ولا يكف الشاعر عن مثل هذه الأمثلة في نصوص أخرى؛ شبحُ بدون جسد، وحلم متبعثرٌ في الضياء.. ويعيد التأكيد على اغترابه في الوطن:
أنا وطني. ولكن
حتى في وطني. مهاجر (29)
ويكرر في قصيدة (هذا الضَجَر):
هذا الوطن
وأنا المهاجر والمُهجَّر والمغامرُ والشهيد(53)
وهذه الأنا الجماعية، المشردة عَن وطنها، والمهاجرة داخله، الأنا الثائرة، والضحية التي تهجس بالغياب والتلاشي كما في هذا النص من ذات القصيدة:
فلا أرى
إلا غيابًا ماثلًا
يقتصُّ لي منّي ويملأُني سدى(52)
لا شيء غير هاجس الغياب والتَّلاشي الذي سيحوله إلى سدًى، وكأنه لم يكن، ولا سبيل أمام هذه الأنا الجمعية، ألا تحيا تناقضاتها واضطرابها على هذا النحو:
وأنا: أنا مثلي
وحيدٌ، مُفرغٌ، نزِقٌ، مزاجيٌّ، عنيدٌ
مستَبِدٌ مستبَدٌ
لا أكلُّ ولا أملُّ(53)
وحالة أنا الشاعر تشبه حالة الأنا الجماعية: الوحدة والاغتراب والفراغ والنزق والعناد ولكنها حالة مقاومة ترفض الاستسلام وتأبى الترويض. ثم يعيدنا الشاعر إلى أناه الضيقة التي تعود لإحساسها بالضجر والعبث:
هذا(أنا)
وحدي لوحدي
أقتني عبثًا يُكررّني، ويسجُرني
ويُرضعُني الملالة بالنشيد(54)
وهكذا تستدير الأنا على ذاتها من جديد ولا شيء غير الوحدة والفراغ والعبث والضجر لكنها لا تستسلم اذ ثمة ماءٍ آخر تستسقي منه وجودها واستعادة امتلائها ونهوضها.
****
ثانيًا: تراجيديا الأنا/الأنا الجمعية وجدلية الحياة والموت:
في هذه النصوص ستبدو أنا الشاعر متماثلةً تمامًا مع الأنا الجمعية ومأساتها، بعبارة أخرى تذوب الأنا الفردية في القضايا العامَّة وتعبر عنها بصيغة الأنا الفردية لكنها لا تختزلها في الأنا الضيقة وإنَّما ستبرز الأنا العامة على حساب الخاص، والموضوع على حساب الذات، وسيسحتضر الشاعر ثلاثة صور مأساوية من الأسطورة والتاريخ لمقاربتها مع مأساة شعبه الأولى: مصرع الإله أدونيس (ذكرناها سابقًا)، والثانية: مأساة صلب المسيح، والثالثة: مأساة مصرع الحسين بن علي. وفي هذه المشاهد وإن بدت مأساوية، إلَّا أنَّ استحضارها على هذا النَّحو ينطوي على البطولة وروح المقاومة والانبعاث من جديد.
في قصيدة(أنا) يقول الشاعر مستوحيًا حادثة صلب المسيح:
أنا ذاك النبيُّ
قد استراح على الطريق
ليُصلح الأخشاب من تلفٍ
أصاب بدربهِ
متنَ الصليب (27)
ينطوي هذا النص على دلالة درامية، فالنَّبي حامل صليبه فوق كتفه. وهو ذات الصليب الذي سيصلب عليه وهو يسير في طريق الآلام(درب الجلجلة)، لكن النبي يستريح لإصلاح التلف الذي أصاب الصليب. لماذا؟ لأنَّهُ أولًا يدرك أهمية ذاته بوصفه أضحية في سبيل قضية مقدسة. ولأنه ثانيًا يعي أنَّ موته يعني انبعاثه من جديد. وهنا يتحول الصليب إلى رمز ودلالة ووسيلة للحياة. فالموت في سبيل القضية هو الحياة والخلود. فصليبه، أي تضحيته واستشهاده في سبيل القضية يعني انتصار القضية.
