن الحسين تزوج من بني تميم، كما يشرحها الحيدري بإبداع وتحليل ونقد.
الأثر الكسروي، بحسب الحيدري، امتد إلى شخصيات أخرى في التاريخ الإسلامي ونسجت حولها الأساطير والروايات التي ينقلها الحيدري بإسهاب وتحليل من مصادرها الأصلية، كما خصص فصلا لشهربانو زوجة الحسين، رضي الله عنه، وخصص بابا لسلمان الفارسي، رضي الله عنه، وكيف جعل مدخلا لتسرب أفكار غريبة، حيث نُقل عن الباقر أنه «من المتوسمين فهو يعلم الغيب، وقد أكل وهو في الدنيا من تحف الجنة»، ويأتيه الأمر بالوحي، حيث «يبعث الله إليه ملكاً ينقر في أذنه يقول كيت وكيت». ومع سلمان أدخل النوروز وأصبح عيدا إسلاميا بروايات نسبت إلى الإمام الصادق قال فيها تنورزوا! ونسبوا إليه روايات تكفير الخلفاء وزوجات النبي، كما جعلوا قومه أهل فارس فى أعلى عليين، والعرب على العكس تماما.
تتبع الحيدري للأثر الفارسي في التشيع يبدأ من ظهور الغلاة حول الأئمة، وأولهم علي بن ابي طالب، كرم الله وجهه، ثم ينتقل إلى حركات الغلو في أيام الدولة العباسية، ثم تأليف الكتب وتقعيد الأصول في أزمان البويهيين والعبيديين وصولا إلى الصفويين، مستقصيا ظهور المصادر الحديثية ،وبدء وضع الأقوال ونسبها إلى الأئمة، مثبتا من المراجع المعتبرة من وضعها ولماذا وضعت. ويسهب المؤلف في خطر الدولة البويهية (334 ـ 447هـ/ 946 ـ 1055م) كونها المنبع الأيديولوجي الذي ترعرعت فيه أولى البدع والهرطقة والغلو الغريبة عن العقيدة الإسلامية، متمثلا بتأليف الكتب الحديثية الأربعة: «الكافي» للكليني، و»من لا يحضره الفقيه» للصدوق القمي، و»التهذيب» و»الاستبصار» للطوسي. واحتوت هذه الكتب على آلافٍ من الأحاديث لغُلاة ووضّاعين ومدلّسين وكذّابين، في أقوال مرفوعة ومقطوعة ومنسوبة للباقر والصادق، ولا علاقة لها البتة بأحاديث الرسول «صلى الله عليه وسلم» ولا أقوال علي بن أبي طالب ولا الحسن أو الحسين «رضي الله عنهم جميعاً».
ولقد اشترك الإمام علي في حروب الردّة أيام الخليفة الأول، كما وقف على قبره بعد وفاته قائلا: (رحمك الله يا أبا بكر، كنت أول القوم إسلاماً، وأخلصهم إيماناً، وأشدّهم يقيناً…). وقول علي في فضل الشيخين: «خير هذه الأمة بعد نبيها: أبو بكر ثم عمر» كما ينقله الطوسي والمرتضى وغيرهم، بل إنّ الإمام علياً منع الناس من الهجوم على بيت الخليفة الثالث ودافع عنه وأوقف على داره ولديه الحسن والحسين سبطي رسول الله وسيدي شباب أهل الجنة كفدائيين دفاعاً عنه. ولقد زوّج ابنته أم كلثوم للخليفة عمر بن الخطاب وأنجبت له زيداً ورقيّة، وكان زيدٌ يفخرُ دوما أنه (ابن الخليفتين)، ويقصد عمراً وعلياً. كما تزوج عليٌّ من أرملة أبي بكر، أسماء بنت عميس. وأما جعفر الصادق فكان يفتخر دوما قائلا: (أولدني أبو بكر مرتين) مرة والدته: فاطمة بنت القاسم بن أبي بكر، ومرة أم أمه فاطمة: أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، وهكذا يكون أولاد الصادق من الأئمة: موسى الكاظم، وعلي الرضا، ومحمد الجواد، وعلي الهادي، والحسن العسكري، وما يسمونه بالمهدي المنتظر ، كلهم ينتسبون إلى أبي بكر مرتين.
ويستغرق هذا التتبع ثلث الكتاب في شرح شيق جدا يقرب المعلومة إلى القارئ غير المتخصص. وينتقل بعد ذلك إلى عرض إشكاليات التشيع الفارسي في التوحيد والنبوات والإمامة والقرآن والصحابة والتقية والمظلومية والغلو، بالإضافة إلى باب مهم جدا عن ثقافة التكفير والبغض واللعن، وهو الثلث الثاني من الكتاب.
