أحدث الأخبار
الاثنين 25 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
أبكيتني يا سعيد الكفراوي بقصتك ( البغدادية)!!
بقلم :  رشاد أبوشاور ... 10.10.2018

زرت معرض عمّان للكتاب في يوم الافتتاح، الأربعاء 26 أيلول2018، علّي التقي ببعض الأصدقاء، وليس بقصد اقتناء مزيد من الكتب، فلولا حرج أسرتي منّي لرمت بألوف الكتب في الشارع لما سببته لها من عناء أثناء رحيلنا من بيتنا المتداعي إلى بيت أقل ضغطا على نفوسنا، ولكنني، ما أن وقعت نظرة مني على المجموعة القصصية المعنونة بالبغدادية، في الجناح المصري، حتى وجدتني أصافحها بيد صديق مشتاق، فهي مجموعة قصصية للعزيز سعيد الكفراوي، القاص العربي المصري الكبير الأصيل، وهكذا كسرت وعدي لأسرتي بأنني لن أحضر مزيدا من الكتب للتكوّم في البيت آخذة منه مساحة تزيد عن مساحة ما تستغله وتحتاجه الأسرة.
عندما عدت في الليل لاحظت زوجتي أنني أحمل كتابا – صحيح أنه صغير الحجم ورشيق، ولكنه كتاب آخر- فابتسمت بحنق وضيق:
- مزيدا من الكتب..ألم تعدني ؟!
- ولكنه كتاب مهدى من صديقي سعيد الكفراوي، أتريدينني أن أرفض الهدية؟
سكتت غير مقتنعة، أمّا أنا فتمتمت: حياتي هي الكتب يا زوجتي، فتحملوني شويّة، فقد اقترب أوان الرحيل...
في صبيحة هذا اليوم، الجمعة 28 أيلول- يا له من تاريخ: إنه يوم رحيل قائدنا جمال عبد الناصر، والمصادف ليوم انفجار انتفاضة الأقصى عام 2000 - في الصباح الباكر، جلست بين كراتين الكتب التي لم تأخذ مكانها على الأرفف التي تضيق بها، وانهمكت في قراءة أولى قصص المجموعة القصصية ( البغدادية) في طبعتها الثانية الصادرة هذا العام عن منشورات الهيئة المصرية العامة للكتاب، والتي ما أن وصلت إلى جملتها الأخيرة حتى انفجرت في نوبة بكاء أقرب ما يكون للنواح، فهذه القصة هي قصة عربية حزينة غاضبة تجسّد ببراعة جانبا من مأساة حياة العرب في السنوات العجاف التي ضربت العراق..وامتدت فأصابتنا أينما كنّا.
لم أقرأ قصة قصيرة تغوص في جانب من المأساة العراقية، التي هي مأساة لأي كاتب عربي، أو عراقي، بهذه التراجيدية منذ بدأت مأساة العراق في الحرب التي سميّت بحرب الخليج الثانية.
(بطلة ) القصة هي العراقية ( نرمين) التي تلتقي بسارد القصة المصري في القاهرة بعد سنين، والذي لا ينتبه لها، فتسأله وهي تستعيد ملامحه: أنا أعرفك؟! وإذ تلمس حيرته وتردده تضيف: بالتأكيد تقابلنا...
ومن هنا تبدأ القصة، وتتوالى تفاصيلها. نرمين سيدة عراقية استضافت الراوي المصري مع آخرين في قصر أجدادها العريق في بغداد ذات مناسبة ثقافية، ولكن ذاكرة الراوي تستيقظ بعد ارتباك فينهض فجأة ويهتف: نرمين!
سنوات مضت – ويا لها من سنوات عجاف- على ذلك اللقاء المترف ذات مساء عراقي..فإذا بنرمين قد رسم الزمن والأحداث على وجهها خطوطه التي تشي بالهرم والوهن والانكسار في الغربة.
نرمين نزيلة فندق متواضع في القاهرة، غادرت وطنها العراق إلى أميركا لتقيم مع قريبتها، ولكنها هناك شعرت بوطأة الغربة في بلد مجتمعه لا صلات تجمعه، فعادت إلى القاهرة، وهي تعاني المرض وضغط الشعور بالغربة والعزلة في بلاد( العم سام).
