قد تبدو رواية شاكر الأنباري «نشيدنا الحزين» الصادرة عن دار سطور 2024 بغداد محاولة في تدوين سرديات اللاجئ، وأسفاره الفاجعة، لكنها في الجوهر تتحدث عن «أزمة الإنسان» وهو يواجه تداعيات اغترابه وخذلانه الوجودي، فيتحول التعالق بين فكرتي اللجوء والاغتراب إلى سردية تنفتح على التاريخ والسيرة، ينحاز فيها الروائي إلى اختيار شخصية المثقف كأنموذج لفحص سردية اللجوء، من خلال التعرّف على حساسيتها إزاء وعي الغربة، وإزاء علاقتها الشائكة بدوستوبيا المكان والجسد واللغة.. تنكشف محنة المثقف العراقي اللاجئ في الرواية، على نسق سردي مملوء بالتفاصيل، ينجح الروائي في تحويله إلى محور لتمثيل هواجسه المضطربة، فكل ما يتداعى أمام وعيه «الشقي» يتشظى إلى أسئلة فارقة، وعلى نحوٍ يجعله يدخل إلى أعماق تاريخه الشخصي، بوصفه تمثيلا لتقاطع وجوده بين رهاب اغترابه في اللجوء، ورهاب الذاكرة وما تحمله من كوابيس الفقد والحرب، فلا يطرح نفسه إلا بوصفه شخصية أضحوية لذلك الوجود، ما يدفعه إلى التماهي مع» سايكولوجيا التعويض وعنف التخييل السردي» بتوصيف محمد صابر عبيد، ليطرح نفسه بوصفها كينونة تبحث الحضور، كنظير للتطهير والخلاص، ما يجعله أكثر تمثيلا لفكرة الاغتراب، بمعناها الفلسفي أو الوجودي وحتى الحسي..
تحفل الرواية بكثير من الصراعات والمواقف الدرامية، حيث يجعل من هجرته/ هروبه، معادلا رمزيا للبحث عن فكرة الإنقاذ، فتقترن ثيمات الهروب التراجيدي، بما يمكن تشبيهه بالتحمّل العوليسي، وصولا إلى التماهي النفسي مع الفكرة الرمزية للإشباع الوجودي والجنسي، كمقابل سيميائي للوصول إلى البلاد الغائبة/ البلاد السحرية، تلك التي تتحول إلى متخيل تطهيري لأوهامه عن الحرية والجنس والمعنى..
يتركز تشييد الرواية على أساس سردنة ثيمة «الخلاص» كرهان وجودي، للانفصال عن التاريخ، والتحقق خارجه، من خلال تنامي الأصوات الساردة لحكاياتها، حتى تبدو الحكاية وكأنها بديل عنه، والاستذكار تمرد عليه، حيث يصطنع الروائي لشخصياته قصصا داخل الرواية، تنطوي على مفارقات سردية تجعلها أكثر تمردا على الرمزية الأضحوية، وعلى ذاكرة الحرب والخوف والمطاردة، وهي ما تكسبهم سمات لها قدر من السحرية الواقعية، فلا يجدوا في رحلتهم الغرائبية إلى المهجر إلّا معادلا للبحث عن حريتهم، ومواجهة فوبيا استلابهم الإنساني، وكأن «أرواحهم الهائمة» تتوق إلى التماهي مع حياة نقيضة، يختلط فيها الواقعي بالسحري، والنفسي بالوجودي، والألم بالحرية، وباتجاهٍ يجعل من اللجوء أو النفي الذاتي، خيارا لملاحقة حلم تلك الحرية، حتى يبدو تحققها التراجيدي وكأنه مماهاة مع الإشباع الرمزي، أو الانغمار في عالم سحري يحرضهم على اصطناع حكايات تتعدد تفاصيلها مع تعدد أصوات شخصيات الرواية.
فأصوات «كمال الشاعر ونائل وجميل ومراد وليث ووسام أنكيدو» تضع وجودها إزاء مناصة ما يقترحه العنوان/ نشيدنا الحزين، من إحالات رمزية للتشارك في الوجود التراجيدي، وفي تدوين يومياته، وفي توصيف غرائبيتها إزاء تراجيديات الحزن العراقي، وعلى نحوٍ يستعير من تراجيدية المسرح اليوناني فكرة «الكورس» لتحمل تلك الأصوات هواجسها في الكشف عن نقائضها في النظر إلى الحياة والموت، وإلى النفور والخفوت، حيث تظل الذاكرة مُستفَزة، بقلقها، وعبر ما تستعيده من عذابات الغربة، ومن هشاشة يومياتها، وعلى نحو يجعل من تمثيلها في سيرة اللاجئ تأويلا لبحثها عن وجود متعالٍ في اللغة، وفي اللذة كما أراده «كمال» الذي هو قناع المؤلف، فكان أكثر حيوية في رصد يوميات اللاجئ المثقف، القلق، والمسكون بنقائض الماضي، وما يهجس به إزاء خوف الحرب، وإزاء الشغف الذي يدفعه للإصرار على مغامرة اكتشاف عالمه الجديد عبر اللغة والجسد وأنسنة العلاقة مع الآخر.
