غزة (فلسطين) - يعمل منقبون عن الآثار باستخدام أدوات بسيطة على إزالة الأتربة والعوالق عن عدد من القبور تم العثور عليها مؤخرا في غزة، وتعود إلى نحو ألفي عام.
وقادت الصدفة بنائين إلى اكتشاف القبور مطلع عام 2022 أثناء بدء تشييد مدينة سكنية في شمال القطاع، ولم يكن الاكتشاف سوى بداية لمفاجآت عديدة، حيث تم العثور على أكثر من مئة قبر على مراحل، ولا تزال عمليات التنقيب جارية.
وتصف وزارة السياحة والآثار الفلسطينية ومختصون في مجال الآثار وترميمها، العثور على المقابر الرومانية بأنها أهم كشف أثري في غزة على مدى الأعوام العشرة الماضية.
ويقول رئيس فريق التنقيب فضل العطل إنها المرة الأولى التي يتم فيها العثور على قبور رومانية بهذا الشكل في قطاع غزة وهي تعود إلى القرن الأول الميلادي.
ويوضح فضل أنه تم الوصول إلى 63 قبرا خلال مراحل التنقيب في ديسمبر 2022 في أكبر حصيلة منذ بدء أعمالهم، وهم يتوقعون تضاعف أعداد القبور والمساحة الأثرية المكتشفة أكثر فأكثر.
القبور المكتشفة بعضها بُني على شكل مستطيل والآخر على شكل مربع، فيما شيد عدد منها بشكل هرمي مميز
ويشير إلى أنهم يحرصون على مواصلة أعمال التنقيب بحذر وعناية فائقة بغرض الحفاظ على طبيعة المعالم الأثرية الموجودة، لاسيما شكل المقابر والزخارف الأنيقة، لافتا إلى أن اختلاف الأحجام والأشكال للقبور يقدم مؤشرات حول الحالة الاجتماعية للشخصية الرومانية المدفونة.
ويلاحظ الزائر لمكان أعمال التنقيب أن القبور المكتشفة تأخذ أشكالا مختلفة بعضها بُني على شكل مستطيل والآخر على شكل مربع، فيما شيد عدد من القبور بشكل هرمِي مميز وبارتفاع نسبي عن سطح الأرض. وتضم القبور المكتشفة قطعا أثرية وجرارا فخارية وبعض الأواني الزجاجية المستخدمة خلال الطقوس الجنائزية في العهد الروماني.
ويقول مدير الآثار في وزارة السياحة والآثار في غزة جمال أبوريدة إنه تم العثور على القبور الأثرية أثناء إنشاء مدينة “مصر 2” السكنية ضمن مشروع إعادة إعمار غزة.
ويوضح أبوريدة أن الكشف الأثري عبارة عن مقبرة رومانية على مساحة تمتد لأكثر من ألفي متر مربع، وهو يدل على استقرار أهالي فلسطين وتواصل الحضارات الإنسانية طوال مئات السنوات.
ويشير إلى أن أعمال التنقيب المستمرة تسعى لمعرفة عدد الأشخاص في القبور وأسباب الوفاة، على أن تستمر هذه الأعمال لنحو خمسة أشهر مقبلة بتمويل من صندوق حماية التراث في المجلس الثقافي البريطاني وبالشراكة مع الإغاثة الأولية الدولية والمدرسة الفرنسية للآثار في القدس.
ويضيف أبوريدة أن المقبرة الرومانية “تزودنا بمعلومات وتفاصيل تاريخية عن الممارسات الجنائزية، ومعلومات تدعم التاريخ القديم والأنثروبولوجي في غزة، والتعرف على أنماط الحياة والعلاقات التاريخية والاقتصادية في غزة خلال الفترة الرومانية القديمة، وعلاقتها بمحيطها الإقليمي القديم”.
وتعمل الطواقم الفنية المدعومة بخبراء أجانب ضمن خطة لإبراز المعالم والمضامين التاريخية والأثرية للموقع بحسب مسؤولين، فيما تم إغلاق الموقع أمام الجمهور حيث يجري ترتيبه وتأمينه لاستقبال الزوار مستقبلا.
وكشف التنقيب الأولي عن وجود قبر مقصور بطبقة من الملاط الأبيض المعروف باسم (الفريسكو) المزين بأكاليل من أوراق السنديان المعروفة بأنها من أرفع الأوسمة التي كانت تمنح للمميزين من أفراد المجتمع الروماني.
ومن اللافت أن أحد أشكال القبور المكتشفة التي بنيت بشكل مستطيل، وفوق جهة الرأس، يوجد مجسم هرمي، تثبت فوقه جرة فخارية. ويقول خبراء الآثار إن قدماء غزة كانوا يملأون الجرة الفخارية نبيذا، بطريقة تجعل قطرات النبيذ تسيل من الجرة عبر الشكل الهرمي وصولا إلى رأس الميت.
ويشار إلى أنه في أكتوبر 2021 اكتشف علماء آثار منطقة صناعية ضخمة تعود إلى العصر البيزنطي الذي تلا العصر الروماني تضم أكبر مصنع نبيذ في العالم في ذلك الوق، في منطقة “يفنة”.
وفي حينه تم اكتشاف أربعة مستودعات كبيرة والتي شكلت معمل النبيذ للمصنع، حيث كان يتم تعتيق النبيذ في أوعية طويلة تعرف باسم “جرار غزة”، فيما يوضح علماء الآثار أن “نبيذ غزة كان يعتبر ماركة نبيذ عالية الجودة في العصور القديمة”. ومنذ سنوات دأبت منظمات وهيئات دولية على إطلاق مشاريع مساعدة في التنقيب عن الاكتشافات الأثرية في قطاع غزة والحفاظ عليها.
وشهد القطاع الساحلي الذي يقطنه أكثر من مليوني نسمة عدة اكتشافات أثرية مهمة خلال السنوات الأخيرة. لكن الأهم بالنسبة إلى المختصين تمثل في توفير دعم دولي لتنفيذ 10 مشاريع تنقيب وصيانة وحفاظ مستدام للمواقع الأثرية وإعادة إحيائها خلال عام 2022.
وأبرز تلك المشاريع افتتاح الكنيسية البيزنطية شمال غزة بعد إتمام صيانتها وترميمها وجعلها كمزار سياحي، والانتهاء من تطوير موقع دير القديس “هيلاريون” لإدراجه ضمن المواقع على قائمة التراث العالمي بعد إنشاء سور حماية على مساحة 14 دونم، وعمل ممرات آمنة لمشاهد المعلم الأثري.
وتم الاحتفاء في مجال الحفاظ على المقتنيات الأثرية بإنجاز طواقم فنية توثيق 42500 قطعة أثرية في السجل الوطني الفلسطيني بهدف الحفاظ عليها وإعداد بطاقات الكترونية خاصة بها.
وفي يونيو الماضي أطلقت لجنة متابعة العمل الحكومي في غزة “دليلا أثريا” خاصا بالقطاع يهدف إلى “النهوض وتعزيز استثمار الوعي المجتمعي بأهمية وعظمة وسمو الحضارة الفلسطينية”.
ويحتوي الدليل الذي يحمل اسم “غزة هاشم بوابة الشام” على “الشواهد التاريخية للحياة العامة في القطاع من أسواق وخانات وأسبلة وحمامات عامة، وأسبطة ومقامات ومقابر أثرية”.
ويعرف عن غزة التي كانت موقعا تجاريا مهما للعديد من الحضارات منذ العصور القديمة بأنها غنية بالآثار.
سكان غزة القدامى يسقون موتاهم نبيذا!!
بقلم : الديار ... 15.01.2023