في عمّان التقينا، ذات يوم من عام 1968، ومن يومها بتنا أصدقاء.
كان قادما من سورية، تحديدا من مخيّم حمص، وأنا كنت مقتلعا من مخيم النويعمة جار أريحا، وقبل ذلك كنت شاميا بين الطفولة والفتوّة، وبيننا بدأت حكايات حمص التي أحب، والشام التي نشأت في حاراتها، وتعلمت في مدارسها، وتثقفت بكتب وفّرتها لي.
اكتشفت أنه مولع بالسينما، ومعا تحدثنا عن ممثلين عالميين أعجبنا بهم، وعن أفلام لبثت في ذاكرتينا، وفي كل وقت لم نمّل من الكلام عن فلسطين شعرا ونثرا وحكايات شعبية.
جلسنا عند ( بسطة) حسن أبي علي، وقرأنا الصحف، وقلّبنا المجلات، وانتظرنا وصول مجلة( الآداب)، ومن بعد( الهدف) التي يرأس تحريرها كاتب أحببنا كتاباته: غسان كنفاني...
كان يرتدي ( فلدة) كاكية عسكرية، لا توحي بأنه عسكري، ولكن بأنه ينتمي للزمن الفدائي، هو المراسل العسكري.
أول مرّة اصطحبته إلى مخيّم( النصر) حيث كنت أعيش، قلت له: يلاّ نتغدى عندنا في البيت، وكان البيت غرفة واحدة، وكنت قد تزوجت منذ أشهر، فمضينا، وتغدينا، وتجولنا في المخيّم الصغير، ومن ثم ودعته في مدخل المخيّم، على أن نلتقي في اليوم التالي عند ( بسطة) حسن أبي علي، لننطلق من هناك متسكعين، أو نرتجل برنامجا مع من نلتقي بهم من الأصدقاء...
عمّان بعد حزيران باتت موئلاً للفدائيين، للصحفيين القادمين للكتابة عن الزمن الفدائي بعد هزمة حزيران الكارثية لكل العرب.
إلى عمان وفد كتاب، وصحفيون، وفلسطينيون لم يكن متاحا لهم الأمر من قبل، بقيود كثيرة تحشرهم حيث يقيمون...
في عمان التقينا: أحمد دحبور، خالد ابوخالد، محمد القيسي، موسى صرداوي، وتعرفنا بحنا مقبل، ناجي علوش، منير شفيق، مي صايغ، نزيه أبونضال، واجتذبت هذه المجموعة شاعرا من جيل سابق هو خليل زقطان، واخترنا مقهى في دخلة مقابلة للبنك العربي، في زاروبة، وأطلقنا عليها اسم مقهى الزاروبة، وكنا نستمتع بشرب الشاي في أكوابها الطويلة التي وصفها المرحوم خليل زقطان: بطويلة العنق: هات اسقني بطويل العنق..وذهب التعبير مثلاً.
في تلك المرحلة بتنا نحلم بكتابة نصوص مشتركة شعرا ونثرا، وبعضنا فعل، القيسي والصرداوي بخاصة.
كنّا نحلم بالتجيد في الشعر والنثر العربي مع الرد الفدائي المقاوم على هزيمة جرّعتنا هزيمة يتحمل أوزارها غيرنا.
كان أحمد يقرأ على سمعي ما يكتب، والقيسي أيضا، وكنا نتحاور ونحن نتمشى بين الناس على الأرصفة ، في منتصف عمان.
الكثير من شعره، وقبل نشره، قرأه على مسامعي، وكان ديمقراطيا في سماع رأيي، بخاصة عندما نختلف.
منذ عرفته تيقنت بأن ثقافته الشعرية العربية التراثية مدهشة، وأنه متميز بعمق معرفته بأسرار اللغة العربية ، نحوا وأوزان شعر، وأن هذا يعود إلى دراسته في حمص على أيدي اساتذة متميزين، ومنهم شعراء كانوا لامعين في الخمسينات في مقدمتهم أستاذه الشاعر موريس قبق،، وبقي أحمد يتحدث عنهم، ووفيا لذكراهم.
دلله كثيرون بقصيدة له:
أنا الولد الفلسطيني
أنا الولد المطّل على سهول القّش والطين
خبرت غبارها، ودوارها، والسهد
وفي المرآة أضحكني خيالُ رجالنا في المهد
وأبكاني الدم المهدور في غير الميادين
( حكاية الولد الفلسطيني)
صار أحمد دحبور: الولد الفلسطيني، والولد هذا هو إبن المخيم، وهو صوت المخيم، ومن بعد عنفوان الفدائي، وفي كل الأحوال هو شاعر شعب يتميز بالكبرياء، رغم ما يعانيه من قهر، وظلم، وغربة، ولعله لهذا كان صاحب صوت حاد حار، فهو على المنبر يحاكم، وينافح بغضب، ويتحدّى..إنه صوت شعري فدائي لشعب يكبر على الهزائم، والمذابح، والغربة، ولا يتخاذل، ولا ينكص، ولا يساوم، فهو شاعر( شعب) احتلت فلسطينه، وكل مدنه، ويراد له أن يندثر، فما هو الشعر الذي يقوله في وجه الدنيا كلها؟!
من ( الأغوار) قبس نار البنادق، والتماع عيون عابري النهر وهم ينقضون على عدو ظن أن هزيمة حزيران ستؤبّد له احتلاله لفلسطين، وستنهي حضور شعب فلسطين، وأن حزيران هو معركة الختام في الصراع.
