أحدث الأخبار
الجمعة 22 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
التشيلي أليخاندرو سامبرا في “زهرة الحب”: العشق الضائع !!
بقلم : هاشم شفيق  ... 15.09.2019

لم يصل من تشيلي إلى اللغة العربية إلا القليل من الأدب، وصلنا الشعر بفضل بابلو نيرودا وشهرته المطبقة للآفاق، بينما البلدان المجاورة من أمريكا اللاتينية، فكان يصل بعض الأدب من الأرجنتين وكولومبيا وكوبا والبيرو.
آخر ما جاء من تشيلي هو ذيوع اسم روائي شاب، هو الآن الأكثر سطوعاً وشهرة ومبيعاً في سوق الأدب التشيلي، حيث أخذت شهرته تمتد إلى العالم رويداً رويداً حتى وصلت إلى العربية، روايته الجديدة ” بونساي” التي ترجمت على يد المترجم محمد مصطفى، تحت اسم “زهرة الحب”. إنها رواية قصيرة، وحتى لا يمكن تسميتها بنوفيلا، فهي تنتمي إلى عالم القصة القصيرة، والطويلة نوعاً ما، كتلك القصص التي قرأناها على يد العراقي محمد خضير، أو المصري جمال الغيطاني، أو السوري وليد اخلاصي، أو الفلسطيني غسان كنفاني، وغيرهم من القصاصين العرب البارزين في هذا الحقل الجمالي، ولكن المقدمة التي وضعها المترجم والحرف الكبير الذي نُضِّدت به “زهرة الحب” وصفحة التقديم للرواية من الياباني ياسوناري كاواباتا، والهوامش الملحقة بالنص، رفعت عديد صفحات الكتاب إلى سبع وثمانين صفحة، بينما النص المترجم بحرفه الكبير، بانه يصل بالكاد إلى أقل من سبعين صفحة. فالنوفيلا كما هو معروف، تتخطى صفحاتها المئة صفحة، والرواية كما هو متعارف عليه، أيضاً ينبغي أن يتجاوز عدد صفحاتها المئتي صفحة، لكي تتماسك المشاهد وتُبنى الشخصيات بأناة، ويتوضّح مسار الأحداث، ويبرز على نحو جلي، الخط البياني المرسوم للرواية.
أنّ أثر الشعر يتبدى واضحاً في هذا النص، فسامبرا هو شاعر أولاً، وناقد أدبي وروائي لاحقاً، وعمله المعنون بـ “بونساي” والموسوم بالعربية بـ “زهرة الحب” يتلوّن بملامح شعرية، ويُلقّح بصيغ تجعله يسمو عن الواقع قليلاً ويرتفع، لكي يدخل دائرة من الغموض الشفاف، المُسعف لعمل قصير، مثل هذا العمل، فـ “نار الشعر” الذي يستعير تعبيره سانبرا من الروائي الجنوب أفريقي كويتزي، يضفي على عمله هذا مسحة فريدة من الغرابة، والسديمية، والإبهام المُحبّب للنص، فبونساي هي منمنمة لشجرة، أي شجرة مصغّرة، يصل طولها إلى أربعين سم، يشذّب جذعها ويُقص، ومن ثم يُلف بأسلاك، أي هي هنا ليست زهرة، بل شجرة صغيرة، كما تلقينا ذلك التعريف من المترجم في تقديمه للنص، أما كيف سُمّي العمل بـ “زهرة الحب” فذلك قد يعود إلى رغبة الناشر بوضع هذا العنوان للقارئ العربي .
يذهب نص “زهرة الحب” في سرده المختصر، والبليغ، والمكثف، إلى الكشف عن علاقة حبيّة بين شابين، هما خوليو وإيميليا، وبونساي تبدو هنا استعارة شعرية من هذه الشجرة التي أحبّها خوليو، ويرى سامبرا الروائي أن عمله هذا هو ملخّص لرواية، كما هي بونساي ملخص لشجرة كبيرة، وحين ندخل في عوالم هذا النص الموحي بالشاعرية، سنفاجأ منذ بدء الصفحات الأولى، بموت إيميليا عبر حادث غامض، ولكن الراوي يستمر بعدها في سرد حياة إيميليا المُحبة للمعاشرة، وممارسة الجنس، منذ سن الخامسة عشرة، حينما كانت في سانتياغو دو تشيلي، ولها أصدقاء، كثر بعكس خوليو الجدِّي، الذي لا يملك سوى علاقته بإيميليا التي أخذها الموت فيما بعد، وبعض مخلفات علاقاتها مع الآخرين.
