"لم يكن تحريراً، بل كان أشبه بحرب إبادة لم تبق ولم تذر. قتل عدد غير معلوم من المدنيين. الرقة دُمّرت على رؤوس ساكنيها". بهذه الكلمات يصف الشاب الجامعي كريم المحمود ما جرى في الرقة في 2017، إبان الحملة الكبرى التي شنها التحالف الدولي للسيطرة على هذه المدينة، التي كانت بمثابة عاصمة لتنظيم "داعش" في سورية.
وأعاد تقرير، صدر قبل أيام، حول ما جرى قبل خمس سنوات الرقة إلى الواجهة الإعلامية، حيث أشار إلى أنه كان بإمكان الجيش الأميركي فعل المزيد للحد من الأضرار التي لحقت بالمدنيين خلال المعركة، التي استمرت شهوراً، وانتهت بطرد التنظيم من الرقة.
ويبيّن التقرير، الذي أعدّته مؤسسة "راند" البحثية، أن المعركة، التي استمرت عملياً خمسة أشهر، أدت إلى جعل 60 إلى 80 في المائة من المدينة غير صالحة للسكن. وأوضح أن الضربات "المُستهدَفة" والقصف المدفعي لقوات التحالف على الرقة تسببا، بين 6 و30 أكتوبر/تشرين الأول 2017، بمقتل ما بين 744 إلى 1600 مدني، حسب إحصائيات التحالف ومنظمة العفو الدولية وموقع "إيروورز" (Airwars) المتخصص.
ووفقاً لأرقام الأمم المتحدة، التي استشهدت بها "راند"، فقد تم تدمير أو إلحاق الضرر بنحو 11 ألف مبنى، بين فبراير/شباط وأكتوبر 2017، بما في ذلك 8 مستشفيات، و29 مسجداً، وأكثر من 40 مدرسة، و5 جامعات، بالإضافة إلى نظام الري في المدينة.
كما تحدث التقرير عن الدمار الكبير في المدينة التي كان تنظيم "داعش" سيطر عليها مطلع العام 2014، مشيراً الى أن الجيش الأميركي نفذ 95 في المائة من الضربات الجوية، وشن ما نسبته 100 في المائة من نيران المدفعية خلال معركة الرقة.
*العام الأسود في الرقة
"هذه الأرقام التي تحدث عنها التقرير أقل بكثير مما حدث في الرقة في ذاك العام الأسود"، يقول المحمود، الذي لم يترك مدينته رغم التحولات التي مرت بها، بدءاً من 2011 حين بدأت الثورة ضد النظام السوري، وكانت الرقة أولى المحافظات التي خرجت عن سيطرته.
ويضيف المحمود، في حديث مع "العربي الجديد": نعم كان بالإمكان التقليل من الخسائر التي لحقت بالرقة، ولكن إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب اختارت معاقبة المدينة لا تحريرها. لم يتركوا لنا ممرات إنسانية على الإطلاق للخروج. قتل الكثير من الأبرياء تحت وابل نيران تأتي من كل اتجاه.
وكانت "قوات سورية الديمقراطية" (قسد) أعلنت أوائل العام 2017 إطلاق حملة لطرد تنظيم "داعش" من محافظة الرقة. وبدأت بالهجوم من ريفيها الغربي والشمالي، حتى سيطرت على مدينة الطبقة ثاني أكبر مدن المحافظة في مايو/أيار من نفس العام.
وبدءاً من منتصف 2017 ضيّقت هذه القوات الخناق على التنظيم داخل مدينة الرقة، مركز المحافظة، من خلال قصف جوي من طيران التحالف الدولي، بقيادة أميركا،، ومدفعي من "قسد"، التي تشكل "الوحدات" الكردية ثقلها الرئيسي، وتعد الذراع البري للتحالف. وفي أكتوبر من نفس العام أعلن التحالف عن اتفاق لإجلاء عناصر تنظيم "داعش" من مدينة الرقة، التي انتقلت السيطرة عليها إلى "قوات سورية الديمقراطية".
ولكن عدة أشهر من الحملة العسكرية كانت كفيلة بتدمير الرقة، التي يتغنى أهلها بأنها كانت ذات يوم "مصيف الخليفة العباسي هارون الرشيد".
*دمروا وقتلوا بدم بارد
"دمّروا وقتلوا بدم بارد"، يقول إسماعيل الحمدان، الذي دُمّر منزله في "حارة البدو". ويضيف، في حديث مع "العربي الجديد": والآن يأتون بدم بارد أيضاً ليقولوا أخطأنا، وكان بإمكاننا طرد التنظيم بخسائر أقل. من يعوّضنا الآن؟ هل الإدارة الأميركية يمكن أن تساعد في إعادة الإعمار على الأقل. لا أعتقد.
