يعد الحديث في المواضيع المتعلقة بالجنس وبالصحة الإنجابية في المجتمعات العربية عيبا، لذلك ظلت هذه المواضيع من التابوهات بسبب البيئة المحافظة والموروث الديني والأخلاقي والقيمي الذي توارثته الأجيال وبقي راسخا فيها إلى اليوم رغم ما يبدو على المجتمعات العربية من انفتاح وتقدم علمي وثقافي يلعب فيه التعليم دورا رئيسيا.
تعدّ الصحة الإنجابية والجنسية مواضيع أكثر حساسية عند المرأة لأنها أنثى ولأن طرحها يربط بأحكام أخلاقية إلى درجة أن هناك من النساء من تكون مهددة في صحتها وحياتها ولا تتجرأ على الحديث عن مشاكلها الصحية المرتبطة بالجنس والإنجاب إما خوفا من نظرة وحكم الآخر أو لأنها لا تمتلك القدرة على التعبير ووصف مشاكلها لأنها لم تتعلم كيفية إثارة هذه المسائل دون الشعور بالحرج.
لا يمكن لأحد أن ينكر أهمية الصحة الجنسية والإنجابية في حياة الفرد والمجموعة ولا ارتباطها الوثيق بالمرأة كونها المسؤولة عن الحمل والإنجاب وأيضا التربية. كما لا يمكن الجزم بأن هذه الأهمية أفرزت في المقابل ما يليق بها من اهتمام لأن المسائل الجنسية سواء تعلقت بالصحة أو بالحياة اليومية هي الحاضر المغيّب بطرق متعددة ولأسباب تتراوح بين الحياء والتربية والإرث الثقافي والجوانب الأخلاقية ما جعلها من أكبر التابوهات في المجتمعات العربية.
فالخلفيات ذاتها تسببت في غياب التربية الجنسية في هذه المجتمعات وهو ما جعل الشباب والفتيات الذين يتعرضون لمشاكل نفسية أو صحية تتعلق بالجنس والإنجاب يعجزون عن الوصل للحلول المناسبة بدءا بالكلام في الموضوع وطرح المشكلة وصولا إلى إيجاد آذان صاغية ومتفهمة تساعد في العلاج وتقديم الحلول.
غياب الثقافة الجنسية
عندما تربط المسائل الجنسية والإنجابية بالعيب والحرام وخدش الحياء والشرف والأخلاق فإنها تخرج من إطارها الطبيعي الفيزيولوجي الواقعي لترتبط بالقيم والمبادئ التي صاغتهما ثقافة كاملة كلّما توغلنا في عمقها وتاريخها نجدها أكثر تشددا مع طرح الحديث في الجنس. فالثقافة العربية الإسلامية لا تقبل الموضوعية والحياد ولا التحرر أمام طرح هذه المسائل وهو ما جعل أجيالا متتالية تعيش تحت وطأة أميّة جنسية في غياب التربية الجنسية.
يتعرض الإنسان منذ صغره لتغيرات فيزيولوجية أبرزها ما يظهر عليه في سن البلوغ أي اكتساب القدرة الطبيعية على الإنجاب ويحتاج الطفل في هذه المرحلة التي تقترن بسن المراهقة من يساعده على تحليل وفهم وتقبل ما يشهده جسده من تطورات.
ففي المجتمعات الغربية يجد المراهق ذكرا كان أم أنثى من يساعده في الفهم إمّا في العائلة من والدين أو إخوة أو أقارب أو في المدرسة والمعهد حيث يتلقى دروسا في العلوم الطبيعية ودروسا تربوية وتثقيفية تقرب له صورة دورة الحياة وما يطرأ على الإنسان من تطور بدني ونفسي وعقلي.
فنجده يتقبل الأمر ويفهمه ويكتشف في الآن ذاته جوانب هامة عن جسده وعن مستقبله وصحته الجنسية والإنجابية في سن مبكرة فتتكون لديه مقاربة علمية يفهم من خلالها النشاط الجنسي على أنه مكون أساسي في حياة البشر وهي بداية بناء تربية جنسية يطورها فيما بعد بالتعلم وتبادل الآراء والنقاش مع الآخر ليكتسب ثقافة جنسية ترجّح كفة التحاليل العلمية الموضوعية على الميول الثقافية والأخلاقية.