ويتابع في قصيدة ضَغْث:
أرى دودًا
تغذّى في يديَّ عليَّ
بعد أن ملَّ المرارة في الصليب(39)
تستحيل الصورة إلى تراجيديا ولا تنطوي على أيَّةِ بطولات أو انبعاث فإمَّا أن يكون المصلوب قد طال بقاؤه فوق الصليب ولم يبعث بعد. إذا طال النضال وازدادت التضحيات، وتحولت البطولة إلى مشهد عدمي. وإمَّا أنْ يكون البقاء على قيد الحياة ينطوي على التخاذل والجبن والتردد، الأمر الذي يعني موتًا أثناء الحياة.. والديدان تنهش من الجسد الذي لا يزال حيًّا ولكنه ميتٌا في ذات الوقت. لكن رحلة العذاب لا تنتهي إذ يواصل في ذات القصيدة:
أرى مسامير السنين تُدَقُ في جسدي
يلُفّها لحمُ يُقَدُ من الأنين (39)
إنَّ رحلة النضال الفلسطيني الطويلة تحولت إلى عذاب يومي ومع كل يوم تزداد شراستها ويتابع هذا المشهد في قصيدة(أرصفة):
وأرى كلَّ مسامير الصلبِ تُدقُ بذاكرتي
تُدمي صورةَ أنثى القلب
تؤلمني صرختُها
وصداها يهدم صرحًا
كدت أشيّدُه في الوعي
فماتت قبل تماسِ الغيمِ الأنثى
وانطفأ بوعيي الظمآن بريقُ الأحداق(48)
بيد أن الشاعر في استحضاره لمأساة الصلب (الاستشهاد) وتحمل العذاب، لا يكتفي بمشهد الصليب (العذاب)، بل يبحث عن صورة أخرى تنطوي على المقاومة حتى وإن انتهت بنهاية تراجيدية، فيجد ضالته بالحسين بن علي. يقول الشاعر في قصيدة (أنا):
أنا نور تقمص من أطلّ
على السواد الكربلائي النجيع(27)
النور، الحرية، الثورة والحياة...اللاتي تولد من رحم الظلمة والاستبداد والمأساة والموت، فقيمة الاستشهاد والتضحية تُمَثِّلُ ردًّا على الظلم والانتهاك ،ووجهًا من وجوه العدالة المسلوبة وبطولة إنسانية حتى في حالة هزيمتها، فنجد الشاعر يتفاخر بهذه القيمة:
أنا رأسٌ على رمح الرذيلةِ،
دون أن يدروا
أحالوه سراجًا
تهتدي بضيائه كلُّ الطيور(28)
تستحيل العدالة المهزومة إلى بطولة تتمثلها الناس وتستلهمها وتتعلق قلوبها بهذا البطل الذي أصبح عنوانًا ورمزًا يسير على نهجه الناس. لذا يؤثر الشاعر أن يكونَ أضحية تسجل معنىً على التباهي بانتصارات لا قيمة لها., غير أنَّهُ في ذات الوقت يعلن حزنه على تبديد مثل هذه القيمة وتدنيسها:
أنا حزنُ النخيل
أمام رايات تُصلّي
وُضِّئّت بدَم الحسين(28)
ويصل الشاعر إلى حالة من التشاؤم وهو يهجس بموت الفكرة والهدف وضياع المستقبل ففي قصيدة(ضغث) يستخدم الشاعر مفردات قاسية وصادقة ومستفزة لتوصيف المشهد التاريخي في لحظته الراهنة، التي تمر به أمته وشعبه، وهو ما ينذر بعواقب وخيمة:
أرى دودًا
يُمزّق فكرتي عن أمس
عن غَدي الذي ما عشتُه
حتى اذا رسمَت حماماتُ الديار
سحابةً أخرى
سيُجهضُها المغيب(39)
إن ما يشهده من وقائع على الأرض يبدِّدُ أية فكرة عن التاريخ ،ويضع ستارًا كثيفًا من الشَّك حول كل ما يروى عن الماضي. ثمَّةَ عفن ودنس في الشعارات والممارسات، ثمة دجل وأكاذيب وحماقات وخيانات وانحطاط في الزمن العربي والفلسطيني الراهن. وهو ما لا ينذر إلا بالمزيد من التشاؤم حول المستقبل، فمشهد اللحظة الرَّاهنة ينطوي على القسوة والإحباط وفقدان اليقين ولا يبشر بمستقبل أفضل. وكلما لمعت بارقة أمل، من شأنها أن تبعث على التفاؤل، سرعان ما تتوارى في زحام الواقع المأزوم.
