أحدث الأخبار
الجمعة 22 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
1 2 3 41134
"الكمبلا" ملحمة الحصاد والشجاعة في السودان!!
11.01.2016

يتميز السودان بتعدد الثقافات وتنوعها بفعل الاختلاط بين القبائل العربية والأفريقية منذ قديم الزمان، فنشأت حضارة ذات خصوصية. ويمثل الرقص أحد أبرز العادات والتقاليد المتوارثة في السودان والتي تختلف من قبيلة إلى أخرى حسب البيئة التي تؤثر في كيفية الرقص الذي تتعدد مناسباته، فنجد أن الحصاد يعتبر أشهر تلك المناسبات التي تقام فيها احتفالات الرقص الجماعي الذي يشترك فيه أفراد القبيلة من الجنسين.
الخرطوم - مع تنوع السودان واتساع أراضيه المترامية الأطراف، تتنوع العادات والتقاليد والبيئة وفقا للحياة الاجتماعية المختلفة في بلاد تحكمها عادات وتراث شعبي زاخر ظلت تتوارثه الأجيال عبر السنين لتشكل لوحة جمالية تعبر عن واقع السودانيين بمختلف طبقاتهم، ودفعت التركيبة القبلية والإثنية في السودان إلى بناء كنوز من التراث الشعبي الزاخر ساعدته طبيعة البلد المتنوعة في أن يقدم صورا للجمال والروعة.
وتعتبر رقصة (الكمبلا) المنتشرة في إقليم جبال النوبة جنوبي أواسط البلاد من أهم الرقصات الشعبية الأولى بين المئات من الرقصات الأخرى المنتشرة في المناطق التي تقطنها قبائل كثيرة تعيش حياة بسيطة على القليل من الزراعة ورعي المواشي والأغنام.
ومع أن منطقة جبال النوبة تتميز بالرقصات الشعبية والعادات المختلفة مثلها مثل غيرها من بقية أنحاء البلاد، غير أنها تبدو وكأنها تقدم نموذجا حيا لسودان مصغر، إذ تختلف طريقة أداء الرقصات والعادات فيها من منطقة إلى أخرى ومن قبيلة وعشيرة إلى أخرى.
ورقصة الكمبلا هي من أوائل الرقصات الشعبية في وسط السودان وعرفها إنسان النوبة منذ زمن قديم، هذا الرصيد التاريخي الكبير للكمبلا ساعدها على الذيوع والانتشار داخليا وخارجيا إذ تشتهر نحو خمسين قبيلة بجبال النوبة برقصة الكمبلا التي اختلفت الروايات التاريخية حول نشأتها.
وتسمى رقصة الكمبلا شعبيا في جبال النوبة “بسبر أدرت” باللغة النوبية و”الحصاد” بالعربية وذلك لأنها رقصة تؤدى في أيام حصاد الزراعة احتفاء باستقبال الموسم الجديد.
ومع أن الكمبلا مرتبطة لدى بعض قبائل النوبة بمناسبات اجتماعية، إلا أنها لدى قبائل أخرى مرتبطة بطقوس دينية، إذ تعتقد أن هناك سوطاً يخرج ما بين مطلع سبتمبر وحتى منتصفه، ليصدر صوتا خلال امتداده على جبل “صبوري” حيث يسكن “الكجور” الذي يعتقد أنه يسكن في كوخ في مكان ما من الجبل، ويعتقد العديد من قبائل النوبة أن الكجور أب روحي لهم، وبأن لديه سوطا يظل معلقا طوال العام، ومتى ما استشعروا سماع صوته خلال النصف الأول من سبتمبر، كان ذلك إعلانا بإطلاق رقصة الكمبلا.
وتتكون أدوات الكمبلا من قرون البقر أو الجاموس بعد أن تربط هذه القرون في أعلى الرأس بواسطة شريط (قماش) يتم ربطه محكما بواسطة عمامة حتى تثبت القرون جيدا على الرأس في وضع أشبه بقرني الثور مع رحط من سعف يربط حول الخصر ليمتد إلى تحت الركبة أسفل الرجلين.
