رغم عدالة الدساتير والقوانين في نصوصها الأصلية إلا أن حكومة الإنقاذ قامت بتعديلات عليها لتكريس إقصاء المرأة، وبهذا خفت صوت المرأة السودانية وكثرت معاناتها خلال سنوات حكم الإنقاذ.
شكّلت المرأة السودانية، نواة أساسية في صناعة وجودها وتقدم مسيرتها منذ قرون ما قبل التاريخ. من أمانجي ريناس التي حكمت مملكة كوش من سنة 40 ق.م-10م، إلى مهيرة بنت عبود ورابحة الكنانية وغيرهنّ ممن أسهمن في العمل العسكري والسياسي إبان الثورة المهدية 1885 مرورا برائدات العمل الوطني في القرن الماضي، وصولا إلى المساهمات والمنافحات عن حقوق المرأة في العهد الحالي.
عندما عرف المجتمع السوداني القديم الزراعة جعل صلته مع الإلهة الأم التي كان يتصور المجتمع آنذاك أنها جزء من الطبيعة فتم تقديسها. فقد كانت الممالك السودانية القديمة مثل مملكة كوش القديمة (725- 591 ق.م)، تخُصّ الأم بقدسية ومكانة خاصة، مما يعكس دور المرأة ومركزها الذي لا يقل عن دور الرجل الحاكم. وقد فرضت المملكة أن تلعب والدة الملك دورا أساسيا في حكم البلاد، وإذا ماتت الملكة الأم أو “الكنداكة” وهي تعني الأم العظيمة، يتم اختيار امرأة أخرى من العائلة المالكة لتحل محلها مما يفسّر الدور الهام الذي كانت تقوم به المرأة في الحياة الاجتماعية والدينية والسياسية.
ورغم الدور البارز للمرأة السودانية في الحياة العامة منذ عهود ما قبل التاريخ إلّا أنّ مركز المرأة تواضع فيما بعد خاصة بعد قيام دولة الفونج عام 1505، وهي للمفارقة أول دولة عربية إسلامية قامت في بلاد السودان بعد انتشار الإسلام واللغة العربية. اتسم النظام الاجتماعي في تلك الدولة الإسلامية بملامح نظام شبه إقطاعي حصر المرأة في مجالين: إما أن تكون زوجة مهمتها الأساسية التسرية عن زوجها وتطوير قدراتها الجسدية لإرضائه وتقبّل نزواته العديدة، أو أن تكون جارية تُباع وتُشترى.
بدأ وعي المرأة السودانية السياسي مبكرا، حيث شاركت المرأة في البرلمان وكانت فاطمة أحمد إبراهيم أول امرأة دخلت البرلمان عام 1964 بعد ثورة أكتوبر الشعبية التي أطاحت بحكم الفريق إبراهيم عبود، وكانت هناك وزيرات في السبعينات، وأول قاضية تقلَّدت منصبها عام 1969.
لقد كسرت المرأة السودانية قيود الأمية والجهل والخرافة والعادات والتقاليد البالية منذ أكثر من نصف قرن، ووصلت إلى غاياتها في شتى المجالات وتدرجت في ارتقاء الوظائف العامة والقيادية في كل مجالات العمل فأثبتت جدارتها في ظل القوانين والدساتير وتشريعات العمل، التي تساوي بينها وبين الرجل دون تمييز، بدءا من دستور 1973 ومرورا بالدستور الانتقالي 1985، وقانون التأمينات الاجتماعية سنة 1990. ورغم عدالة الدساتير والقوانين في نصوصها الأصلية إلّا أنّ حكومة الإنقاذ قامت بتعديلات عليها لتكريس إقصاء المرأة عن منصبها، وبهذا فقد ظهرت هذه الحقبة التي خفت فيها صوت المرأة السودانية وتراجعت ريادتها ودورها وكثرت معاناتها خلال سنوات حكم الإنقاذ في ربع القرن الأخير.
رغم رسوخ مكاسب المرأة السودانية إلّا أنّ وضعها الراهن يواجه تدنيا عبر أنماط من السلوك تسعى إلى إقصاء النساء عن دائرة العمل في مؤسسات الدولة وتوزيع الفرص في هذه المؤسسات حسب الولاء السياسي وعبر الانتماء إلى الحزب الحاكم. ولكن لو تلين الجبال لن تلين عزيمة النساء السودانيات اللائي ما زلن يواصلن نشاطهن للحفاظ على مكتسباتهن، والتقدم بخطى ثابتة صوب الإسهام في ترسيخ دعائم مؤسسات المجتمع المدني، ومفاهيم حقوق الإنسان. سبقت المرأة السودانية بعض نظيراتها العربيات في المشاركة السياسية بدءا من الممالك القديمة، ومرورا بالثورة المهدية 1885 والحركة الوطنية 1924 ثم مشاركتها في استقلال بلادها عام 1956، ومشاركتها في ثورتي أكتوبر 1964 وانتفاضة أبريل 1985. وحصلت المرأة السودانية على جملة من المكتسبات هي حق التصويت والانتخاب حسب نصوص الدستور، ولكن وجودها الحالي في البرلمان رغم كثافته يعتبر وجودا شكليا لا يساهم في صنع القرار ولا يتخذه. والناظر إلى تاريخ مشاركة المرأة السودانية في الحياة السياسية قد يرى الصورة مقلوبة بعض الشيء.
فبعد أن نالت المرأة السودانية حقوقها كاملة وانتظمت منذ أجيال في اكتساب المعرفة والمهارات التي هيأتها للعب دورها الإنساني كمواطنة لها حقوق وعليها واجبات، تكتشف الآن أنّها قد سُلبت منها هذه الحقوق لتبدأ من الصفر، وليكون الفارق الزمني بين ما حققته منذ الحقبة الوطنية الأولى وبين ما تحاول أن تحصل عليه الآن، شاسعا.
*كاتبة سودانية
المرأة السودانية صدى "الكنداكات"!!
بقلم : منى عبد الفتاح ... 07.03.2014
المصدر : العرب