حفلت الرواية بسرد غامر بالسخرية والمرارة، فبقدر ما تبدو سردية التفاصيل مشغولة بتقصي يوميات اللاجئين العراقيين وحيواتهم المضطربة والشائهة، فإن الروائي حاول أن يجعل منها كناية فلسفية للكشف عن قسوة جحيم المصير الانساني، حين ينكسر الإنسان إزاء أوهام خلوده، وإحساسه بالعدم الوجودي، فلا يملك سوى صناعة وجوده الضدي عبر الحكاية، أو عبر السخرية من التاريخ والأيديولوجيا والحرب، فتتحول هذه الكناية إلى بؤرة سردية تستقطب حكايات مجاورة، تتبدى من خلالها أرواحهم الهائمة والأضحوية، وهي تتفجر عن مفارقات اجتماعية ونفسية وأنثروبولوجية، تبدو أكثر تمثيلا للسيرة العراقية، في ذاكرتها الغامرة بمراثي الجحيم الوطني والحروب الفاجعة، وفي إحساسها بالاغتراب والمفارقة والاستلاب التاريخي والوجودي والجنسي إزاء الآخر.
سرديات اللاجئ.. سرديات اغترابه
تحفر رواية «نشيدنا الحزين» في سرديات اللاجئ العراقي، بوصفها استبطانا لتاريخ غرائبي مفتوح على تراجيديا الشخصية العراقية، فاللجوء هو الهروب الاضطراري إلى اللامكان، وإلى اصطناع سير وحكايات مضادة، لا تحضر فيها سوى أشباح الماضي، والأرواح التي تتمرد على مقابرها التاريخية، وعلى ذاكرة الحرب التي يستعيدها كمال بوصفه «سائق الدبابة ت52» وعلى نحوٍ يجعل من التعرّف على سيرة الآخر دافعا نفسيا ضاغطا لتقويض تلك الذاكرة، فتتضخم فكرة اللجوء لتوهم بالخلاص، وتتضخم شيفرة الجنس واللغة، وحتى سردية الوصف، لتصنع معادلا رمزيا ونفسيا، فرغم أن أحداث الرواية تجري في جزر ومدن «دولة غربية» إلا أن ما يتبدى من خلالها يفضح المخفي من محنة الإنسان، حيث تكشف الشخصيات عن أزمتها مع المكان «الوطني» ليتحول اللامكان إلى حدس بالحرية، وإلى خلاص، مثلما يتحول الإحساس بالاغتراب إلى ما يشبه خرق المألوف، وإلى تحرير الذات الساردة، لتجعل من حكايتها نوعا من الانغمار في فنتازيا الوجود، يكون فيها الزمن السردي هو المقابل للزمن النفسي، والهروب من التاريخ والسلطة والحرب والاستبداد والسجون الوطنية، هو النظير للبحث عن الخلود..
توزعت أصوات الرواية بين السارد العليم، والسارد المجاور، وعلى نحوٍ أعطى للعبة السرد زخما لتوسيع مساحة وظائف السرد، من خلال تعدد عوالم الشخصيات، وتمثيلها لنقائض الاغتراب والاندماج والحنين والشغف الجنسي، ولصراعها الوجودي في الغربة، وباتجاه يجعل من لعبة السرد وكأنها مفتوحة على سلسلة من القصص/ الحكايات التي تنفلت من حكاية إطارية، بطلها الراوي الذي يرقب الشخصيات من خلال مقاربة مصائرها، في قلقها وخوفها وخذلانها، أو في تحولها، وفي بحثها عن قناع آخر للهوية، لاسيما شخصية «جميل» الذي سبقهم في اللجوء، واستكان في بلد المهجر بعد زواجه من «سوزان» الجميلة، فيتحول إشباعه الوجودي والجنسي والمالي إلى صدمة للاخرين، لها رمزيتها الجنسية واللغوية، رغم أنه لم يتجاوز قلقه، فظل مسكونا بسخريته وبهواجسه، وفي بحثه عن الإشباع المفقود عند طقوس الموائد في حانات المدينة..
