باتت مسألة تأنيث الفتاوى الدينية أمرا ملحا يطرح بشدة في المجتمع المصري، ذلك أن فتح المجال أمام المرأة في المؤسسات الدينية لتكون عالمة فتوى، من شأنه تكريس المساواة والمناصفة بين الرجل والمرأة، كما من شأنه التخلص من النظرة الدينية الضيقة لأغلب جهات الفتوى بأن السيدات ناقصات عقل ودين. وبرر حقوقيون دعوتهم لتأنيث الفتاوى بأن المرأة المفتية أقرب إلى النساء من الرجل في القضايا ذات الطبيعة الخاصة بالأنثى.
تفتقد أغلب المؤسسات الدينية الاعتماد على المرأة المفتية التي تختص بفتاوى النساء بحكم أنها الأعلم بهن نفسيا وعقليا والأقرب لخصوصياتهن، ودائما ما تستفتي المرأة عالم الدين في أمورها الشخصية وقد تكون لديه وجهة نظر دينية ضيقة تجاه الأنثى عموما لتأثره بالمجتمع الذكوري أو اقتناعه بأن المرأة مخلوق تابع.
وأمام انتشار فتاوى التحريض ضد المرأة يطرح سؤال حول لماذا لا يتم تأنيث الفتاوى لتكون بداية لنسف ذكورية المجتمع، وماذا لو انتقلت المرأة من مرحلة الخضوع لما يُملى عليها من فتاوى إلى الوعظ لتكون موكلة بحسم القضايا الفقهية الخاصة بالنساء عبر عالمات دين يدركن جيدا طبيعة المرأة وخصوصياتها؟
وصار من النادر أن تجد امرأة مفتية في أغلب جهات الفتوى بالبلدان العربية وكأن الإسلام حرّم عليها أن تكون فقيهة أو تتحمل مسؤولية إصدار الفتاوى، مع أنه كان
ويمكن تبرير غياب التمكين الفقهي للنساء في الكثير من المجتمعات العربية بالنظرة الدينية الضيقة لأغلب جهات الفتوى بأن السيدات ناقصات عقل ودين، وهو الميراث الذي انتقل بالتبعية إلى الناس، ذكورا وإناثا، ويظهر في رفض مؤسسات دينية كثيرة عمل المرأة قاضية بذريعة عاطفتها وإمكانية تأثرها نفسيا بما يشكك في نزاهتها.
لم تُدرك جهات الفتوى بعد أن التمكين الفقهي للمرأة ربما يكون المدخل الأهم لوقف التشدد ضد الأنثى، وتغيير العقلية الذكورية المناهضة دائما لها، حتى من بعض رجال الفتوى أنفسهم، سواء أكانوا تابعين لمؤسسة رسمية أو حتى ينتمون إلى تيارات إسلامية متطرفة لديها قدر ملحوظ من العداء ضد المرأة.
وما يثير الانتباه أن رجال الفتوى صاروا يصدرون أحكاما دينية في قضايا شديدة الخصوصية للمرأة، بغض النظر عن فهمهم لطبيعة واحتياجات ومعاناة النساء، فتراهم يتحدثون عن عمليات التجميل وجراحات تكبير الصدر وتقويم الشفاه وشد القوام والموضة والطمث، ولأن لهم توجهات مناهضة للمرأة تأتي فتاواهم غالبا محاطة بلغة التحريم القطعي.
*خصوصية المرأة
ويفترض في المجتمعات التي تؤمن بمكانة وقيمة المرأة أن تكون هناك فقيهات ونساء فتوى يوكل إليهن حسم المسائل الدينية المرتبطة بالسيدات، باعتبار أن الأنثى هي التي تفهم بني جنسها، وتدرك احتياجاتهن جيدا، وبالتالي لن تضيّق عليهن، أما إخضاع النساء لرجل يفتي لهن ويختزل العفة والطهارة والخلق القويم في جسدهن، فهذه عنصرية مقيتة تكرس للنظرة الدونية للمرأة.
وترى حقوقيات مؤيدات لهذا الطرح أن أزمة الكثير من الفتاوى الدينية التي يصدر رجل دين أنها تحمل تحريضا مباشرا وغير مباشر ضد المرأة لأن أصحابها لديهم وجهة نظر محددة تجاه العنصر النسائي، وهي أن الأنثى خاضعة ومخلوق وُجد من أجل متعة الرجل، ولا شيء اسمه المساواة أو حرية التحرك والتصرف والاستقلالية بعيدا عن الولي أو الوصي.
ويبني هؤلاء وجهات نظرهن على أن الفتاوى الذكورية التي اختزلت عفة المرأة في تغطية جسدها تسببت في انتكاسات كثيرة للنساء، ولا يمكن وقف تحرش الفتاوى بالأنثى دون تحقيق التمكين الفقهي للسيدات لتكون الفتاوى الخاصة بالأمور النسوية صادرة عن عالمة دينية وليس عن رجل، لأن المرأة وحدها من تشعر بمعاناة النساء
قالت داليا زيادة وهي ناشطة نسائية ومديرة منظمة المرأة بحزب العدل المصري، لـ”العرب”، إن أيّ تمكين اقتصادي وسياسي واجتماعي وإعلامي للمرأة دون أن يتم التخديم على كل ذلك بتمكين نسائي على مستوى الفقه، فستظل المرأة تعاني من النظرة الدونية لها أمام السطوة الذكورية ومحاولات تركيعها وإخضاعها وفق ميراث مجتمعي ورؤى دينية كرسها المتطرفون.