أما في المجتمعات العربية فتمر هذه المرحلة العمرية الحساسة على الطفل في صمت وسكوت مطبقين ومتعمدين. يصمت الشاب أو الفتاة أمام ما يلاحظه على جسده من تغيرات وذلك لأنه أدرك من خلال ما تلقاه من تربية أسرية ومجتمعية أن ما يحدث له سوف ينقله من مرحلة الطفولة إلى مرحلة الشباب، وسواء طرح تساؤلات أم لا أو استوعب تفاصيل هذه التطورات من عدمه فهو لا يتجرأ على الإفصاح عمّا يجول بخاطره من أسئلة وأفكار وأحيانا من مخاوف وهوس، لأن كل ما يتعلق بالجسد وبالأعضاء التناسلية بالذات ارتبط في وجدانه وعقله بالحياء والإحراج ما يجعله مجبرا على التكتم وتجاهل حيرته أمام ما يمكن أن يلقاه من ردود إما تغالطه في الاجابة، خاصة إذا ما وجّه أسئلته للعائلة، أو تتهمه بالحديث فيما هو عيب.
وتعيش الفتاة في المجتمعات العربية المحافظة هذه المرحلة وكأنها تمر بكابوس فهي من جهة تلاحظ ما يطرأ على جسمها من تغيرات وتعيش آلام البلوغ كتلك التي تصيبها خلال فترة الدورة الشهرية، ولا تجد من جهة أخرى كيف تتصرف ولا تعلم أحيانا ماذا تفعل ولا إلى من تتحدث وعلى من تطرح الأسئلة لتفهم ما يحدث لها وتستوعب طبيعة الأشياء وهو ما يجعل هذه الفتاة تعيش فترة مراهقة صعبة تشتكي منها أحيانا العائلات وتدخلها في دوامة من الاضطرابات النفسية قد تصل إلى الاكتئاب والعزلة والعدوانية.
وتكون هذه المرحلة أكثر صعوبة على الفتاة من الفتى لأن الأنثى لا تعامل ولا تربّى مثل الذكور في نفس العائلة وفي نفس البيئة كما يحكم على أغلب سلوكياتها وتصرفاتها من منظور قيمي وأخلاقي فهي التي يجب أن تكون آية في الحشمة والحياء لأنها أنثى.
هذا التعقيد للمسألة من خلال ربطها بالجوانب الأخلاقية والقيم يجعل الشباب في المجتمعات العربية يعيش علاقة غامضة مع الجسد لأنه لا يفهمه ولا يتفهمه وكلما تقدم في السن يزداد التعقيد لأنه إما يبحث عن المعلومة والمعرفة بالأمور الجنسية بطرق سرية أي بعيدا عن النقاش والتحدث للكبار في السن الذين يمكن أن يفيدوه ويقدموا له المعلومة الصحيحة، فيأخذ أفكارا ومعلومات تكون في أغلب الأحيان خاطئة إما عن طريق أقرانه الذين لا يختلفون عليه كثيرا في التكوين أو بواسطة مصادر أخرى مثل الإنترنت وغيرها والتي تمتلئ بالغث والسمين من المعلومات التي تتضمن أحيانا كثيرة مخاطر يتعرض لها المراهق أثناء تصفحها والاطلاع على مضامينها. غياب المعلومة حول الجوانب الجنسية الأساسية في الحياة وغياب المصادر الموثوقة والصحيحة التي تقدم التفسيرات العلمية للأشياء تجعل الفتاة العربية أميّة جنسيا فاقدة للتربية.
وللثقافة الجنسية وهو ما ينتج عنه اختلالات كثيرة في نفسيتها وتكوينها ما يجعلها غير قادرة على أن تتصالح مع جسدها ومع رغباتها الجنسية من ناحية، ومع الطرف الآخر وهو الذكر بصفة عامة من ناحية أخرى. لذلك نجد أن مسائل العذرية والعلاقات الحميمية بعد الزواج أكثر ما يؤرق الفتاة المقبلة على الزواج خاصة في غياب الإحاطة النفسية والاجتماعية والأسرية التي من شأنها أن تريحها نفسيا وتجعلها تتقبل المستجدات في حياتها بأريحية.
المرأة المتضرر الأكبر
الأمية الجنسية سيف مسلط على رقبة المرأة فمضاره تهددها أكثر من غيرها لأنها الأنثى التي تحمل الجنين وتضعه ثم ترضعه وهي التي تربيه وتغذيه جسديا وعاطفيا وفكريا. المرأة تتضرر أكثرمن الرجل منذ سنّ البلوغ لأن التغيرات التي تطرأ على جسدها أكثر حدة كمّا وكيفا من الرجل. ولأنها المطالبة بأن تبدي الطاعة للعائلة وللمجتمع وأن تتقن الخضوع للعادات والتقاليد وهي في موقف حساس تجاه المسائل الجنسية لأنّ شرفها وما تستحق من احترام رهين عذريتها. والسمعة الطيبة للفتاة في المجتمعات العربية لا تقف عند الشرف بل تخضع لمقاييس السلوك واحترام الإرث الثقافي فإذا أطلقت لنفسها العنان وفكّرت وتحدثت وتصرفت بحرية وتساءلت عن تفاصيل جسدها في علاقة بالآخر فإنه سيحكم عليها بالجرأة في ألطف الحالات وبالوقاحة وانعدام التربية في أغلب الحالات.