وتربط على الأرجل كمية من الحديد وهو ما يعرف “بالكشكوش” لإحداث الإيقاعات المطلوبة من الرقصة حتى تكتمل دورة إبداعها بجانب جرس يحمل في اليد اليمنى لضبط الايقاع وذيل لحيوان يحمل باليد اليسرى يسمى “سبيب” ويستخدم لتهوية الوجه أثناء الرقص، كما تستخدم ذيول صغيرة أخرى تربط بإحكام على عضلات اليدين وجلود على شكل سيور من الخصر إلى الأسفل.
وتبدأ رقصة الكمبلا عندما تصطف النساء في شكل نصف دائري يغنين ويرقصن أولا لوحدهن، وفي خضم ذلك المشهد الراقص يدخل إلى حلبة الرقص رجال بزي الكمبلا المميز يصطفون مباشرة أمام النساء يقودهم شاب قوي البنية يبدو كالثور الهائج فهو القائد وميزته عن الآخرين أنه يعرف أصول اللعبة جيدا، إضافة إلى قوته الجسمانية.
ويقدم هذا الشاب القائد كل إمكانياته عن طريق الرقص والسير في خط متعرج ومن خلفه الراقصون يتبعونه، حيث يحدث الجميع صوتا أشبه بخوار الثور لأن الرقصة مستوحاة من عالم الأبقار والجواميس.
والرقص عند قبائل منطقة النوبة جنوبي أواسط السودان من الممارسات الشعبية، ويرتبط ارتباطا وثيقا بالغناء ويقترن بالفروسية والشهامة والأخلاق وغيرها من الخصال التي تتميز بها قبائل المنطقة.
والجديد في الكمبلا أنها بدأت تصاحبها أخيرا خطوات أشبه بالعسكرية وإيقاعات ترتفع وتسرع ثم تعود للانخفاض تخالطها زغاريد النساء بهدف الحماس.
ويرتبط الرقص عند النوبة بما يعرف في لغتهم ” باليسار” وهو احتفال يمارس بدافع عقائدي وديني إذ أن لكل رقصة مواعيدها ومناسباتها ولذلك فإن للكمبلا موسما خاصا بها.
ورقصة الكمبلا تبدأ في شهر سبتمبر من كل عام وهو الشهر الذي يسميه أفراد النوبة زمن “الجلد” وهو مقياس الشجاعة لتحمل الصبيان المشاق، حيث تقام حلقات للمبارزة بالسياط ويختتم الموسم برقصة الكمبلا حيث يحضر موسم الجلد والكمبلا معا كل الصبيان في الإقليم والمناطق المجاورة.
وتعد ساحة كبيرة بعيدا عن الأحياء السكينة يجتمعون فيها عصرا يرتدون زي الكمبلا مصطحبين إخوانهم وأخواتهم وأقاربهم ويرقصون، ثم يحضر الجلاد يحمل سوطا من السعف ويبدأ بجلد الصبيان على ظهورهم حتى تسيل منهم الدماء.
ويتم كل ذلك وسط الرقص والزغاريد الحماسية والأغنيات التي تدعو للثبات وعدم الخوف، وعقب انتهاء الجلد تقوم الفتيات بغسل الدماء من ظهور الصبيان ويقتادون إلى مكان تقدم فيه الأطعمة المصنوعة من السمن والعسل واللبن، ثم يدخلون معسكرا يستمر أسابيع أو شهرا ولا يسمح خلال هذه الفترة لأي منهم بالذهاب الى أهله أو أي مكان آخر دون اصطحاب رجل كبير.
وبعد انقضاء المعسكر يتلقى الصبيان الهدايا من الأهل والأقارب تمهيدا لإقامة الاحتفال النهائي الذي يعقبه خروج جماعي للشباب من المعسكر وهم يرقصون وسط الزغاريد والأغاني رقصة الكمبلا حتى الساعات الأولى من الصباح حيث يعلن انتهاء “سير الكمبلا” وموسم الحصاد.

1