وأوضحت أن مصر حققت نجاحات متقدمة ومتنوعة على مستوى تمكين المرأة وبلوغها مناصب هامة مثل الوزيرة والمذيعة والقيادية والقاضية، ورغم ذلك مازالت تعاني من تغيير واقعها إلى الأفضل بسبب نوعية الفتاوى الدينية التي تحض على قهرها وإذلالها والتحكم في أدق تفاصيل حياتها كأنها سبب كل مصائب المجتمع.
وأثبتت العديد من المناسبات والمواقف أن رجل الدين المتشدد ضد المرأة لا يمكن أن يعطيها حقها بالفتوى، لأنه يتعامل معها بنظرة جاهلية ويعتبرها جارية، لكن المعضلة في مدى تقبل المجتمع لتكون السيدات فقيهات ومفتيات ما يتطلب إرادة سياسية قوية تحقق التمكين الفقهي للمرأة بالأمر المباشر.
إخضاع النساء لرجل يفتي لهن ويختزل العفة والطهارة والخلق القويم في جسدهن، عنصرية مقيتة تكرس للنظرة الدونية للمرأة
وتؤمن الناشطة الحقوقية داليا بأن القضاء على النظرة الدونية للمرأة من فتوى رجل أو حتى المجتمع والأسرة يتطلب أن تكون هناك فتاوى عقلانية وسطية عصرية لا تحط من شأن النساء وتحصر دورهن في تربية الأبناء وخدمة الرجل وإشباع رغباته، ولن يتحقق ذلك من دون تمكين فقهي للنساء، ليكنّ وحدهن من يتعاملن مع كل الاستفسارات الخاصة بالمرأة، على مستوى الفقه.
وقامت الكثير من الدول العربية بجهود وخطط رسمية وغير رسمية لتغيير واقع المرأة إلى الأفضل لقناعة حكومات هذه الدول بأن العنصر النسائي لا غنى عنه في كل المجالات، لكن تظل المواجهة مع رجال الدين المتشددين ضد النساء بحاجة إلى التفكير خارج الصندوق للتصدي لظاهرة الحط من السيدات والتحقير من شأنهن.
ويصعب فصل التشدد الفقهي أحيانا تجاه المرأة عن تعمد الكثير من علماء الدين أن يسيروا في اتجاه إكرام الرجل وتقديسه مقابل التقليل من شأن النساء، حيث يقومون بتحريم كل ما يتعلق بتحررهن وانطلاقهن نحو تحسين حياتهن وبلوغهن حلم الاستقلالية بعيدا عن السطوة الذكورية، لم لا وهؤلاء دائما يخترعون نصوصا دينية لتكريس تبعية المرأة للرجل.
وحتى الفتاوى التي ترتبط بجسد المرأة، فأغلبها، وإن لم يكن جميعها، تتعامل مع الأنثى التي تغطي جسدها باعتبارها الوحيدة التي تستحق نظرة الاحترام والتوقير، وما دون ذلك تعد عاصية وتتعمد مخالفة الدين وتقاليده، لدرجة أن بعض الشيوخ أباحوا التحرش بمثلهن لإجبارهن على الكف عن إثارة غرائز الرجال وتحريك شهواتهم المكبوتة.
على سبيل المثال، فتوى تحريم عمليات التجميل أو تكبير حجم الصدر لإرضاء الزوج، التي حرمتها دار الإفتاء المصرية قبل أيام، من الصعب على رجل الفتوى أن يفهم ويدرك قيمة هذه الجراحات عند المرأة، أما العالمة الفقيهة التي يوكل إليها حسم مثل هذه الأمور فهي في النهاية أنثى وتعي جيدا أهمية وصول المرأة لقمة جمالها لإرضاء شريكها وجذب انتباهه.
إذا لم تكن عمليات التجميل هدفها إرضاء الزوج، فإن الإسلام لم يقل إن المرأة واجب عليها أن تظل مشوهة ولا تظهر في أبهى صورة حتى أمام أسرتها ومجتمعها ونطاق عملها ونفسها، لأن من حقها الشعور بكونها جميلة، ومثل هذه الأحاسيس لا تصل إلى الرجل ولا يفهم قيمتها، وعندما يُفتى عالم دين في هذه الأمورعلى أيِ شيء يستند؟
ومهما كانت فتاوى رجال الدين عقلانية فتدخلهم في تحديد الأطر الشرعية لأجساد النساء يخلق بالتبعية حالة من الاستسهال في تقديم صورة معيبة ومنقوصة عن المرأة عموما، والخطر عندما تتحول إلى مصدر لتوجيه العنف ضدها، لأن التحريم صار لغة سائدة، وهذا ليس في صالح السيدات اللاتي يعشن في مجتمعات شرقية متدينة.
