الغناء هو تعبير صريح عن ثقافة المجتمع في وقته الراهن، لذلك اهتم الكثير من الباحثين السودانيين بنمط غناء البنات، معتبرينه ظاهرة اجتماعية وفنية تستوجب النظر والتأمل، لأن هذا النمط الغنائي يكشف الكثير من النواحي الإيجابية والسلبية التي شهدها المجتمع السوداني عبر عقود من الزمان.
الخرطوم – فرضت أغاني البنات نفسها بقوة في المشهد الثقافي السوداني، بعد أن كانت حبيسة الأعراس والمناسبات الاجتماعية السعيدة، إذ باتت تجد طريقها إلى وسائل الإعلام بعد أن كانت شبه محظورة.
وأغاني البنات في السودان ليست بجديدة، فقد ظهرت منذ حقبة الاستعمار التركي للسودان، كنوع من الشعر يمجّد الكرم والشجاعة، ويبث الحماس في نفوس المقاتلين، إلى جانب تمجيد زعماء القبائل في بعض مناطق السودان، لا سيما كردفان ودارفور، حيث تعتبر “لحكامة” شاعرة القبيلة. لكن انحصرت هذه الأغاني بعد ذلك في الأفراح مرفقة بنظرة دونية للأغنية ومن يغنّيها.
وتتسم أُغنية البنات بطابعٍ شعبي وكلمات جريئة ومفردات بسيطة من نتاج الحياة اليومية للناس في المدن والأرياف مصحوبة بآلة “الدلوكة” وإيقاع السيرة السوداني، وهو إيقاع محبب عند السودانيين، لكن لم يكن من السهل تداولها في المنابر العامة سابقا.
ويوضح الباحث عبدالله حمدنا الله أن أغنيات البنات تشمل الأهازيج التي تؤديها البنات في المدن والأرياف. ويأخذ الباحث في الاعتبار الفوارق بين أغنية البنت في الريف والمدينة في الأشواق والدوافع وحرية التعبير، حيث يرى أن سقف الطموحات في أغاني بنات المدن يرتفع إلى مراتبٍ عالية، بينما ينخفض في أغنيات بنات الريف.
وتقول المطربة ميادة قمر الدين إن “السودان غني بإيقاعاته، منها المردوم والسيرة والتم تم، لكن السيرة في اعتقادي يمكن أن تكون إيقاعا عالميا فريدا من نوعه، وهو إيقاع ساحر”.
ففي الأعراس تجتمع الفتيات حول العروسة يغنين أغاني تحتفي بجمال العروسة وآمالهن وتمنياتهن لها بالسعادة بحضور العريس فقط من الرجال، وتطورت أغاني البنات من الغزل والشوق والغرام وتعليم العروس الرقص الخاص بها في يوم زفافها لتصبح مع مرور الوقت أغنيات تسرد واقع حال المرأة السودانية في المجتمع.
تقول ميادة “معروف أن البنت تعكس مشاكلها من خلال تجمُّع الصديقات والجيران أثناء الغناء بالدلوكة في الأعراس والمناسبات المختلفة، فهنّ ببساطة يعبّرن عن مشاكلهن بواسطة الأغاني”.
ويقول الباحث فتح العليم عبدالله “تناول أغنيات البنات للقضايا المجتمعية دليل على الاحتجاج والتمرد على الواقع. فالمرأة اليوم تتمتع بقدر كبير من الوعي بحريتها على عكس السيدات في الماضي، لذا أصبحت تعبر عن رغبتها بشكل أوضح في شتى الأمور الحياتية، فتبدأ بصياغة الواقع بحسب وجهة نظرها وما تعتريها من مشاعر وآلام وآمال، وتجاهر من خلالها برأيها بشكل واضح وصريح لإيصال رسالتها”. ويضيف، “لم تتغير رغبات البنات والسيدات عمّا مضى، لكنها أصبحت تعبر عن رغباتها المسكوت عنها بمنتهى الصراحة”.
الفنانة ندى القلعة، من أشهر المطربات اللائي أدّيْن أغاني البنات الشعبية، لم تخف عشقها لترديد الأغنيات التي تعالج قضايا المجتمع والمرأة على وجه الخصوص.
وقال الناقد الفني رشيد بخيت إن أغاني البنات ترى العالم بعيون فئة النساء وآمالهن ومشاكلهن البسيطة. تحكي المغنيات عن روحهن المسلوبة ومن يفضلنه للزواج ورؤيتهن للعالم، وعن قيم تبدأ في وقتها كخروج على السائد، لكنها وثيقة اجتماعيَّة.
وبدأت أغنية البنات في السودان كطقوس لتعليم العروس الرقص، مصحوبة بإيقاع “الدلوكة”، ضمن حلقة تقتصر على النساء. ثم تطورت هذه الأغنية واتسع مجال المواضيع التي تتناولها.
ورغم النقاشات الساخنة في المنابر الإعلامية العامة بين من يُدين أغاني البنات ويتهمها بتفكيك النسيج الاجتماعي وبين من ينظر إليها على أساس أنها نتاج فني اجتماعي، فإن غناء البنات ينتشر بسرعة هائلة، إذ في أغلب وسائل المواصلات العامة في الخرطوم يمكن الاستماع لنماذج مختلفة من هذا النمط الغنائي.
ويرى مختصون أن هناك تحولا كبيرا شهدته أغاني البنات في السودان، فبعدما كان هذا النمط من الغناء محصورا في بيوت الأعراس بأغانٍ راقصة للعروس، تحوّل إلى غناء بأنماط مختلفة له جمهوره ومحبّوه.
ويرى رئيس اتحاد فن الغناء الشعبي في السودان، محمود علي الحاج، أن “عودة نمط الغناء هذا تكشف الكثير من التحوّلات التي شهدها المجتمع السوداني عبر عقود من الزمان”، لافتا إلى أن “اتجاه الفنانات للغناء بالآلات الشعبية يمثل انتصارا للغناء الشعبي، الذي كان أول نوع من الغناء في السودان، وذلك قبل نحو قرن من الزمان، الأمر الذي يمثل عمق الفن الشعبي وتأثيره على المجتمع.
السودان "يرفع الحظر"عن أغاني البنات !!
07.05.2016