عكست قضية الشاب المتحرش التي أصبحت حديث الرأي العام في مصر خطورة الصمت الأسري على مطاردة المتحرشين، وكيف يمكن أن تتسبب سلبية الضحية وعائلتها في أن يتحول هؤلاء إلى ذئاب بشرية ينتهكون أجساد النساء لأنهم لم يجدوا من يُحاسبهم أو يتصدى لهم بقوة.
بدأت القضية بخروج إحدى الفتيات لتكشف هوية شاب تحرش بها جنسيا أكثر من مرة، ولم تعد تستطع الصمت أكثر من ذلك، وبعدما أشارت إلى اسمه وكشفت صورته، فوجئ المجتمع المصري بوجود العشرات من الضحايا من الفتيات لذات الشاب، ولم تكن لديهن الشجاعة الكاملة لفضحه.
وأعلن المجلس القومي للمرأة (جهة حكومية) تقديم بلاغ للنائب العام، وتبنى قضايا الفتيات والدفع بمحامين لهن بعد تسليط الضوء على الأزمة بشكل لافت، وعلى إثر ذلك تحركت أجهزة الشرطة لضبطه وإحالته للنيابة التي قررت فتح تحقيقات موسعة.
وتصاعد الغضب الأسري عقب تسريب بعض الشكاوى التي وصلت إلى المجلس القومي للمرأة من الضحايا، بينها تسجيلات صوتية وتهديدات تعرضن لها من الشاب، إذا أقدمت أيّ منهن على إبلاغ أهلها، لأنه سوف يوهم أسرة كل فتاة أنها أقامت معه علاقة جنسية بمحض إرادتها.
ومن بين الشكاوى أن أسر بعض الفتيات تراجعن عن مقاضاة الشاب خشية الفضيحة، في حين أقرت بعض الضحايا بعدم التحدث مع ذويهن خوفا من ردة فعل الأب والأم، والتزمن الصمت وتحدثن بشجاعة بعد وجود حماية رسمية لهن ودعم أسري.
وساعد دخول المؤسسات الدينية على خط الأزمة لإدانة التحرش مهما كانت مبرراته، في وقف التنمر بالفتيات وأسرهن، وقال الأزهر إن من يتذرعون بارتداء الفتاة ملابس غير لائقة لارتكاب هذا الفعل أصحاب نفوس مريضة وشخصيات دنيئة، وتحدثت دار الإفتاء المصرية بذات النبرة.
صحيح أن مؤسستي الأزهر والإفتاء لم تكن مواقفهما حاسمة وقاطعة إلى هذه الدرجة، لكن الضغط الأسري والغضب العام نجحا في استصدار حكم ديني استثنائي يحصن جسد الفتاة من التحرش، بغض النظر عن أسبابه، لإسكات الذين اعتادوا تصوير الضحية على أنها الجاني الحقيقي.
وشنت مؤسسات حقوقية ونسائية هجوما ضاريا على أسر فتيات التزمت الصمت ولم تبادر بمقاضاة المتحرش، وأصبحت شريكة في ارتكابه أكثر من واقعة أخرى بدعوى الخوف من الفضيحة أو إلحاق العار ببناتها وتجنب الدخول في معارك قانونية وأزمات مع عائلة الجاني التي يتردد أن لها نفوذا قويا.
قالت هالة حماد، طبيبة نفسية ومحاضرة في التفاعلات الأسرية، إن الدروس والعبر التي يمكن أخذها من هذه القضية كثيرة، أولها أن نمط التربية القائم على الترهيب وعدم الاستماع للأبناء والحكم المبكر على الفتاة بأنها أخطأت يقود إلى كوارث أسرية.
وأضافت في تصريح لـ”العرب”، أن أزمة بعض الأسر تفتقد ثقافة الاستماع والاحتواء للفتاة، فإذا أبلغت والديها بأنها تعرضت للتحرش الجنسي يبادران بتوجيه اللوم إليها، بذريعة ملابسها أو طبيعة الأماكن التي تتردد عليها والشك في سلوكها.
وبغض النظر عن القضية المثارة حاليا على مستوى واسع، فقد روت (ن. م)، وهي مسؤولة بإحدى المدارس الحكومية في القاهرة، أن إدارة المدرسة عندما تعاقدت مع استشاريين في السلوكيات لتوعية الطالبات بطرق الوقاية من المتحرش كانت الصدمة.
