أحدث الأخبار
الأربعاء 11 كانون أول/ديسمبر 2024
أين يمكن أن نشتري الشّغف؟!!
بقلم : إبراهيم نصر الله ... 17.08.2023

ليس ثمة شك في أن غابرييل غارسيا ماركيز واحد من أبرز من أحدثوا الانقلاب الكبير في السرد الأدبي العالمي، لذا يمكننا نحن الذين عبرنا البرزخ الفاصل بين قرنين من الزمان أن نؤكد أننا كنا سنخسر الكثير لو لم نقرأ ماركيز ورفاقه في الواقعية السحرية.
فمنذ “عاصفة الأوراق” حتى “عن الحب وشياطين أخرى”، مروراً بـ “خريف البطريرك”، و”جنازة الأم العظيمة”، و”ليس للكولونيل من يكاتبه”، حتى رائعته الكبرى “مائة عام من العزلة”، وأغنية الحب الكبيرة “الحب في زمن الكوليرا” ومئات القصص القصيرة الرائعة وصولاً إلى “ذكريات غانياتي الحزينات”؛ منذ ذلك كله عمل ماركيز على فتح آفاق جديدة للمخيلة الأدبية، وبعث الحياة في أجزاء لم تكن قد استخدمت من قبل، أو أن البشرية قد ضحّت بها، حين أهملتها طوال قرون وقرون، عندما تغيرت الضرورات وحسمت المعركة بانتصار العقل والمعدة على مخيلة القلب.
جاء ماركيز وبعث ذلك الكائن العملاق المغمور بكتل الثلج: الخيال؛ إلى الحياة ثانية بدفء نادر، وهكذا كانت مفاجأة القراء في العالم كله، حين تبين لهم أي عماء ذاك الذي كانوا يخوضون فيه، وأي كنـز ذاك الذي أضاعوه.
ونحن في عالمنا العربي هنا، كانت لنا مفاجأتنا الخاصة أيضاً، لأن جذور هذا الخيال أو فضاءاته على وجه الخصوص، كانت فينا، بيننا، ومن صنع مخيلتنا حين كان للبشر على هذه الأرض فرصة لاختبار أجنحتهم، بعيداً عن قدمين مقيدتين بلقمة الخبز وأزمنة الظلام.
لكن لنعترف أننا لم نتجرأ بعد على إعادة الاعتبار لما بين أيدينا. لنعترف أننا لم نتعلّم الدرس كما يجب، حين واصلنا الطريق الذي بدأناه بعيداً عن ذلك الإرث الحكائي العظيم، إلّا في ما ندر.
وماركيز الذي كتب هذه الأعمال وعرف سرّ الصنعة ودواخلها، لم يتردد في كشف أسراره كلها أمام الناس، لطلاب يتوقون لأجنحة الخيال هذه وللتحليق بها.
مجموعة من العاملين في كتابة السيناريو والإخراج السينمائي اجتمعوا في ورشة أدارها ماركيز بنفسه، تجربة من النادر أن يقوم بها كاتب عربي كبير بهذا الاتساع، وقد تمّ الخروج من هذه التجربة بكتابين نُشرا على نطاق عالمي، بحيث خرجت هذه التجربة من إطار الحلقة الضيقة إلى الأفق الثقافي العالمي، وغدت بعد نشرها ورشة كونية.
“كيف تحكي حكاية” و”نـزوة القص المباركة” هما الحصيلة، وقد نقلهما إلى العربية صالح علماني الذي يعود له الفضل في نقل أهم الأعمال المكتوبة بالإسبانية بلغة عربية مشرقة، كما لو أن النصوص كتبت أصلاً بالعربية.
يقول ماركيز في بداية حديثه للمشاركين: أبدأ بالقول لكم إن مسألة الورشات هذه قد تحوّلت لديّ إلى إدمان. فالشيء الوحيد الذي رغبت في عمله في حياتي – وهو الشيء الوحيد الذي أتقنت عمله إلى هذا الحد أو ذاك – هو رواية القصص. ولكنني لم أتصوّر مطلقاً بأن روايتها جماعياً ستكون ممتعة إلى هذا الحدّ. أعترف لكم بأن سلسلة الحكواتية، أولئك الشيوخ الموقرون الذين يسردون حكايات ومغامرات مشكوك فيها من ألف ليلة وليلة في الأسواق المراكشية، تلك السلالة هي الوحيدة غير المحكومة بمائة عام من العزلة ولا بمعاناة لعنة بابل”.
