خلص مقالنا الأخير "من هذا القاتل ومن هم عرب ال 48؟" الى نتيجة مفادها ان واقع الخضوع الاستعماري وسياسة الدمج الانتقائي الفردي ,كأداة سيطرة بنيوية, قاد الى تشويه التطوير المجتمعي وتفتيته على المستوى العمودي والأفقي, ومنع بذلك تطور طبيعي لشريحة الوسط من كيانية في ذاتها كأفراد ومصالح الى طبقة من أجل ذاتها كجماعة واعية لدورها التاريخي في قيادة التغيير والتحرر لأنه أولاً واخيراً في مصلحتها .
واقع جر خلفه تحولات اجتماعية, سياسة وسيكولوجية عميقة تتوجت بقابلية الاستعمار وشخصية اجتماعية فردية مسخة اطلقنا عليها وجوه فلسطينية اقنعة إسرائيلية كحالة انفصام وتجلي "لديالكتيك" صراع الأضداد الذي يخضع فيه الطرفان, بسبب طبيعة وجودية الصراع, لمبدأ الثنائي المتبادل غير المتصالح بمعنى "ان احد الطرفين زائد يجب ان يزول."
هذه حالة اضطرابيه جمعت بين نرجسية المُستعمِر الذي غدى "جنون القتل عنده حالة من اللا شعور الجمعي للمُستعمِرين لسبب بسيط ان هذا الشخص المتجبر طاش صوابه وسكر قوة وسلطة كامله يخاف عليها وعليه فهو لا يتذكر انه كان انسان وانما يحسب نفسه سوطاً او بندقية." على حد تعبير جون بول سارتر. ومن جهة أخرى نفسية الدونية عند المُستعمَر "الذي رسبت في عضلاته روح الهجوم والعدوان يصبها أولا على أهله. هذه الفترة التي يقضي فيها الزنوج (العرب في حالتنا) على بعضهم البعض لأن المُستعمِر يخلق حالة توتر وغليان داخلي عند المُستعمَر وقد تنفجر من حين الى حين بشكل دامي كمعارك قبلية ونزعات بين الافراد. نعم في وقت يضربه ويهينه المُستعمِر نجد المُستعمَر يطعن ويقتل أخيه لأتفه الأسباب محاولاً اقناع نفسه ان لا وجود للاستعمار وهذا كسلوك هروبي يتحرر به من توتر عضلاته لأنه عاجز عن مواجهة عدوه.. الامر الذي قد يقود الى انتحار جماعي." على حد تحليل فرانز فانون لواقع الاستعمار الفرنسي للجزائر وافريقيا في كتاب معذبو الأرض.
ويستطرد فانون بذكره لأحد ملاذات "معذبو الأرض" هؤلاء بلجوئهم للدين والقضاء والقدر. وكذلك استفحال ظاهرة المس, السحر والدروشة وطقوس الشعوذة لتأمين سكون عالمهم الداخلي. في وقت يستفرد الاستعمار بنخب شريحة الوسط بزرع "الفردية في طليعة القيم الذي يزرعها المُستعمِر في المثقف والأكاديمي. المجتمع هنا مؤلف من افراد لكل منهم ذاته وان الغني هو غني الفكر والمكانة.. الاستعمار لا يكتفي بأن يفرغ عقل المُستعمَر من كل شكل ومضمون بل هو يتجه ايضاً الى ماضي الشعب المضطهد فيحاول بنوع من فجور المنطق ان يهدمه وان يشوهه وان يبيده."
وكل هذا يجري تحت غطاء إزالة بعض المظالم في اطار مطالب تحسين الوضع الاقتصادي وهامش الديمقراطية في سياق ما يطلق عليه جون بول سارتر عملية التفريغ . وهي "افساح المجال للمُستعمَر بالتنديد والتشهير بالسياسة ووصف البؤس والتعبير عن الانفعال الجامح كعملية تفريغ لكي يتحاشى المُستعمِر الانفجار ويساعد على الانفراج." مع هذا لا يتوقف المُستعمِر عن انهاك المُستعمَر لتحطيمه وتجريده من انسانيته حيث القيمة المحسوسة عنده الاستيطان, الأرض والاستعباد.
