المتابع لما تنشره وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي يلاحظ أن جل الإتهام بالفساد ينصب على رجال السلطة الحاكمين في العراق الآن بأعتبارهم أس الفساد ورأسه، لم يصدر هذا الإتهام ممن هم معارضين للسلطة، ومن هم خارجها، ولم يقتصر عليهم وإنما شمل العديد من رموز السلطة، أو العملية السياسية، لقد طفق البعض يتهم البعض الآخر بالفساد، والغريب أن أكثر المتهمين بالفساد هم أعلاهم صوتاً في إدانة الفساد، فهل هذه عمليه تمويه وخلط أوراق، أم علامة تشير إلى وصول قطار العملية السياسية إلى محطته الأخيرة، حيث ينبغي على جميع الركاب النزول وترك القطار الذي لم تعد أمامه محطة أخرى؟
إن قضية الفساد في العراق قضية لا ضفاف لها، لقد أريد لها أن تكون كذلك، بحيث يتعذر الإصلاح من داخلها، لا يمكن إستثناء أحد من المسؤولين من تهمة الفساد، من أعلى الهرم إلى أسفله، وفي أي درجة من درجات سلّم المسؤولية، والوظيف العمومي، وصل الفساد إلى منتهاه بحيث لم يعد الفساد صفة مقترنة بالمسؤول حصراً، وإنما شمل كل العاملين في الحقل السياسي، من هم في السلطة ومن هم خارجها، الموالون لها والمعارضون، العاملون في الحقل السياسي والعاملون في الحقل الاجتماعي، وما يُسمى بمنظمات المجتمع المدني، التي تكاثرت وتناسلت في ظل الوضع الحالي بشكل مُلفت للنظر، ولا تبرير له، ووسائل الإعلام التي أحتكرت من رجال الأعمال اتلذين لا يعرف أحداً كيف جمعوا أموالهم ، لقد تجاوز إتهام الفساد دوائر السلطة والأحزاب القائمة، ليشمل مناحي الحياة كلها، والعاملين في الحقل الديني، حيث باتت العمامة سوداء أم بيضاء، أم على أي نسق وضعت، مثار الإتهام بالفساد والمتاجرة بالدين، وإستغفال البسطاء من الناس، والإمعان في تجهيلهم وإشغالهم بما يمنعهم من النظر في حالهم ومآلهم.
لاشك أن أنظمة الإستبداد السابقة قد وضعت اللبنات الأولى للفساد، وسنتناول هذا في مقال خاص، لكن المديات التي وصل إليها الفساد ما بعد الإحتلال فاقت كل تصور.
يستغرب البعض من فساد الطبقة السياسية ما بعد الإحتلال، لكنه لو تساءل من الأكثر فساداً الفساد الإدراي، والرشوة، ونهب المال العام، أم خيانة الوطن، ومساعدة محتليه على إحتلاله؟
الإجابة على مثل هذا السؤال توضح أن من يستسهل إقتراف الكبائر يسهل عليه إقتراف الصغائر، وخيانة الأوطان والتواطؤ مع الأعداء أكبر الكبائر، ونقطة أول السطر.
في زمن الحصار، عندما وزعت المخابرات المركزية الدعوات على العراقيين في الخارج، تطلب منهم الإنضمام إلى نشاطاتها وبأجور ما كان يحلم بها أحد، مع التدريب في براغ وغيرها، لم يسأل البعض نفسه على ماذا تدربنا المخابرات المركزية الأمريكية؟ لو سأل نفسه، لتوصل إلى الإجابة بالتأكيد، لكن المغريات كانت كبيرة، لذا تلفع البعض بمررات هزيلة .
قلت لأحد الماركسيين اللينيين، وكان لي تأريخ طويل معه، كيف تستسيغ العمل بإمرة الأمريكان؟ وما الذي يجبرك على هذا، وأنت تعيش في بحبوحة؟
أجابني: مصلحة الشعب، والخلاص من الديكتاتورية تدفعني لهذا.
- وهل الأمريكان يعملون لمصلحة الشعب العراقي، وهل هم أعداء الديكتاتورية؟!
- سنجعلهم يخدمون قضية الشعب في الخلاص من الديكتاتورية .
- وتجعل نفسك في خدمة الأمريكان الذين سيوظفونك لخدمة مصالحهم ؟
-أنا من سيوظف الأمريكان، لا هم من سيوظفني ؟
- لكنك تتقاضى أجركم منهم !
- سأستثمرهم، وأوجههم الوجه التي أريد؟
-أنت لا تستطيع التأثير على أطفالك، ولا كلمة لك على زوجتك، فكيف تؤثر على أقوى دولة في العالم؟
بهذا المنطق كان البعض يبرر الخيانة، التي تصل لحد العمالة، فإن يجندك العدو، ويمنحك راتباً، ويأخذك دليلاً في إجتياح بلدك فهذا هو الشيء الذي يفوق أي فساد مهما علت درجته.
أمثال هؤلاء الذين إقترفوا الكبيرة وضعوا في مفاصل الدولة كلها، وحيث أن أمريكا تعرف بأنها إشترت ولاءهم بحفنة من الدولارات، فإنها متيقنة من أنها ستشري خضوعهم الكامل بالملايين التي وضعتها تحت تصرفهم بلا حسيب ولا رقيب، وكأنها تدعوهم للفساد والنهب، كي تتحكم برقابهم تماماً.
كانت عمليات النهب التي أعقبت الاحتلال عمليات منظمة من قبل المحتل، لأنها تريد أن يشعر أتباعها بأن هذا الذي دخلوه مع المحتل ليس وطناً، وإنما غنيمة، وقد تعاملوا معه حتى اللحظة على أنه غنيمة، يتقاسمونها فيما بينهم، حزبياً وعنصرياً وطائفياً.
لا أدري أي عقل هذا الذي يرى في فتح البلاد أمام جحافل الأمريكان، والموساد والبلاك ووتر، وكل من تربص بالبلد، تحريراً!
لقد سُلمت مقدرات البلد لمن تواطأ مع المحتل، من جاء معه، ومن إلتحق به، وأغلب الملتحقين به من الهامشيين الذين لا دور سياسي لهم، ومن أزلام العهد السابق وقياداته الوسطى وما دون، وكل هؤلاء مستعدين لكل أنواع الفساد، وإستبعد ما عداهم ، وشرع وقنون كل ما يجعل البلد ضعيفاً ومفككاً، ولا قدرة له حتى على دولة كجيبوتي، وكل ما يجعل الفساد ممارسة سائدة لا ممارسة غيرها ، فأنت ملزم أن تكون فاسداً، حتى وأنت تخرج وثيقة تثبت أنك مواطن في هذا البلد الذي لم يعد له لون ولا طعم ولا رائحة.
يتبع-
العراق :الفساد الذي لا ضفاف له !!
بقلم : د.صباح علي الشاهر ... 13.02.2016