أحدث الأخبار
الأحد 24 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
غوازي سنباط اللاتي حولهنّ شيخ الجامع إلى متسوّلات!!
بقلم : زيزي شوشة ... 13.07.2021

قبل نحو عشرين عاماً، كان اسم عبير الجارحي يُدوّي في أرجاء قريتنا شبراملس في محافظة الغربية بدلتا مصر، يُردده أهل القرية، وينسجون حوله الحكايات. إنها الراقصة والطالبة الجامعية، ابنة الـ 19 عاماً، تتحدث الإنجليزية بطلاقة، وسط جمع من الفلاحين المذهولين. تقف على الطبلة، وترقص بمهارة فائقة نصف ساعة، لا تعبأ بالمال أو بالرجال الذين يتهافتون عليها. تؤدي نمرتها، ثم ترحل بهدوء، تاركة الحيرة تأكل أذهان المتفرجين.
كانت عبير الجارحي نموذجاً غير مألوف للراقصة أو "الغازية" كما عرفناها في قريتنا، ولهذا ذاع صيتها، وارتفع أجرها، لكن شهرتها لم تستمر طويلاً، ففي إحدى الليالي الصيفية، المحفورة في ذاكرة أبناء القرية، انطفأت شهرتها، وخفت بريقها، لقد رقصت للمرة الأولى بجوار "غوازي سنباط".
حكاية الغوازي
لـ"غوازي سنباط" قصة مثيرة، محفوظة في ذاكرة الكثيرين من قرى محافظة الغربية، تقول الحكاية: هن ينتمين إلى الغجر الرحالة، جئن مع عائلاتهن، وأقمن في قرية "سنباط" بمركز زفتى، في نهاية أربعينيات القرن الماضي.
مليحات، وأجسادهن ممشوقة، بارعات في إشاعة الفرح والبهجة، يمتهن الرقص، والغناء، أما الرجال فمنهم الطبال، والزمار، والمغني.
وفي بداية جزيران/ يونيو 1967، قبل النكسة بخمسة أيام، عُرض فيلم "غازية من سنباط" للمخرج السيد زيادة، ويحكي قصة تمرد سلوى على أهلها في قرية سنباط، بعد أن فرضوا عليها الزواج من ثري عجوز، لتقرر الغازية الهروب إلى القاهرة.
لم تمدنا المصادر التاريخية بمعلومات حول مكان نشأة "غوازي سنباط"، لكن شاويش المسرح عامر السيد (اسم مستعار)، البالغ من العمر 55 عاماً، والذي نشأ ويقيم في سنباط، قال لرصيف22: "غوازي سنباط جئن من محافظة الشرقية، وتحديداً مركز أبو حماد، وأخريات جئن من بلقاس في خمسينيات القرن الماضي".
مبكراً أنجز الجميع أعماله، استعداداً لليلة الموعودة، كان فرح أحد الأثرياء العائدين من الخارج، أقسم أهله، أن يذكر الناس هذه الليلة طول العمر. نُصب المسرح، واستعدت الفرقة الموسيقية: عازف الأورغ، والطبالون، وعازف الأوكورديون، ولكن المتفرجين من أبناء القرية والقرى المجاورة، راحوا ينتظرون عبير الجارحي.
الرقص عند المصريين... احتفال وعبادة
جولة في كباريهات وسط القاهرة
التحطيب... فن الرقص بالعصي في مصر
كان المطرب الشعبي الشهير رضا البحراوي، يشدو بأحد مواويله، لكن الجميع انصرف عنه، متأملين القادمة من بعيد بصحبة شاويش المسرح، والمساعدين.
شاويش المسرح يتفنن في تقديم الراقصة الشهيرة، يهتف: "بنت المنوفية، الطالبة الجامعية، نجمة الليلة، وكل ليلة: عبير الجارحي".
حالة من الهياج أصابت المتفرجين والمتفرجات، الكل يرقص على تقسيمات عازف الأورغ، وعبير تقف على الطبلة، تفعل كل شيء بجسدها الممتلئ، لكنها لا تعبأ ولا تتفاعل مع أحد.