ثم ينقل لنا مشاهدًا من تجربته الشخصية، والتي هي جزء من تراجيدية المشهد الفلسطيني العام، وفي هذه النصوص الواردة في قصيدة رصيف، يصوّر لنا المشهد على نحو درامي:
على رصيف بيتنا القديم
تخونني الطفولة الممزقة(69)
وهذه الطفولة الممزقة تكونت ذاكرتها مبكرا من مشاهد المخيم البائسة حيث الفقر والحرمان وذاكرة جماعية تشي بالاستلاب وانتهاك الزمان والمكان والضياع وضبابية المستقبل ويحاول أن يصف لنا ما يهمس به ذلك الطفل في ذلك العمر المبكر:
على رصيف بيتنا
أراني طفلًا
ينتضي سيفًا من السؤال
يطالع المشاة باغتراب قلبِه عن المكانِ
دون أن يعي:
أينتمي بخوفهِ إلى رصيف حُلمِهِ
أم أنه في عتمة الزّقاق ههنا
مؤقتا يقيم!(70)
ثمة رصيفين ومكانين.. رصيف المخيم ورصيف الحلم حيث المكان الأول المنتهك. وبذهن طفل يؤرقه سؤال: لماذا؟ وكيف؟ ومتى؟ وأين؟ يختصرها جميعًا بسؤال المخيم الذي استحال إلى سؤال الأسئلة. فهذا الطفل يعي اغترابه في المكان (المخيم) ويظل يساوره حلم العودة. وهل بقاءه مؤقتا أم دائما في هذا المخيم. ثمة هاجس توارثه عن الكبار وكلما طال الزمن، كلّما كبرت الأسئلة ويضيف:
على رصيف بيتنا
أعود طفلا حانقًا على الحياة
أمارس الأحلامَ مثلما
يمارسُ الكبارُ كالصغارِ حًلمهم
وتكبرُ الأوهامُ كالندوبِ
في المخيم القديم(70)
يتوارث الطفل الحلم عن الكبار، وهذه الأحلام لن تلبث أن تتحول إلى أوهام كلما تقادم الزمن فالمكان(المخيم) ثابت أما حلم العودة فقد أصبح جرحًا مفتوحًا في الزمن، بيد أنه يحافظ على جذوة الحلم متشبثًا بالحكايات المتوارثة:
على رصيف بيتنا القديم
أزاولُ امتلاءَ جُعبتي
بما يُقصُ من "قَصَص"
وارتوي تنهدًا وحسرةً
على بلادٍ قد سباها
مبغضٌ دَميم(72)
ثمة معتدٍ يحتل الزمان والمكان، محوّلًا أصحابه إلى لاجئين ،الذين حوّلوا الذاكرة إلى سلاح يورثونه للأبناء. ولا يجد الطفل من مفر سوى مواصلة الاشتباك ولو بحدّه الأدنى. الذاكرة والحلم التي أصبحت سلاحه الوحيد في الطريق إلى تجسيد الحلم ويؤكد على هذه الحقيقة في قصيدة(خذي يافا):
خذي يافا
فليس بحوزتي
مِن كل ما قد ضاع إلّاها
وليس بحوزتي صوتٌ
أُغَنيكِ به فجرًا
وأرثو النار لولاها (113)
لم يعد بحوزته سوى يافا التي رغم ضياعها، سيظل متشبثا بها. لأن ضياعها من الذاكرة يعني ضياعها إلى الأبد. فهل سيستسلم الشاعر لحالة الضياع والتيه، أم أنه يحوّل الذاكرة إلى أساس صلب يقف عليه، ليواجه مصيره ويقاوم؟
ثالثا: المقاومة:
بالرغم من حالة الضياع التي يعيشها الشاعر، ومأساوية الواقع غير أنه يرفض الاستسلام ويصرّ على المواجهة لأن الإذعان يعني الفناء والإندثار. لذا نجده يرفض البطولة التراجيدية والعدالة المهزومة، ويصرّ على البطولة المقاومة.