وأوضحت لـ”العرب”، رافضة الكشف عن هويتها، أن بعض الطالبات دخلن في موجات بكاء أثناء المحاضرة بعدما تعرضن للتحرش على يد أحد المعلمين، وبينهن فتيات أكدن إبلاغ أسرهن دون جدوى خوفا على سمعتهن ومستقبلهن التعليمي أو لعدم إثبات التهمة عليه.
وما لفت انتباه السيدة أن جميع أولياء الأمور الذين تعرضت فتياتهم للتحرش لم يتواصلوا مع إدارة المدرسة للتحقق من الواقعة، وبعض الطالبات اعترفن بعدم إبلاغ أسرهن خوفا من ردود الفعل العنيفة التي قد تصل إلى الحرمان من التعليم، أو التدخل في اختيار ملابسهن. وأمام حالة الرعب التي تعيشها الفتاة من أسرتها تلتزم الصمت أمام أي اعتداء لفظي أو جسدي تتعرض له، وتضطر للتغاضي عن حفظ حقوقها وكرامتها، ما ينعكس عليها الشعور بالانكسار عندما تكبر وتتزوج وتكون مسؤولة عن أسرة، وتظل معاناتها في الصغر تطاردها طوال حياتها.
وتفتقد بعض الأسر المصرية ثقافة مواجهة المتحرشين، فهناك فئة تقرر غض الطرف لتجنب المشكلات، وأخرى تتهم الابنة بأنها السبب، وثالثة تفضّل عدم تشويه صورتها أمام الناس، ورابعة تضغط على الفتاة للتصالح مع المتحرش لنفس المبررات.
ويمكن ملاحظة التهاون الأسري مع وقائع التحرش في عدد البلاغات المقدمة لأجهزة الشرطة والمؤسسات القضائية، فهي نادرة للغاية، ويكفي أن أول حكم قضائي صدر بحبس شاب متحرش كان عام 2017، والمعضلة الأكبر أن العقوبة لا ترتقي لحجم الجريمة ولا تتعدى الحبس 3 سنوات، شريطة أن يكون للواقعة شهود أو يتم إثبات التحرش وهذا أمر صعب.
وما أثار انتباه هالة حماد أن عائلة الشاب المتهم بالتحرش بالعشرات من الفتيات ومحاولة اغتصاب بعضهن قررت مقاضاة من يحاولون تشويه صورته، ما يعني أن سلوكياته نابعة من أسرة لديها تصرفات ونمط تربية يُشجع على إباحة انتهاك الفتيات.
ويرى متخصصون في الطب النفسي أن المتحرش ليس شرطا يقوم بهذا الفعل لإشباع رغبة جنسية، فهناك احتمالات قوية يكون شخصا ساديا يستمتع بإيذاء النساء وكسرهن وترويعهن لأن ذلك يعطيه شعورا بالرجولة، وغالبا تكون أسرته شريكة معه.
وتظل الشجاعة الأسرية في مواجهة المتحرش ضرورة حتمية كمدخل لرفض التعايش مع أقرانه لغياب البدائل، لأن الصمت يعطيه الحق في ارتكاب المزيد من وقائع التحرش، اعتقادا بأن الفتاة وعائلتها سوف يكون موقفهما سلبيا.
وعكست ردود الفعل على قضية الشاب المتحرش ارتفاعا نسبيا في الوعي عند بعض الأسر، ظهر في إلقاء اللوم على الآباء والأمهات الذين اعتادوا الصمت مع فتياتهم، ولا يسمحون لهن بالفضفضة أو التعبير عن همومهن.
وقالت عزة سليمان، الناشطة في شؤون المرأة، إن صمت الفتيات نتيجة طبيعية للتربية الأسرية الخائفة والتي تقوم على وضع حواجز في العلاقة بين الآباء والأبناء.
وأضافت لـ”العرب”، أن أغلب أرباب الأسر يرون أن العلاقة الجافة القائمة على ترهيب الفتاة الحل الوحيد لانضباطها الأخلاقي، في حين إذا لم تجد العاطفة والحنان من الأسرة كخط دفاع أول، حتى لو أخطأت، سوف تبحث عن البديل.
ويبدو أن هناك أزمة كبيرة تعاني منها بعض الأسر تتعلق بطريقة تكوين عائلة قائمة على الترابط والانسجام والصداقة، لأن التربية بالعقاب لا تؤدي إلى علاقة جيدة داخل الأسرة.
حتى لو كانت العائلة أكثر انفتاحا ووفرت لضحية التحرش مظلة حماية للقصاص من الجاني دون تحميلها المسؤولية، فإنها غالبا تتراجع أمام تدخل الوسطاء والمعارف للتنازل، ما يحتم على الحكومة فرض عقوبة على المتحرش كحق للمجتمع، ولو تصالحت الفتاة لترتاح من الضغوط.