صامتة طوال أداء "نمرتها"، ببدلتها الخالية من البهرجة، شخصية حيادية، تؤدي دورها فقط، لم تعرف غنج الغوازي، ولم تتلفظ بأي كلمات إباحية كزميلاتها في المهنة. ثمة صدود شعر به الجمهور المتعطش لـ"الفرفشة".
عبير جلست لتستريح، وهناك مطربة تغني من خلف الستارة: "أنا مش راح أنسى" أغنية شفيقة التي خلدها أهل الدلتا، ثم تغني "على ورق الفل دلعني"، ويدخل "شاويش المسرح"، ويعلن عن الراقصة نورا بنت الغربية.
كانت نورا إحدى أشهر "غوازي سنباط"، جسد ممشوق، وجه منحوت، وشعر أصفر، وخفة وغنج، لم يستطع الرجل الخمسيني أن يُقاوم، صعد إلى المسرح، ليرقص يده في يد نورا، انقلب المسرح، الرجال يبعثرون المال على نورا، والنساء يقلدن حركاتها.
ليلة عارمة، ازدادت بهجة بصعود عفاف أشهر غوازي سنباط على الإطلاق، النساء الثلاث يرقصن متجاورات، لم تصمد عبير الجارحي، فهي بحسب قول شاويش المسرح، لم تعرف أصول الفرفشة، كما يعرفها "الغجر".
وهو بعد صبي لم يتجاوز العاشرة من عمره، دخل عامر عالم الأفراح الشعبية، يقول إنه منجذب منذ صغره تجاه هذا العالم المبهج.
تعرف في هذا العمر الصغير على "غوازي سنباط" من خلال عمله في الأفراح، حتى أصبح صديقاً مقرباً لهن، يوضح: "لسنوات طويلة كنت أعمل معهن، وتحديداً: كاميليا، وعفاف، ونظيرة، وأم هاشم، ونشوى، هن طيبات القلب، مبهجات، وهذه هي مهنتهن التي يعتشن منها، إما الرقص، أو التسول، هكذا تخيرهن، أمهات أزواجهن، وهن يخترن الرقص".
ويضيف: "وفي النهاية غالبيتهن اعتزلن الرقص، ولم يبق سوى عدد قليل جداً، ربما ست راقصات. رغم تفوقهن على الراقصات الأخريات، لا يبالغن في الأجر، يرضين بالقليل، قبل 20 عاماً كان أجر الراقصة في الليلة الواحدة من 300 إلى 500 جنيه (ما يقارب 18 دولاراً)، والآن يراوح بين 1000 و 1500 جنيه أي ما يقارب 100 دولار".
يُرجع عامر السبب في عزوفهن عن الرقص إلى مسجد بُني على ناصية الشارع الذي يقمن فيه، فهناك "بعض الشيوخ الذين يتوجهون إليهن بالخطب حول عذاب القبر، والعقاب الذي ستناله المتبرجات والراقصات في الآخرة".
"كنّ طيبات القلب، مبهجات، يتقنّ أصول "الفرفشة"، يغدق الرجال عليهن الأموال، وتقلدهن النساء حتى بُني جامع على ناصية شارع يقمن فيه، تحدث المشايخ فيه عن عذاب القبر وعقاب الله للمتبرجات والراقصات"
ولكن لجارتنا نبيلة عبد المقصود (اسم مستعار)، وهي مدرسة، نشأت وعاشت في "سنباط" قبل أن تتزوج في قريتنا شبراملس رأي آخر هو: "السبب الحقيقي في عزوفهن عن الرقص يعود إلى اندماج الغجر، في المجتمع، فلم يعودوا منعزلين كما في الماضي، بل انخرطوا مع أهل القرية، وارتبطوا معهم في علاقات نسب".
وتشير نبيلة إلى أن هذا الاندماج الذي حدث في السنوات الأخيرة، أفقد "الغجر" خصوصيتهم، وفرادتهم، وتضيف: "فقدنا نحن أهل القرية دهشتنا وفرحتنا، بهؤلاء البشر المبهجين المختلفين".
تبعد "سنباط" عن قريتنا، مسافة 10 كم، وهي واحدة من القرى الأكثر تميزاً وسط قرى الدلتا، حيث تسكن نسبة كبيرة من الغجر، والأقباط، وهواة الفن، من منشدين/ات، وموسيقيين/ات، و"آلاتية"، وهذا التنوع صنع منها حالة خاصة، وأضفى بعض ملامح التمدن عليها.