تتعرض بعض النساء لتعقيدات صحية متصلة بالصحة الجنسية والإنجابية سواء قبل الزواج أو بعده لكنهن في أكثر الحالات يلجأن لطرق علاج منزلية ورعوانية تجنبهن أكثر ما يمكن الحديث بحرج عن مصابهن مع أشخاص مثل الأم والحماة وأحيانا الزوج والطبيب، فيتناقشن في الموضوع مع صديقاتهن ومعارفهن ما يجعلهن يعرّضن أنفسهن لمخاطر أكثر قد توصل بعضهن لأضرار جسدية كبرى تؤدي أحيانا إلى الوفاة.
وكثيرا ما يتحدث الأطباء عن استغرابهم ودهشتهم من درجة التدهور الصحي التي قد تبلغها بعض المصابات بأمراض جنسية عندما تأتين لزيارتهم، وكثيرا ما نستمع لاختصاصيين في أمراض النساء والتوليد في تونس مثلا يعربون عن استغرابهم من أنه رغم التقدم الطبي ورغم أن المرأة العربية بلغت درجات متطورة في التعليم والثقافة والوعي إلا أن بعض المصابات تعرّضن أنفسهن لتداعيات صحية خطيرة بسبب الصمت والخجل أو عدم المعرفة بحجم المخاطر الحقيقية جراء تجنبهن زيارة واستشارة الطبيب. فهناك من السيدات من تلتجئ إلى العلاج بالأعشاب مثلا وبوصفات جربتها غيرها وحدثنها عن جدواها فتوقع نفسها في تدهور صحي كانت في غنى عنه لو قصدت الطبيب.
تجدر الإشارة هنا إلى أن الخجل من التحدث عن المشاكل الصحية الجنسية ليس حكرا على النساء حتى المتعلمات منهن، بل هو أحيانا يكون أكثر عند الرجال الذين لا يذهبون للعيادات والأطباء إلا عند الضرورة القصوى، وهو ما يعده الأطباء أحد أسباب انتشار الأمراض الجنسية سواء عن طريق العدوى أو نتيجة للتكتم عليها إلى أن تستفحل حالة المصاب.
ويلاحظ الأطباء أن ما يعقّد مسائل العلاج والإقبال على استشارة الطبيب من قبل النساء هي الحواجز النفسية والوعي وأحيانا المستوى الثقافي والتعليمي فبجانب الخجل والإحراج والخوف من نظرة الآخر، سواء في المحيط العائلي أو الاجتماعي وحتى من نظرة الطبيب نفسه، لا تعي النساء حجم التأثيرات والخطورة التي قد تبلغها حالتهن بسبب أعراض بسيطة في نظرهن طرأت في بعض المناطق من الجسم أو في الأعضاء التناسلية.
كما أن هناك سببا آخر بالغ الأهمية يتمثل في أن من بين الأشياء التي تفاقم الشعور بالخجل هو عدم التمكن من أسلوب سلس وواضح يستعمله الإنسان لوصف حالته بشكل دقيق. وأحيانا يعجز المريض عن إيجاد العبارات الملائمة لوصف وضعه الصحي وهو ما يعمّق الحواجز النفسية عنده ويجعل اللقاء مع الطبيب المختص أمرا صعبا يخاف منه ويهابه.
قد لا تعرف المرأة سواء كانت متزوجة أم غير متزوجة كيف تثير هذا النوع من المواضيع إما بسبب الخجل أو لأن مستواها التعليمي والثقافي محدود فتعجز عن التعبير عن مشاكلها، ولكن أحيانا هناك نساء يكتسبن مستويات ثقافية وتعليمية رفيعة لكنهن لا يستطعن التغلب على الحواجز النفسية والاجتماعية التي تحول دونهن والطبيب المختص. وهو ما يعيدنا دوما إلى أن غياب التربية والثقافة الجنسية في مجتمعاتنا العربية هو ما يجعل الصحة الإنجابية والجنسية من المواضيع والتابوهات المسكوت عنها التي تضر المرأة جسديا ومعنويا ونفسيا وحتى في علاقتها بالآخر وقدرتها على التواصل.
غياب التربية والثقافة الجنسية سيف مسلط على رقبة المرأة !!
بقلم : سماح بن عبادة ... 05.06.2016
صحافية من تونس..المصدر : العرب