أحدث الأخبار
الجمعة 27 أيلول/سبتمبر 2024
إلى أن يَنقطع النّفَسْ....!!
بقلم : مها صالح ... 26.09.2024

ترددت كثيرا قبل أن أقرر أن أكتب بعد فترة انقطاع طويلة جدا بتنحي طوعي لخلوة مع الأحداث...قلت في نفسي: "ما جدوى الكتابة الآن وقد اُستهلِكت حُروفنا وتَبدّدت نداءاتُنا وتبخّرت آمالنا وبِتنا أشباه بَشر عند مَذبح الضمير الإنساني"! ما جدوى الكتابة في زمن أُصِبنا فيه بصمم من مشاهد القتل والدمار والذّبح والنار! ما جدوى أن تُسمع حروفنا والتي احترقت من نيران الخُذلان واليأس! ما جدوى أن نثأر بالقلم وقد أَحْكمت المنظمات الدولية سُيوفها على رقابنا وجعلتنا أمة كانت تشجب وأصبحت ترى ولا تحرك ساكنا وكأن من نراهم على شاشات التلفاز نعوشا فارغة وخيالات واهية. وكأن الأشلاء مشاهد من أفلام الرعب في هوليوود.. وكأن النيران التي تلتهم الأجساد الصغيرة بركان ثائر حاقد بخيال لنساء ورجال وشباب يلوحون لنا بأياديهم قبل أن يُصبحوا رماداً ونحن لا نصدق المشهد! كيف نتجرأ ونكتب عن مأساة ولأول مرة في التاريخ القديم والمُعاصر لا تكفي حروف اللغة الثمانية والعشرون أن تختزل ألم ما يفوق عن أربعون ألف شهيد.. تبعثرت وتعثّرت الحروف في وصف مشاهد الرعب في غزة!
ألِفنا المشهد، نعم ألِفنا المشهد، لكن هل نألف فكرة أن الموت يوجع الأحياء لا الأموات ؟ هل نألف فكرة أن من استشهد ليس رقماً! هذا الشهيد كان مثلي ومثلك لديه أحلام دُفِنت معه في زقاق الحي لا مقبرة هي الدار والمثوى الأخير. كانت أمنيتهم أن لا يموتوا من الصواريخ، فماتوا تحت ركام بيوتهم، منهم من دُفِن تحت حجارتها ومنهم لا يزال إلى الآن تحت الركام، ثم أصبحت أمنيتهم أن لا يموتوا حرقا، فأكلتهم النيران وصاروا رمادا، ثم تحولت أمنيتهم ان لا يموتوا أشلاء فقط بأجساد كاملة حتى يستطيع من بقي حياً أن يَطبع على جِباههم الدّامية قُبلة الوداع، فقُطِّعت أوصالهم وماتوا ووُضِعوا في أكياس بلاستيكية احتضنتهم ولملمت أحلامهم وذكرياتهم ثم ووروا الثرى، فأضحت أمنياتهم أن يموتوا بأشلاء معروفة كلُّ باسمه ونسبه فاختلطت الأشلاء وأصبحوا يوضعوا في الميزان ليعرف ذويهم أو من تبقى من العائلة أنه لجثة واحدة وزنها سبعون كيلو غرام.. والآن أمنيتهم أن تبقى الأشلاء أشلاءاً إذ هي تتبخر لا أثرا لها وكأنه لم يولد ولم يكن على هذه الدنيا!! ونأتي اليوم ونكتب عنهم بحروف ناقصة ضائعة خجولة ولربما جبانة! هل يوجد لغة في العالم تستطيع أن تُكمل المَشهد وترسم صورة مأساة لم ولن تحصل على هذا الكوكب والوحش المستعر فيها كيان صهيوني لقيط أقل ما يّقال عنه أنه مصاص دماء هذا العصر! والجزء المُر في هذه الحكاية أن هنالك من أوجد لهذا الكيان السادي شرعية ومكانة وهوية وسط البشر والأسوياء. هل نحن في أواخر عقد سينجلي وترِث الأرض من عليها! هل سيَمر ما حدث وكأنه حدثٌ عابر وسيمضي مع انتهاء الحرب!