يصطحبها راوي القصة إلى قريته الريفية، حيث يستضيفها هناك في بيت العائلة، ليخفف عنها، فهي أيضا غريبة في القاهرة، وفي طريق العودة تنتبه للمقبرة فتطلب منه أن يوقف السيارة، وتهبط وتقرأ الفاتحة، ثم تصعد وهي تردد: مأساة أن لا يعرف الإنسان مكان موته.
في الفندق المتواضع تصعد نرمين الدرجات متعبة، فيلحظ الراوي شدّة وهنها وعجزها، فيعطي رقم هاتفه وعنوانه لموظف الاستعلامات، ويغادر قلقا على سيدة استذكر عزها في قصر أجدادها، وكرمها وأسرتها، وكيف آلت حالها بعد الحرب المدمرة التي عصفت بالعراق وطحنته، ومزّقت حياة أهله.
صبيحة اليوم التالي يتلقى اتصالا من الفندق يطلب منه الحضور، ليتلقى نبأ وفاة السيدة العراقية نرمين.
يقف محتارا ، ولكنه يقرر التوجه للسفارة العراقية، وهناك يشرح الوضع، ويخبر المعنيين بأن العراقية نرمين قد توفيت، وأنه لا بد من دفنها في بلدها – العراق.
لكن الأمر غير ممكن، في الواقع، ومن وجهة نظر موظف السفارة العراقية، إذ لا بد من نقل المرحومة بالطائرة من القاهرة، ثم برا من الأردن، وهذا غير ممكن ( فالجثة) ستتعرض للتلف...
ينتقل إلى السفارة الأمريكية – التي تبدو قلعة كئيبة ثقيلة الوطء على النفس، ومتاهة تشبه متاهاة قصص كافكا، والقصص البوليسية – وهناك يخبره الموظف بأن السيدة ليست مواطنة أمريكية وإن منحت حق الإقامة، وينصحه بدفنها في القاهرة...
يقرر الاتصال بشقيقه في القرية، ويشرح له الأمر، ويطلب منه حفر قبر للسيدة نيفين في مقبرة القرية.
يختم الراوي حكاية موت نيفين العراقية: حين وصلنا القرية روّعت بما أرى. كانت القرية عن بكرة أبيها قد خرجت إلى جسر النهر. عمائم و( طواقي) وتلافيح سوداء تخفق مثل رايات حزينة، وجمع من الفقهاء يرتلون سور القرآن في نشيد ممدود من المهد إلى اللحد. يخرج الفقراء من دورهم لاستقبال الغريبة، وشعرت لحظة كأنها خرجت من بين هؤلاء. تأكدت أنني لم أكن وحيدا، وكذلك هي لم تكن وحيدة، وأن العالم لم يزل عامرا بالخير. ورأيت يوما من أيام الحشر يحمل في شفقه ضوء شمس غاربة، وصوت هؤلاء يكبرون ويرتلون القرآن.
انتظم صف الجنازة، يسبقها القرّاء، وأنا أسير بجانب نعش الغريبة في الطريق إلى دارها الخالدة.
قصة قصيرة تتسع لقول الكثير، قصة عن الغربة، وضياع العّز، وعن نُبل( القرية) وأصالة أهلها، وعن مصر التي تفتح ذراعيها، وتمنح أحضان ترابها لمن ضاقت بهم بلادهم التي يحتلها الأميركان...
التفاصيل في القصة موظفة ببراعة لتنأى بالقصة عن الميلودراما، وترتقي بها إلى المأساة التي تهز النفس وتدفعها للتأمل، وتمتعها بالفن.
قصة قصيرة لكاتب منتم، إنسان، مبدع، فنان..هو الصديق العربي المصري سعيد الكفراوي المخلص لفن القصة القصيرة، وكلمتي هذه لا تعدو أن تكون تحية له، ولفت انتباه لآخر منجز قصصي له..فأنا اخترت أن اكتب عن هذه القصة من بين قصص المجموعة المكتوبة برشاقة وشفافية وعمق إنساني، كما هو شأن الكفراوي في قصصه عادة.
* صدرت الطبعة الثانية عن منشورات الهيئة المصرية العامة للكتاب هذا العام 2018.

1