يقول في قصيدة (أنا):
أنا رأسُ الحراب
إذا أراد مَن تولوا سَوقنا
إعلان خِطّتهم
لترسيم السحاب (23)
يتعين على صاحب القضية أن يكون رأس الحربة في المواجهة ضد أولئك المستعمرون الذين لا ينفكوا يتوسعون مستهدفين الوجود العربي برمته ويكمل:
أنا حزني عليّ
لأنَّ بي نارًا
ستُضرم بي يدايَ إذا كتَبت (25)
وهذه النار هي الغضب الذي سيشعل ثورة هي الطريق الوحيد للبقاء والدفاع عن الوجود متوسلا بأسطورة العنقاء التي تنبعث من بين رمادها:
أنا حطبي وزيتي
وانبعاثُ الطير في أسطورتي عنّي
ومصراع الرمادِ بنارِ بيت (25)
إنَّ المقاومة وإن انطوت على التضحية والموت إلا أنَّها تحمل في أحشائها بذرة الحياة أما الاستسلام فلن يحمل سوى الفناء. فالحياة تولد من رحم الموت كما ينبثق النور من وسط الظلمة:
أنا نور يُطل من السواد
على السواد
أنا أغنيةٌ للعشق
في عرس الحِداد(27)
لا يمحي عار الهزائم والنكبات سوى الاستعصام بالمقاومة والتشبث بالحق. أما الاحباط والتشاؤم والاستسلام فلن يدوم. لا بد أن يطل النور من وسط حلكة الظلام وتحويل الحداد إلى عرس وأغنية تشحذ الهمم. هكذا دأب الفلسطيني على النهوض من بين ركام الهزائم، وتتحول مراسم تشييع الشهداء إلى أعراس وزغاريد الأمهات والزوجات.
وفي قصيدة (عزوف) يحث الشاعر على النهج المقاوم مستخدمًا الذخيرة الأسطورية التاريخية التي تروي حكاية انتصار الحياة على الموت:
قُم واجترح زمنًا لِطيركَ
قد يعودُ اذا احترق
أو قد يُحلِّقُ في القصيدةِ
ان رسمتَ لهُ سماءً
من عَبَق(43)
وهنا يبدو الشاعر متحرِّرًا تمامًا من عبء المأساة، مستبدلًا الحزن بالغضب، وحالة التراخي والانتظار السلبي بالهمة والنهوض الثوري. ولا يكتفي بالانبعاث من بين الرماد وإنَّما يتعين على هذا الطير المنبعث أن يحلق في السماء ويصنع له قدرًا جديدًا. ويواصل:
قم وارتجل
من أبجديّتك العتيقة مطلعًا
ترثو به حولًا كريتًا من سكات
قم واهدِ جُلياتَ اللَّيالِكَ والممالكَ
والتحم بوصيَّتِه(45)
وهذه صورة أخرى من التاريخ، حيث يشير إلى التاريخ الحضاري وبذوره في البلاد، ومشهد جوليت المقاتل. ثم ينقلنا إلى أسطورة رمزية أخرى:
تحذوك آلهة الفِلِسطِ بما لديها من خلود
واختم نشيدَكَ بالتفاتاتِ الظباءِ لربّةٍ
وضعَت تعاليمَ الوجودِ
وراقصت نجمًا بعيدًا وسط طقسٍ
ملحميِّ العزفِ
توَّجَ ربّةً تدعى عناة(46)
وأسطورة عناة المعروفة، إلهة الحب والجمال والخصب الكنعانية، التي تصارع الإله موت وتنتصر عليه، فتنتصر الحياة على الموت والربيع على الجفاف. فهذا الاستحضار للأسطورة وما تنطوي عليه من مقاومة، انما هو سلاح آخر يتعين على صاحب الحق تمثله، فقدر البلاد أن تظل تواجه هذا السيل من الغزوات التي تزرع الموت والدمار، وتجابه وهنها واستسلامها وتنهض لتقاتل وتنتصر في كل مرة.
ويضيف الشاعر مبشرا بالانتصار
لِمَ لمْ تلُم يدَكَ التي غطّت طويلًا في سبات
قم والتحم
ما كان آت(46)
وهنا يصل إلى ذروة انسجامه مع نفسة في الدعوة إلى اليقظة من سبات التخلف والاستسلام والنهوض (قم والتحم) والمجابهة، لأن المستقبل مرهون باليقظة والنهوض والالتحام.
كانت لنا هذه الوقفة الأولية مع ديوان (أنانهم) للشاعر الفلسطيني الأسير أحمد عارضة التي حاولت أن تسلط الضوء على زاوية من زوايا هذا الشعر المقاوم، ومن المؤكد أننا سنكون مع وقفات لإصدارات جديدة سيتحفنا بها هذا الشاعر المبدع.
الأنا...المغتربة التراجيدية المقاومة في ديوان "أنانهم" للشاعر أحمد العارضة!! (2)
بقلم : كميل أبو حنيش ... 06.01.2022