وهذه الحالة تكسر رتابة القرى الأخرى المجاورة لها، فحتى وقت قريب، كانت "سنباط" مركز البهجة والفن قبل تدجين "الغجر".
شارع الغرباء
وهي طفلة صغيرة، كانت نبيلة عبد المقصود تحب أن تتجول في شارع "الغربا"، أي "الغرباء"، قبل أن يُطلق عليه "شارع الغوازي".
كانت تفرح بملابسهم الملونة، وشعرهم الأصفر، وأغانيهم التي يرددونها طوال النهار والليل. تقول نبيلة لرصيف22: "كان هذا العالم مغرياً بالنسبة لي، وعندما كبرت، وتأملت في هؤلاء البشر، أدركتُ أن سر بهجتهم يكمن في تحررهم من كل شيء، من العادات والتقاليد، ومن الدين، ومن فكرة الوطن، فهم غير منتمين لأي مكان، لهذا هم أكثر شعوب الأرض إحساساً بالحرية".
تبعد "سنباط" عن قريتنا، مسافة 10 كم، وهي واحدة من القرى الأكثر تميزًا واختلافًا وسط قرى الدلتا، حيث يسكن بها نسبة كبيرة من الغجر، والأقباط، وهواة الفن، من منشدين، وموسيقين، و"آلاتية"، وهذا التنوع والتعدد، صنع منها حالة خاصة، وأضفى بعض ملامح وسمات التمدن عليها. وهذه الحالة تكسر رتابة القرى الأخرى المجاورة لها، فحتى وقت قريب، كانت "سنباط" هي مركز البهجة والفن، قبل أن يتم تدجين "الغجر".
وهي طفلة صغيرة، كانت "نبيلة عبد المقصود"، تحب أن تتجول في شارع "الغربا"، أي "الغرباء"، قبل أن يُطلق عليه "شارع الغوازي"، كانت تفرح بملابسهم الملونة، وشعرهم الأصفر، وأغانيهم التي يرددونها طوال النهار والليل. وتقول "نبيلة" لـ "رصيف 22": كان هذا العالم مغريًا بالنسبة لي، وعندما كبرت، وتأملت في هؤلاء البشر، أدركتُ أن سر بهجتهم، يكمن في تحررهم من كل شيء؛ من العادات والتقاليد، ومن الدين، ومن فكرة الوطن، فهم غير منتمين لأي مكان، لهذا هم أكثر شعوب الأرض إحساسًا بالحرية.
وتتذكر نبيلة، حكايتها مع نجاة، وهي امرأة غجرية فائقة الجمال، تزوجها أحد الأثرياء، وجعلها تتوقف عن الرقص، ثم تركها ومعها طفلين، تحكي: " جاءت إلى أبي، لتستنجد به، فلم يكن لها مكانًا تقيم فيه، من شدة حبي لها، ضغطت على أبي أن يساعدها، فوافق أن تسكن في بيتنا القديم. وعادت نجاة مره أخرى إلى الرقص في الأفراح، لكنها لم تكن ترقص في القرية، وهذا لا ينطبق عليها فقط، فالغجريات لم ترقصن في سنباط مطلقًا، وعندما تخرجن من القرية، متجهات إلى العمل، تتخفين في العباءات السوداء، خوفًا من المضايقات التي تتعرضن لها من جانب بعض شباب القرية".
في العشر سنوات الأخيرة، رويداً رويداً، انطفأت بهجة غجر سنباط، وانمحت خصوصيتهن، وضاعت أغانيهن، لأنهن استقررن في المكان، ولم يُمارسن هوايتهم المعهودة في التنقل من بلدة إلى أخرى.
الاستقرار لسنوات طويلة جعلهن يندمجن في مجتمع القرية، ويكتسبن عاداتها وتقاليدها، تقول نبيلة: "الكثيرات تزوجن من أعيان وأثرياء البلد، لأنهن فائقات الجمال، والأخريات تزوجن من أثرياء عرب، وكان ذلك الزواج يستمر لفترة محددة، والآن أغلبهن يعشن عن طريق التسول في البلاد، والمدن القريبة مثل: المحلة والمنصورة".

*المصدر : رصيف22
1