يتطرق الراوي إلى أول علاقة لإيميليا، وهي في الخامسة عشرة، مع الصديق القاتم الذي يبلغ العمر نفسه، وحين كانت تكبر إيميليا كل عام حتى وصلت إلى الثلاثين، ثم ماتت بعد ذلك، بقي الصديق القاتم لا يكبر، ومتوقفاً عند سن الخامسة عشرة، صديقها الثاني كان يتمتع ببشرة بيضاء، محبّاً لتسلق جبال الأنديس، وقيادة الدراجات، والركض، وشرب الزبّادي، الثالث بدا مختلاً، وخوليو كان الرابع، ولقد مارسا الجنس أثناء تحضيرهما للدراسة، في بيت صديقيهما من آل فارغارا، بيد أن خوليو لم يكن أعذر، أو قليل الخبرة، فهو قد تخرج على يد ابنة عمّه إيسيدورا ذات الفخذين الرائعين، وقد تتلمذ كل رجال العائلة، على يديها وقد رعتهم كلهم، ولكنها لم ترغب أن يطلق عليها لقب “عاهرة” فهي كانت تعمل سكرتيرة عند أحد المحامين .
هذان العاشقان إيميليا وخوليو، الطالبان في كلية أدبية، قرآ الأدب بمتعة وشغف وحب كبير، كانا يتكاذبان على بعضهما، حين يختليان ويتحدثان عن الأدب، وحين يصل بهما حب الأدب والمعرفة إلى الأوْج، تسأله إيميليا عما إنْ كان قد قرأ رواية “البحث عن الزمن الضائع” لبروست، وهذه الرواية طويلة وتقع في سبعة أجزاء، وبناؤها الجمالي والفني، والتقنيات التي تنطوي عليها، كانت جديدة، وحديثة، وبارعة من ناحية التكنيك، يجيبها خوليو: بأنه أجل، قد وصل إلى كذا صفحة، هي تقول له إنها قرأتها، ثم يستطردان في القراءات، حتى يصلا إلى كتاب من تأليف بورخيس واثنين آخرَين، بعنوان “مختارات من الأدب الفنتازي” فيعجبا حينها بقصة تتحدث عن عاشقين، أحبا زهرة بونساي، فيتخيلان حينذاك منازل، وخزانات بلا أبواب، ويحلمان بالزهرة، حتى يتوصلا إلى قرار بأن يشترياها، ويستنسخان منها العديد من الزهرات، كي لا يموت حبهما، كما كانت تقول القصة، ولكنهما في حمأة عملية زرع الكثير منها، تضيع الزهرة الأصلية بين الزهرات الأخريات، وهنا سيتشاءم الحبيبان لهذا الأمر الذي قد يؤدي إلى موت حبّهما، وحقاً سيموت الحب، عندما تموت إيميليا في إسبانيا في حادث مبهم .
أثناء فترة حبّهما قرآ الكثير، وطبّقا ما يقرآن في السرير، أو كانا يسميان أصدقاءهما بأسماء شخصيات الروايات المعروفة، ومن هنا انغمسا بقراءة “مدام بوفاري” فإميليا راحت تقلّد إيما الشهوانية التي تحبّ السرير في رواية “مدام بوفاري” وهو أصبح يقلّد شارل الذي يقوم بدور المؤدي في السرير، كانا مولعين ببعضهما، ومولعين أيضاً بالقراءة التي تثير خيالهما أكثر، وتدفعهما للسرير، حتى الشعر قرآه لكي يجدا فيه ضالتهما، فقرآه بصوت عال وجهير، وحين يفرغان من “مدام بوفاري” يدخلان إلى قصص تشيخوف، باحثَين عن المُغري والمُثير والاستثنائي، وهلمّ جرّا .