ويأتي المؤلف بمعلومات مدهشة حول تفاصيل موالاة الصفويين للأوربيين ضد الدولة العثمانية المسلمة، حيث قام الشاه إسماعيل بمراسلات كثيرة مع البرتغال يدعوهم لغزو الجزيرة العربية، وإنه سيغزوها من الشرق بجيوشه الجرارة، كأنّه يطمع في استرداد العرش الكسروي بالانتقام من السُنّة المسلمين، حيث أجبرهم الخليفة الثاني العربي على دخول الإسلام قهراً؟! وقد لاحظ بيريس تومي السفير البرتغالي في الصين، الذي زار إيران أيام الصفويين قائلا: «إن إسماعيل الصفوي يقوم بإصلاح كنائسنا ويدمّر مساجد السُنّة، كما أن الصفويين تحالفوا مع أوروبا ضد الدولة العثمانية). وقد أرسلت بريطانيا خبيرين عسكريين لمساعدة الدولة الصفوية لصنع المدافع في مواجهة الدولة العثمانية. وليستدل الحيدري بالوثائق البريطانية في دعم السفير البريطاني في بغداد للتطبير وتبرّعه بالأكفان البيضاء والقامات لمن يقوم بالتطبير، فضلا عن دعم مواكب التطبير خصوصا، بالمال والسكر والرز (في وقت القحط والحاجة الماسة إليه). فلا غرو أن يحتفي المتحف البريطاني حديثا، في أوائل القرن الواحد والعشرين بإقامة احتفال خاص لتاريخ الشاه عباس بن إسماعيل الصفوي تحت شعار «عباس في لندن»!علماً بأنّ الشاه اسماعيل الصفوي استوحى المراسيم الحسينية من خلال وزيره المسمى (وزير الشعائر الحسينية) من أوربا في ذكرى السيد المسيح وشهداء المسيحية، واقتبس تلك المراسيم والطقوس النصرانية وجاء بها إلى إيران، ما أدّى إلى ظهور طقوس مذهبية لا سابقة لها في الإسلام ولا حتى في الفلكلور الإيراني، منها على سبيل المثال لا الحصر: النعش الرمزي والضرب بالزنجيل والأقفال والتطبير واستخدام الآلات الموسيقية وأطوار جديدة في قراءة المجالس الحسينية، وكلّها مظاهر مستوردة من الغرب المسيحي الأوروبي، ووثائق وحقائق أخرى في مناصرة دولة بريطانيا العظمى والبرتغال للدولة الصفوية آنذاك. مايمكن ان يقرأه المرء بخصوص ما يسميه الحيدري بالتشيع العربي، حيث يحل جميع الاشكاليات التي تراكمت عبر قرون طويلة، بنقولات صحيحة صريحة عن النبي وآل بيته، عليهم الصلاة والسلام، تصل بنا في نهاية المطاف إلى أن التشيع الحقيقي للإمام علي بن ابي طالب لا يمكن أن يؤدي إلا إلى إعلاء ثقافة التسامح والتراحم والوحدة بين المسلمين، ولا يمكن أن يكون وسيلة للفرقة، ويعقد فصلا خاصا لجده العلامة المرجع الكبير مهدي الحيدري، ودوره في وأد الفتنة الطائفية، ومحاولاته الإصلاحية وجهاده للمحتل الإنكليزي. ويعرج الحيدري على قائمة كبيرة من العلماء الشيعة العرب مثل محمد حسين فضل الله ومحسن الأمين العاملي ومحمد حسين كاشف الغطاء ومحمد مهدي شمس الدين وغيرهم، ممّن بذلوا محاولات معتبرة في وأد الفرقة والاختلاف وتنقية المذهب مما تسرب إليه.
الكتاب يحمل في طياته مشروعاً هادفاً متكاملاً للتجديد والإصلاح والوحدة،. إنّه بحقّ جهد جبّار وسيكون مرجعاً مفصلياً نحتاجه الآن وتحتاجه الأجيال القادمة، ويمثل لبنة مهمة في تشييد مؤسسة التجديد والإصلاح والوحدة بين أبناء هذه الأمة الإسلامية. قال تعإلى: «واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرّقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً» (آل عمران: 103)
وتتبين رسالة كتاب الحيدري بفقرة في آخر صفحة منه حيث يقول «إنّ ثقافة المحبة والسلام والتسامح والإخاء والألفة خير من ثقافة الكراهية والبغضاء والتكفير والسباب، فالأولى تؤدي إلى الحياة والخير والنمو بينما الثانية تؤدي إلى الموت واالمجازر والحروب والدماء».
«التشيع العربي والتشيع الفارسي»: مشروع فكري لإعلاء ثقافة التسامح!!
بقلم : عبدالكريم الحاج ... 21.05.2015
كاتب إرتيري..المصدر : القدس العربي