حالة وجوه فلسطينية اقنعة إسرائيلية التي أوصل فيها الاستعمار الصهيوني قطاعات كبيرة وواسعة من عرب ال 48 لا تختلف كثيراً عن فعل الاستعمار الفرنسي في افريقيا والجزائر. فغير قتل بعضهم البعض يومياً تفشت بينهم الامراض النفسية وتفسيرها بالمس والجن والسحر وكهذه لا علاج لها الا بطقوس الشعوذة .. والعلاج بالقرآن على أهميته. وكذلك الهروب الى الدين والتطرف في المواقف ثم ترك ذلك والعودة مجدداً لسابقه وهكذا دواليك كتعبير عن بركان الغضب والخزي والعار والهزيمة الذي يغلي في داخلهم. ظواهر تختلف من منطقة الى أخرى بقدر اختلاف ممارسة العنف الاستعماري اليومي. فمثلاً تتفشى هذه الظواهر في النقب اكثر حيث هدم البيوت, مصادرة الأرض ,التحريش, حرث المحاصيل والمواجهات اليومية مع المراقبين ووحدة "يوأب" العسكرية. في هذا السياق اثبتت الأبحاث ان التدمير النفسي لهذه الممارسات, خصوصاً بين الأطفال , مريع ويوازي انعكاسات الحروب على أطفال غزة وأكثر. على هامش هذا الواقع نشأت مجموعات من المشعوذين والمشعوذات التي تعالج بطقوس "الحجاب" وفك السحر وكذلك قُراء القرآن الذين يعملون بوتيرة وربح لا تقل عن الأطباء الفعليين.
هذا الواقع يأخذه جون بول سارتر الى مداه الجدلي في وحدة صراع الأضداد باتفاقه مع فانون بقوله: "ان الأبناء من الجيل الثاني والثالث ما فتحوا اعينهم حتى رأوا ابائهم يهانون ويضربون وبذلك تكونت فيهم صدمات مدى الحياة , على حد علم الامراض النفسية. وهذه العدوانية التي ما تنفك ان تتكرر لا تحملهم على الخضوع وانما تلقيهم في تناقض لا يطاق سيدفع المُستعمِر الاوروبي ثمنه اجلا ام عاجلا. ان المذلة والعار والألم تثير فيهم غضب يغلي غليان البراكين وتساوي قوته قوة الضغط الذي يقع عليهم .. لقد اصبحوا هكذا بسبب المُستعمِر الذي اراد لهم ان يكونوا اناساً معذبين كما اصبحوا كذلك من اجل ان يقاوموه.. في هذه الحالة على المُستعمِر ان يناضل ضد نفسه من اجل ان يناضل ضد الاستعمار هذين النضالين ليس الا نضال واحد. ينبغي لكل الصراعات الداخلية ان تنصهر في نار المعركة."
نعم لقد اوصل الاستعمار عرب ال 48 الى حالة من التأكل الذاتي تستوجب عليهم النضال الداخلي أولاً بمفهوم العودة للجماهير وتنظيمها لصهرها كمجتمع في جبهات المواجه مع الاستعمار الصهيوني. هكذا يصبح المُستعمَر انساناً منتمياً لمجتمعه غير قاتل بمقدار ما يحققه من عمل لتحرير نفسه وفرض العدالة والمساواة.
غير ان المشكلة هنا تكمن في ما يشخصه فانون النخب. ان النخب القيادية في هذه المرحلة تقوم بدور المُستعمِر حينما تروج فكره بأن الحلول تكمن في عدم المواجهات والتي يسلط عليها الضوء جان بول سارتر اكثر بقوله: "المُستعمِر يمتلك الكلمة والمُستعمَر يستعيرها وبينهم يقوم بدور الوساطة برجوازية زائفة ملفقة تلفيقاً."
نعم ان المثقف والأكاديمي الذي تبع الاستعماري على مستوى العموميات المجردة والمصلحة يريد ان يعيش المُستعمِر والمُستعمَر في سلام في عالم جديد. ولكن الامر الذي يُعمى عنه هذا المثقف والحزبي ان الروح الاستعمارية تريده عبد في حالته منفصم معذب الى الابد. فلا خيار امامه في هذا السياق الا الانسلاخ التام عن شعبه وهو ما لا يقبل به كيان الاستعمار الصهيوني الذي حصن نفسه امام هكذا حالة مسخة بسن قانون الجنسية والعودة وقانون القومية اليهودية وغيرها من قوانين التي منحت المواطنة الحقة والدولة لليهودي وتركت العربي رعية اجنبية بلا ارض ووطن ولا دولة أو مواطنة حقة ولا أي قانون يمنع عنه "الترنسفير" القسري او حتى الإبادة في اللحظة التي يرتئيها الاستعمار صحيحة.