بعد أيلول التقينا في دمشق، والطريف أن أحمد قد انتقل لخدمة ( العلم) في جيش التحرير الفلسطيني، وكان دائما يحضر إلىنا ببدلته الكاكي العسكرية الواسعة عليه، و( ببسطارة) الأسود الذي يبدو كبيرا على قدميه، وهو دائما في عجلة من أمره، فهو يسلّم علينا بسرعة، ثم يعلن أنه مضطر للسفر إلى حمص، حيث خطيبته هناك في المخيم تنتظره.
تألق أحمد شعريا على المستوى العربي، ولمع نجمه في المهرجانات من العراق إلى دمشق إلى بيروت، وتوالى صدور أعماله الشعرية، ولعمق ثقافته ارتاد آفاقا شاسعة شعريا، فجدد في ( قصيدته)، ومع توالي أعماله الشعرية أخذ أحمد مكانة لائقة به في حركة الشعر العربي...
لست بصدد الكتابة عن تجربة أحمد دحبور الشعرية، فهذه الرحلة الكبيرة الغنية تستدعي دراسات نقدية لا أملك أن أنهض بها، فما أنا سوى قارئ لشعر أحمد دحبور، وصديق ورفيق عمر...
كم أتمنى أن أقرأ دراسات نقدية تتعمق في دراسة جوانب رحلته الشعرية، وهذا ينطبق على الكبار من مجايليه في الشتات..في الزمن الفدائي، وما بعده، في زمن الخيبات، والإنكسارات.
أحمد دحبور لم يتوقف عطاءه الرائع على الشعر، فهو ( ناقد) مبدع شعريا، أخذ بيد كثيرين من الشعراء الطالعين، وأنصف كثير من زملائه الشعراء العرب بعامة، والفلسطينيين بخاصة.
لأحمد قراءات قصصية وروائية يجدر أن تصدر في كتب تحفظها وتقدمها للقراء العرب، وبمعرفتي به عن قرب أستطيع القول أن قراءاته النقدية تلك كانت متميزة، وجديرة بالبقاء...
رحل صديقي وأخي ورفيقي الشاعر الكبير أحمد دحبور يوم 8 نيسان، أي في يوم استشهاد البقائد الفلسطيني الكبير عبد القادر الحسيني بطل القسطل.
هل أحسدك يا صديقي أنك رحلت في يوم استشهاد بطل فلسطين الأسطوري عبد القادر الحسيني؟
لعلك الآن تلتقي بهذا البطل العظيم، وبأخوتك شعراء فلسطين، وتتلون على مسامعه روائعكم، فهو، كما تعرف، كان شاعرا ومثقفا وبطلا في الميادين.
أتعرف يا أحمد: مرات كثيرة أنسى أنك رحلت، فتخطر ببالي أسئلة فإذا بي أقول لنفسيك غدا عندما نلتقي- وكنت تحضر صبيحة كل يوم ونحن في مخيم ( اليرموك) لنتجه معا إلى دمشق حيث نعمل في الإعلام الموحّد- سأسأله وأسمع إجاباته.
يبدو أنني سأحمل اسئلتي، وما أكثرها، لأطرحها عليك..إن جمعتنا أقدارنا معا، ولعل حبنا لوطننا فلسطين، وإيماننا بنهوض أمتنا العربية.. وكل ما كتبناه، وخضنا من معارك..يشفع لنا فنلتقي بشهداء فلسطين.
أنت عرفت يا أحمد أن صديقنا الشعر الكبير عز الدين المناصرة قد رحل يوم 5 نيسان..يعني قبل ثلاثة أيّام، وهو ، عن شاء الله، سيخبرك بآخر أخبارنا، وكثير منها لا يسّر، فلا ( متاح) حقيقي لشعبنا وشرفاء أمتنا مع عدونا الصهيوني المجرم سوى ما بشّرنا به شعرا ونثرا: المقاومة الجذرية التي هدفها الوحيد الذي لا محيد عنه: تحرير فلسطين كاملة واحدة غير منقوصة...
نعم يا صديقي، كما قال قائد آمنا بفكره وقيمه، هو جمال عبد الناصر: ما أُخذ بالقوّة لا يسترد بغير القوّة.
لروحك الرحمة والسلام.
شعرك باق في الأفئدة والضمائر، وما كتبته من أناشيد وأغان للعاشقين باق يتردد صداه في سماء فلسطين كلها، وفي مخيمات الشتات، وحيث يتواجد الفلسطينيون في الشتات البعيد، فالشعر والأناشيد الفلسطينية، وكتاباتنا المنتمية ستبقى بوسع سماء فلسطين.. وسماء وطننا العربي الكبير.
صديقي أبويسار: العودة بدون حيفا ليست عودة، فحيفا ستبقى في سواد العيون، كما كتب لها شاعرنا الكبير الحيفاوي حسن البحيري، وفلسطين ستبقى كاملة واحدة عربية، بل قلب الوطن العربي، تماما كما هي في شعرك.
سلاما أبا يسار.
• رحل صديقي الشاعر والكاتب الكبير أحمد دحبور يوم 8 نيسان 2017 في رام الله، ودفن هناك قرب رفيقة عمره أم يسار..رحمهما الله.
عمّان 8 نيسان 2021
أحمد دحبور ولد في حيفا ورحل في 8 نيسان!!
بقلم : رشاد أبوشاور ... 12.04.2021