ودعمت آمنة نصير أستاذة الفقه المقارن بجامعة الأزهر وجهات النظر المطالبة بالتمكين الفقهي للمرأة، وقالت إن ذلك “ليس محرما ولا عيبا، طالما أنها عالمة متخصصة في شؤون الدين، ويوكل إليها حسم المسائل التي ترتبط بخصوصيات النساء، لأن تعامل الأنثى مع مفتية في أمورها الشخصية حائط صد أمام تبرع المتشددين بالحط من شأنها والحط من قيمتها دائما”.
وأضافت لـ”العرب” أن المرأة المفتية أقرب إلى النساء من الرجل في القضايا ذات الطبيعة الخاصة بالأنثى، فهي تفهم وتدرك متطلبات واحتياجات ومعاناة السيدات، وتجتهد لراحتهن بناء على ما أقرته الشريعة، وهذه الخطوة يفترض أن تكون أولوية في المجتمعات التي تكون فيها حواجز نفسية بين المرأة والرجل، بأن تُحرج من سؤاله أو تكون مشكلتها بحاجة إلى سيدة مثلها.
ويعتقد حقوقيون أن فتح المجال أمام المرأة في المؤسسات الدينية لتكون عالمة فتوى، من شأنه تكريس المساواة والمناصفة بين الرجل والمرأة وتغيير النظر الفقهية التاريخية تجاه النساء عموما، ومحو الصورة الذهنية الخاطئة عن مسألة قوامة المرأة، التي تسببت بمرور الوقت في تكريس نصوص حقرت من صورتها وقدمتها للمجتمع على أنها ناقصة عقل ودين.
ويشير هؤلاء إلى أن تطوير الخطاب الديني تجاه المرأة لن يتحقق قبل أن يتم تمكينها من الفتوى، طالما أن الآراء الفقهية الرسمية أو حتى العشوائية لم تنصفها أو تمنحها حقها، بل دفعت بسببها النساء فاتورة باهظة، من شيوخ لديهم عقد جنسية أو مصابون بالهوس المفرط بالسيدات ولا يستطيعون التحكم في شهواتهم عند إصدار الحكم الديني.
ورأت داليا أن التمكين الفقهي للمرأة وتأنيث الفتوى يضمنان للنساء، على الأقل، أن الرأي الديني عندما يخضع لأهواء وقناعات أصحابه سيكون صادرا عن أنثى في النهاية، وليس رجلا قد يكون متطرفا ونظرته للسيدات قاصرة على الجسد ليس أكثر، لأن خذلان المرأة في بعض المجتمعات العربية تأسس على الأهواء الذاتية لمصدري الفتوى بحقها.
ومن الطبيعي في الفقه الإسلامي أن المفتي عندما لا يجد نصا دينيا قطعيا حول مسألة بعينها، يجتهد في الرأي ويفتي وفق رؤيته وليس بأسانيد فقهية وأدلة ثبوتية، وهنا تكمن خطورة الفتوى عندما يكون صاحبها يملك نظرة رجعية للمرأة بأن يختصرها في صورة عورة أو مخلوق جاء للدنيا لغرض المتعة وليس كائنا له كل حقوق الرجل.
والخطر الأكبر من تجاهل التمكين الإفتائي للمرأة أن السيدات في المجتمعات الريفية والشعبية والقبلية غالبا ما يلجأن إلى استفتاء النساء المتدينات اللاتي لديهن جذور إسلامية، وهؤلاء ترعرع بعضهن بين صفوف السلفيين والإخوان، لأن لديهن فصائل نسوية متخصصة في شؤون الفتوى والدعوة ضمن خطط اختراق الصفوف النسائية.
وتلجأ السيدات الريفيات في مصر لسؤال السلفية أو الإخوانية عن أمور شخصية، لحرجهن من استفتاء رجل دين أو حتى إمام مسجد، ما يفرض على المؤسسات الدينية التطرق إلى هذه الإشكالية، لأن التصدي للجذور المتشددة يتطلب تعويض السيدات بفقيهات وسطيات يُبعدهن عن اللجوء لخطاب نسائي متشدد لسد حاجتهن من الفتاوى.
وإذا كان التمكين الإفتائي للمرأة ضرورة لوقف العنف الممارس ضدها بسبب فتاوى بعض رجال الدين، فإقناع المجتمع بأن يتعامل مع النساء بتحضر ورقي لن يتحقق دون مناصفة الفتوى بين الجنسين، ومهما بلغت مساعي الحكومات لرفع شأن المرأة وسن تشريعات تكرس حقوقها، فحرمانها من أن تصبح والية فقه سوف تظل في نظر مجتمعها ناقصة عقل ودين.
تأنيث الفتاوى بداية لإنصاف المرأة ونسف ذكورية المجتمع!!
بقلم : احمد حافظ ... 04.11.2021
*المصدر: العرب