اللجوء وسردية الجسد..
ليس اللجوء للمكان الآخر بريئا، فسرعان ما يتحول إلى مجال/ فضاء تغمره صراعات رمزية مع التاريخ والهوية والذاكرة، وعلى نحو يجعل من وجود الشخصيات مرهونا بوعي هذا الصراع، والشغف باصطناع حياة نقيضة، لها سردياتها وهوياتها القلقة، تتحول فيها منطقة التأزم السردي إلى لعبة مفتوحة تتداخل معها استعادات فاجعة، واصطدامات تشتبك فيها الذات الساردة مع الأنثروبولوجيا، ومع عنف الوجود، فيغيب الزمن الكرنولوجي الذي يلاحقهم، ليحضر الزمن النفسي بوصفه زمنا منقطعا، زمنا شخصيا، لا هوية له، سوى ما تتبدى فيه اعترافاتهم وعذاباتهم، حيث تستدرجهم لعبة السرد إلى تمثيل مصائرهم في اللجوء، من خلال الكشف عن عزلتهم ووحدتهم، وهم يراهنون على تقويض الذاكرة، ليحضر الجسد بوصفه الأيقوني، مؤديا لوظائف الشاهد، والرمز الباعث على التعويض والإشباع، فجميل المترجم يمر إلى الآخر عبر الجسد، وليث لا يجد وجوده، ومحاولة نفي اغترابه إلا عبر الجسد، وحتى كمال يدرك أن لعبة الجسد هي خيار وجودي، لمواجهة توتره الداخلي ووعيه القلق، فعبر سلسلة من العلاقات التي يصنعها الجسد تتجلى فاعلية السرد من رصد مظاهر التحول والتناقض بين المهاجر اللاجئ ومحيطه، وما يواجهه من صراع وجودي له مخالبه الحادة، ونزعاته العنصرية، فيحضر التمثيل الثقافي للشخصيات بوصفه موجها سرديا اقترحه الروائي لضبط إيقاع الشخصيات، ومراقبة حركتها في المجال السردي، فضلا عن تخلصه من وظيفة الكاتب العمومي لسيرة اللجوء، حتى تبدو شخصياته وكأنها تتمثل بؤرة مركزية تتبدى فيها هويتها الثقافية، بوصفها الدال على سرديات الهوية الغائبة، وهي تستدعي عنف تخيلها لاستحضار إشباعها عبر ترميزات الجسد واللغة واللذة، فكمال يجد في الشعر والقصة والحكي نوعا من الخلاص الرمزي، وليث يجد في التصوير الفوتوغرافي شغفا باكتشاف الآخر، مقابل شخصيات أخرى لا يكشف المهجر إلا عن محنتها الوجودية عبر العنف والثرثرة والعبث..
ينطوي التمثيل السردي للرواية على شيفرات مفارقة، تعمد إلى تنشيط بؤرة السرد، وإلى الاستئثار بحبكة أحداثها، وباتجاه يجعلها رواية وظائف تؤديها شخصيات، مثلما هي رواية أحداث، وأن ما يتأسس بينهما يتحول إلى فضاء زمكاني، يتقوض فيه المكان التاريخي، والزمن التاريخي، حيث يتجاوز عبرهما الروائي نمطية كتابة السير ذاتي، إلى السرد القائم على توظيف إفادات الآخرين وهم يروون سيرهم المتعددة، عبر لعبة الراوي العليم، أو عبر اصطناع قصص وصفية لأمكنة اللجوء ولمظاهر عنف الهوية ولرغبات الجسد الفائر، وباتجاه يعمد فيه الروائي إلى تقريب فكرة البحث عن العالم اليوتوبي الذي تتوق إليه الشخصيات، والذي يسمح للمخيلة أن تتجاوز عقدة خوفها، حيث يتحول الاعتراف إلى اندفاع صاخب نحو العالم الجديد، وحيث تسعى الضحية إلى تجاوز المقموع الوجودي والجنسي إلى ما يشبه الإفصاح عن سرديات اللاجئ الذي يرقب تحولاته من خلال انخراطه في يوميات الواقع الجديد، وعبر ما يقترح له الروائي من سردية تقوم على تمثيله للزمن السردي وليس الواقعي، وللهوية السردية التي تتحول إلى قناع يُخفي تحته محنته مع التاريخ والذاكرة…
شاكر الأنباري.. «نشيدنا الحزين» وسرديات اللاجئ!!
بقلم : علي حسن الفواز ... 02.01.2025