تتعامل الأحزاب السياسية العربية في مسلكيتها الحزبية العملية اليومية مع هذا الواقع الاجتماعي , السياسي والقانوني بشكل انتهازي يُسوق للجماهر في حلة البرغماتية السياسية وبراعة الفهلوية القيادية. وعليه فأن عدم تنظيمها الجماهير وتوعيتها للصدام مع جوهر الاستعمار والصهيونية بهدف صهرها كمجتمع واحد في نار المعركة السلمية رداً على استراتيجية "الفردنة" والتفتيت, يجعل هذه القوى في صفوف مجموعات الدمج الانتقائي الأخطر لأنها القيادة اليومية التي تعمق ظاهرة تسيس وتجذير حالة وجوه فلسطينية اقنعة إسرائيلية . وابعد فأنها تروج عالمياً, من أين لا تعلم , لوجه إسرائيل الاستعماري البشع كواحة للديمقراطية في المنطقة.
وعليه فنجاح إسرائيل في تنفيذ استراتيجيتها التي قادت العرب لقتل بعضهم البعض لا يرجع فقط الى ان النظام الاستعماري وافساده الانسان العربي المُستعمَر وانما يرجع ايضاً الى أداء الأحزاب الوطنية والنخب "الكوسموبوليتي" في مسلكيتها اليومية.
ليس الحل في المظاهرات واستنجاد شرطة إسرائيل لإنقاذ العربي من أخيه او رصد الميزانيات فهي في هذا السياق بمثابة "دية" قتلاكم يا قادة. وابعد فهذه السلوكيات تسبب متعة المتفرج للمُستعمِر الاسرائيلي لأنه نجح وانتصر ايضاً باجترار العرب لهزيمتهم بشكل لا واعي وبهذه السلوكيات.
الواقع اليوم تقوده قوى الدمج الانتقائي ومعها الأحزاب الممثلة في الكنيست المنشغلة في الانتخابات والتمثيل اكثر من التنظيم. هي عنيفة في الأقوال عاجزة عن التنفيذ ليس لأنها ليست صادقة ولا ترغب بذلك, بل لأن واقع الدولة اليهودية ونظامها السياسي والقانوني يمنع منهم ذلك وأن تفاخروا بعدد المقاعد وتسابقوا اليها فسقفهم السياسي يقزم أي تغيير في جوهر معادلة المُستعمِر والمُستعمَر . نضيف لهم النخب المثقفة الاكاديمية المندمجة كأفراد في المؤسسات والمنشغلة في الترقية الشخصية والمهنية وسلسلة المقالات العلمية ,السياسية والفلسفية. وكله تباركه الدولة طالما يصب في استراتيجية التفريغ الاستعمارية المذكورة أعلاه. نعم فاذا كانت الأحزاب تبحث عن تحسين الأحوال والتمثيل الانتخابي الجماعي فأن المثقفين والأكاديميين والمهنيين يبحثون عن مصالحهم الفردية. هكذا تنشأ طبقة من العبيد المحررين فردياً على حد تعبير فرانز فانون.
والأمر هكذا كيف يُغير هذا العنف والتأكل الذاتي اتجاهه؟
نعم في هذه الحالة "على المُستعمَر ان يناضل ضد نفسه من اجل ان يناضل ضد الاستعمار وهذين النضالين ليس الا نضال واحد. ينبغي لكل الصراعات الداخلية ان تنصهر في نار المعركة."
بمعنى في اللحظة التي يعود فيها الحزب والمثقف والأكاديمي لبناء وتنظيم وتوحيد شعبه على جبهة النضال الصدامية مع جوهر الصهيونية كاستعمار احلالي, فأن هذا الحارس لثقافة المُستعمِر يتهشم ومعه يصبح المجتمع واحد لا يقتل بعضه البعض. وابعد بفهمه وحدة الشعب والأرض والتاريخ يعيد للقضية بدايتها كجزء لا يتجزأ من الشعب الفلسطيني وامته العربية.
لكن السؤال يبقى هل هذه القوى بطبيعتها اليوم قادرة على ذلك ام حان الوقت لبناء القاعدة قمتها بخروجها على الوشم المألوف حتى اليوم.
العنف وجدلية المُستعمِر والمُستعمَر نموذج عرب ال 48!!
بقلم : د.عامر الهزيل ... 08.01.2021