ويقول الناشط الإعلامي حمزة الأحمد، الذي واكب الحملة العسكرية عن قرب حيث لم يغادر منزله في حي المشلب شرقي مدينة الرقة طيلة الحملة، إن طيران التحالف في عهد الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما "كان ينفذ عمليات دقيقة، تستهدف قياديين أو عناصر من التنظيم وتطاول أحياناً مدنيين، ولكن بعدد محدود".
ويضيف، لـ"العربي الجديد": لكن تغير كل شيء مع قدوم ترامب. كل أنواع الطائرات استخدمت في قصف الرقة. كنا نشهد كل ليلة حفلة قصف مدمّر، فبدأت حركة نزوح غير مسبوقة، بحيث باتت الرقة أواخر 2017 شبه خالية من السكان.
ويشير إلى أن "سيارات تنقل عناصر من التنظيم كانت تنتقل عبر جسر الرقة الجديد على نهر الفرات لم يكن يستهدفها طيران التحالف الدولي"، مضيفاً: كانوا يريدون تدمير الرقة في استعراض للقوة كي يدفعوا التنظيم للخروج. لم يأبهوا بحياة المدنيين العزّل من كل شيء.
ويبين الأحمد أن التنظيم "انحصر بدءاً من سبتمبر/أيلول 2017 في حي حارة البدو، الذي دُمر بشكل كامل"، مشيراً إلى أن "النيران ظلت مشتعلة في مدينة الرقة بعد خروج التنظيم بنحو شهرين".
*مجازر في الرقة وريفها
ويشير إلى أن طيران التحالف الدولي ارتكب مجازر في الرقة وريفها، مثل مجزرة المشيرفة وشنينة، والمنصورة، والملعب البلدي. ويوضح أن هناك أحياء داخل مدينة الرقة "دُمّرت رغم عدم وجود لعناصر التنظيم فيها"، مضيفاً: تم تدمير المنطقة الممتدة من شارع المنصور وحتى ميدان الساعة من أجل القضاء على عدد محدود من العناصر الذين كانوا يتنقلون فيها. دُمّرت بنايات بالكامل للقضاء على قناصين كانوا على أسطحها.
ويضيف: كل أحياء الرقة دمرت بشكل كامل أو جزئي، باستثناء قسم من حي المشلب على الطرف الشرقي، لأن عناصر التنظيم خرجوا منه منذ البداية ولجأ إليه مدنيون.
ويشير إلى أن الأحياء المدمرة بشكل كامل هي البدو، وشوارع الوادي، والمنصور، وتل أبيض، وحي الحرامية. بينما الأحياء المدمرة بشكل جزئي هي المشلب، ورميلة، والثكنة، والفردوس، والأماسي، وسيف الدولة، ونزلة شحاذة (طريق حلب).
*غارات يومية للتحالف على الرقة
ويؤكد وائل مطر، وهو مدرس شهد غارات التحالف على الرقة، أن التحالف الدولي "استخدم كل أنواع السلاح، بما فيه الفوسفور الأبيض"، مضيفاً أن "الطائرات الأميركية كانت تُفرغ حمولتها على الأبنية بشكل يومي فتزيلها بشكل كامل. بتنا نفرّق بين طائرة بي 52 أو إف 16، من كثرة الطائرات التي كانت تملأ سماء المنطقة على مدى أشهر".
ويبيّن، في حديث مع "العربي الجديد"، أن "الجثث ظلت تحت الأنقاض طيلة العام 2018"، مشيراً إلى "العثور على جثث في منطقة السور الأثري للمدينة، وفي أحياء البدو والدرعية والفردوس والرميلة".
ويضيف مطر: كنا نرى جثثاً مقطعة. للأسف كانت الكلاب تنهش هذه الجثث. ويشير إلى أن التنظيم "جمع عدداً كبيراً من المعتقلين والمسجونين لديه في الملعب البلدي وسط المدينة لاتخاذهم دروعاً بشرية، لكن طيران التحالف الدولي قصف الملعب وقتل الجميع".
وعن حال مدينة الرقة وريفها اليوم، يشير مطر إلى أن الريف "لم يتضرر كثيراً ولم يشهد حركات نزوح كثيفة"، مضيفاً: أما المدينة فالحياة بدأت تدب بها من جديد بدءا من العام 2018.
وقدر عدد سكان مدينة الرقة اليوم بنحو 500 ألف شخص، لافتاً إلى أن محاولات الإعمار بجهود فردية "توقفت خلال العامين الأخيرين بسبب ارتفاع أسعار الحديد والإسمنت". ويعتبر أنه كان يمكن تفادي هذا الدمار، لكن الأميركيين اختاروا السيناريو الأسوأ، لان الرقة لا تعني شيئاً لهم.
*العربي الجديد
الرقة السورية... عندما أجهز التحالف على مدينة الرشيد!!
بقلم : أمين العاصي ... 05.04.2022