كيف نَمحي ما عِشناه ورأيناه من فظائع لا يفعلها الآدميون! كيف نعود إلى الحياة مرة أخرى؟ كيف أستعيد قيمتي كإنسان وقد حطمتها آلة الحرب الصهيونية! كيف أثأر لإنسانيتي والتي تضررت من هول ما رأته عيناي! كيف أطهّر قلبي من حقدٍ أعمى على بربر وهولاكو هذا العصر! كيف أحافظ على توازني وقد اختل من زلزال الصواريخ وأزير الرصاص عبر الأثير! كيف أستأنف طموحاتي وأجدد أملي وقد اخترِق من ضُعف مُهين لعالم يقف عاجزا عن كبح جِماح هذا الكيان الوحشي! كيف أصدق أنني بعد السابع من اكتوبر لست رقما يُحصى في هذا العالم المُحاصر بأجندات ظلامية وأن لي من الأشياء تاريخ وحاضر ومستقبل! كيف أجدد عهدي مع الأماكن وقد فقدت شغفها ورونقها عندما كنا بشر نشعر بالمستضعف والفقير والمحروم والأسير!
كل هذه الآلام وانا أنظر لها عن بُعد...هل تدركون أن مليار أضعاف هذه الآلام مستمرة إلى هذه اللحظة في وسط المأساة التي يعيش فيها من تبقى من أهل غزة والتي تنمو كل لحظة في رحم الموت.
في لحظة وعي وإدراك أتمنى أن كل ما حدث ويحدث يكون مجرد حكاية رعب لا وجود لها إلا في كتب التاريخ.. في لحظة تجلي أفكر في حكمة الله بكل ما يحدث لأجد في نفسي العزاء ولو قليلا بأن في نهاية المخاض ستكون ولادة لعالم خالي من شياطين الإنس وخُدّامهم، عالم ستحكُمه السّنن الكونية القائمة على العدل حتى في القَصاص، لا ميزان أعرج يستبيح وجودنا كبشر لنا الحق في كل شيء حتى في تقرير المصير، ولا جوقات ونعيق كاذب ينادي بالإنسانية وهو المتسبب بالقتل. وكما قال تشي جيفارا: "إن مقاومة الظلم لا يحددها الانتماء لدين أو عرق أو مذهب , بل يحددها طبيعة النفس البشرية التي تأبى الاستعباد وتسعى للحرية! يقولون الظروف أقوى ، وأنا أقول الاصرار والتصميم أقوى.
أن أثبت بأني إنسان هي قضية بحد ذاتها خاصة بعد السابع من اكتوبر والذي أسقط الأقنعة عن كل من يتشدق بالقوانين العادلة والشعارات الرنانة والتي تحمل في طياتها حمامة السلام والتي استبدلت بصاروخ ودبابة تماشيا مع من يحكم هذا العالم البائس.
وأختم بما قاله غسان كنفاني: "كلام الجرائد لا ينفع يا بني، فأولئك الذين يكتبون في الجرائد يجلسون في مقاعد مريحة، وفي غرف واسعة فيها صور وفيها مدفأة، ثم يكتبون عن فلسطين، وعن حرب فلسطين، وهم لم يسمعوا طلقةً واحدةً في حياتهم كلها، ولو سمعوا، لهربوا إلى حيث لا أدري".
لله دركم يا شعب فلسطين البار وقد اُصطفيتم لتكونوا الشاهد والشهيد في حب الوطن وعشق الاستشهاد! والشاهد على الجريمة الدولية والصمت العالمي، لكن سنبقى نحن الأوفياء لكم ولدمائكم الطاهرة إلى أن ينقطع النفس.

1