يدعو ماركيز طلبته أن ينسوا عاداتهم الذهنية، وهي دعوة يمكن أن توجه لكل كاتب محترف أيضاً، يدعوهم أن ينسوا التفكير بمصطلحات الصورة، والبنى الدرامية، والمشاهد والمناظر، لأن سبب اللقاء هو من أجل حكاية القصة، وكيف يتم تركيب قصة، وكيف تحكى حكاية، لكنه يعلن أيضاً شكه في إمكانية تعلم ذلك لأنه مقتنع بأن العالم ينقسم بين من يعرفون كيف يروون القصص ومن لا يعرفون ذلك، لأن القصة في رأيه تولد، ولا تُصنع. والموهبة وحدها لا تكفي بالطبع؛ فمن يملك الاستعداد الفطري وحده ولا يملك الصنعة يفتقر إلى الكثير: إلى الثقافة، إلى التقنية، إلى الخبرة، ولكنه يملك الشيء الأساسي، وهذا صحيح، وهو شيء ربما تلقاه من الأسرة. ويتساءل إن كان المصدر هو الجينات الوراثية أو عن طريق الأحاديث التي تدور حول المائدة. هؤلاء الأشخاص الذين يمتلكون الاستعدادات الفطرية يقصّون الحكايات، في العادة، دون أن يتقصّدوا ذلك، ربما لأنهم لا يحسنون التعبير بطريقة أخرى.
ويتحدث عن جذور الحكايات فيقول: نصف الحكايات التي بدأت بها تكويني سمعتها من أمي. إنها الآن في السابعة والثمانين، وهي لم تسمع مطلقاً أي كلام عن الخطاب الأدبي، ولا عن تقنيات السرد، ولا عن أي شيء من هذا القبيل، ولكنها تعرف كيف تهيئ ضربة مؤثرة، وكيف تخبئ ورقة آس في كمّها أخيراً مثل الحواة الذين يخرجون مناديل وأرانب من القبعة.
ما أشار إليه ماركيز حول أمه ينطبق على الملايين من أمهاتنا وآبائنا وجداتنا وأجدادنا، بل ينطبق بصورة مدهشة؛ بصورة مقلوبة، على بعض الكتاب الذين يسردون حكاياتهم شفهياً بصورة رائعة وحين يكتبونها يفسدونها، لأنهم لا يملكون موهبة الصنعة.
يعترف ماركيز تحت سماء هذه الورشات بأنه أكثر الرجال حرية في العالم؛ من حيث عدم ارتباطه بأي شيء، وليس ملزماً حيال أحد، وهو مدين بذلك إلى أنه قد فعل طوال حياته الشيء الوحيد الحصري الذي يحبه، وهو رواية القصص. فهو يذهب لزيارة بعض الأصدقاء، فيروي لهم قصة، ويعود إلى البيت ويروي قصة أخرى، ويدخل إلى الحمام، وبينما يفرك جسده بالصابون، يروي لنفسه فكرة قصة تدور في ذهنه منذ عدة أيام.. وهذا يعني في رأيه أنه يعاني من (نـزوة القصّ المباركة).
وبعد: يسأل في النهاية ماركيز السؤال الذي يمكن أن يسأله كل من أشرف على ورشات كتابة إبداعية، وقد عايشت ذلك مع أصدقاء كتّاب في غير مكان: هل يمكن نقل هذه الثروة إلى الآخرين؟ هل من الممكن تعليم الهواجس للآخرين؟ وأضيف هنا: هل يمكن أن ننقل للملتحقات والملتحقين بمثل هذه الدورات في عالمنا العربي الحالة الأكثر تركيباً، إن لم تكن متأصلة فيهم، وأعني “الشغف”؟

1