“لقد عرف كلاهما، كما قالا، أن النهاية قد كتبت بالفعل، أي نهايتهما، نهاية الشابين اليافعين اللذين يقرآن الروايات معاً، واللذين يستيقظان وقد ضلت الكتب طريقها بين شراشف السرير”.
تكشف الرواية عن غلوّ، أو تماد في العلاقات بين الأصدقاء، حيث يشير الراوي المطلع والخبير بخفايا التعاطي الجنسي بين الأصدقاء، إلى أنيتا الصديقة المقرّبة من إيميليا، فهي فتاة بالغة الجمال، رغم امتلائها اللائق بها والمُحبّب، بدانة تمنحها الوسامة، والإثارة والجاذبية، بينما إيميليا جسدها نحيل، وخال من علامات الإغراء، والفتنة الشّهَوية، فتحاول إعارة زوجها أندريس لها، شرط أن تعيده فيما بعد إليها، فهما صديقتان منذ ايام الطفولة، وكانتا تتبادلان القمصان والكتب وشرائط الموسيقى وحتى حمالات الصدر، فلمَ لا تعيرها أيضاً زوجها، فهما واحدة في كل شيء، تتقاسمان البهجة والحياة والرافد الجنسي .
بعد حدوث بعض المشاكل بين أنيتا وزوجها الذي أنجبت منه طفلتين، وبعد وصول كليهما إلى الانفصال، ستغرق في حياة الشرب والسهر والحفلات، من بينها إحدى الحفلات التي ستضرب فيها إيميليا وهي سكرانة اندريس الذي حاول التحرش بها في السيارة، فلكمته إيميليا على فمه وأسالت منه الدماء، جاء ذلك بعد الإيعاز الذي تلقاه من زوجته أنيتا والذي أوردناه آنفاً، وهو أنه من الممكن معاشرة صاحبتها، ومن ثم الرجوع إليها، المهم في الأمر أن الانفصال يحدث وتسافر إيميليا لغرض الدراسة والعمل إلى مدريد، وبعد مرور سنتين ستسافر أنيتا إلى مدريد باحثة عن صديقتها إيميليا، وبعد جهد جهيد في مدريد المخيفة للغريب والوافد الجديد، ستعثر إيميليا على صديقتها، وستنزل عندها، وسترى الحياة غير اللائقة التي تعيشها إيميليا في حي قذر ووسخ، يعج بأناس غريبي الأطوار والنساء البدينات، والفوضى العارمة، في المساحة الضيقة، وعبث وازدحام في المكان، وثمة حزن وتلاش في نظرات ورموش إيميليا .
في هذا العمل الصغير ستظهر شخصية أخرى لافتة، هو الروائي غاسموري، وهو رجل مسن، وله سبع روايات، وهي بمجملها مكتوبة عن تاريخ شيلي الحديث، كل هذه الروايات كان قد قرأها خوليو ولهذا التقاه في إحدى المقاهي ودار حديث بينهما، فقال الروائي إن لديه رواية مكتوبة، وبقي فقط منها كتابة نهايتها، وأردت منك أن تنضِّدها على الحاسوب، وفي حال توصّلي إلى الخاتمة سأتصل بك، وأجرك مقابل العمل محفوظ وستتقاضاه وهو كبير.
كان خوليو يسكن في ساحة ايطاليا، وجارته كانت مثلية الجنس، وتقرأ لروائي كوبي مثلي الجنس، كان خوليو قد قرأه أيضاً وأعجب برواياته، تدعوه ماريا إلى منزلها، وخلال حديثهما يتطرّقان إلى الروائي غاسموري الذي اكتشف خوليو أنه يكتب قصة حبيبته إيميليا، تلك القصة التي سمعها الروائي من الراديو على شكل خبر، كان يلخّص موتها الغامض في مدريد.
أليخاندرو سامبرا: “زهرة الحب”
ترجمة محمد مصطفى
دار الساقي، بيروت 2019
87 صفحة.

1