وقال تقرير لوكالة فرانس برس إن السلطات المصريّة اعتقلت السبت المشتبه به في الاعتداءات الجنسيّة على العشرات من النّساء، بحسب ما أعلن مصدر أمني، وذلك بعد حملة على وسائل التواصل الاجتماعي دعت السلطات إلى التحرّك.ونُشرت في الآونة الأخيرة على وسائل التواصل الاجتماعي شهادات تُفصّل عمليات ابتزاز واعتداء جنسيّ رهيبة ارتكبها رجل ضدّ نساء كثيرات في مصر، الأمر الذي أثار غضب مستخدمي الإنترنت.
ويشتبه بأنّ الموقوف اغتصب أو حاول اغتصاب العشرات من النساء والفتيات وتحرّش بهنّ، وبين هؤلاء فتاة تبلغ من العمر 14 عاما فقط حاول الاعتداء عليها جنسيا. وبحسب إحدى الشهادات التي نشرت الأربعاء على موقع إنستغرام، فإنّ هذه الاعتداءات الجنسية حصلت اعتبارا من العام 2018 على أقلّ تقدير. كما انتشر على نطاق واسع في كلّ من تويتر وفيسبوك وَسمٌ باسم الجاني المزعوم، ودعا مستخدمو الموقعَين السلطات إلى التحرّك.
وقال المصدر الأمني إن “الشخص المتّهم بالتحرّش بهؤلاء النساء اعتُقل وسيُلاحق قضائيّا بعد الاتّهامات التي وُجّهت إليه على مواقع التواصل الاجتماعي”.
وأوضحت النيابة العامة في بيان أنّها لم تتلقّ أيَّ شكاوى رسمية أو بلاغات بحق المشتبه به “سوى شكوى واحدة من إحدى الفتيات قدّمتها عبر الرابط الإلكتروني الرسمي لتقديم الشكاوى إلى النيابة العامة مساء أمس الموافق للثالث من شهر يوليو الجاري، والتي أبلغت فيها عن واقعة تهديد المشكو في حقّه لها خلال نوفمبر عام 2016 لممارسة الرذيلة معها. وجار اتخاذ اللازم قانونا بشأنها”.
وقال المجلس في بيان إنّه “في ضوء متابعة المجلس القومي للمرأة لمواقع التواصل الاجتماعي، تبيَّن وجود صفحة على تطبيق إنستغرام تمّ تدشينها من قبل بعض الفتيات والسيّدات يعلنّ فيها عن قيام شخص باغتصاب البعض منهنّ وهَتك العرض والتحرش جنسيّا بالبعض الآخر”.
وأضاف أنّ “الصفحة التي يُتابعها الآلاف من الأشخاص، تتضمّن رسائل نصّية وصوتيّة خادشة للحياء قام هذا الشاب بإرسالها إلى العديد من الطفلات والفتيات بهدف التهديد والابتزاز”.
وتابع “تلقّى المجلس العديد من النّداءات والمناشدات من الضحايا المجني عليهنّ بشأن قيام ذات الشخص بابتزازهنّ وتهديدهنّ، مستغلّا ما يَحتفظ به من صور ومقاطع توثّق جرائمه النكراء في التشهير بهنّ إذا قمن بالإبلاغ عنه للسلطات المختصّة”. وناشد المجلس جميع النساء المعنيّات “التقدّم ببلاغ رسمي ضدّ هذا الشابّ، حتّى ينال عقابه الذي يستحقّ طبقا للقانون”.
وبحسب معلومات نشرت على الإنترنت فإنّ الموقوف طالب جامعي. وقالت الجامعة الأميركيّة في القاهرة في بيان إنّ المشتبه فيه كان طالبا لديها قبل أن يُغادرها في العام 2018.
وأشارت الأمم المتحدة في تقارير نشرتها خلال السنوات الأخيرة إلى أنّ الغالبيّة العظمى من النساء المصريّات وقعن ضحايا عمليّات تحرّش. ولا يزال التحرّش الجنسي، اللفظي والجسدي، ظاهرة شائعة في مصر، على الرّغم من إقرار قانون في 2014 جرّم هذا السلوك.
الصمت الأسري على مطاردة المتحرشين يحولهم لذئاب بشرية !!
بقلم : أميرة فكري ... 07.07.2020
*كاتبة مصرية.. المصدر : العرب