النخبة ترى من خلال الجدار الزجاجي، شارعاً غارقاً في الجهل والظواهر المرضية المتأصلة، وتفقد بدورها الأمل من كون قد يكون حاضناً لأفكارها ومشاريعها.
في العام 1936، أنتج الفنان السوري الكبير سلامة الأغواني أغنية ترحّب بالوفد السوري العائد من باريس بعد توقيعه على معاهدة الاستقلال، كما سمّيت، والتي نقدها كثيرون، وهلل لها كثيرون، غير أنه لم يكن خافياً أنها توقيع النخبة السورية على قرار تقسيم سوريا إلى أربعة أقسام، لبنان، ولواء إسكندرونة (الذي توافق الفرنسيون مع الأتراك على ضرورة موافقة الوفد السوري على وضعه)، إضافة إلى فلسطين، واعتبار وعد بلفور أمراً نافذاً، أما القسم الرابع والأخير، فلم يكن سوى ما تبقى من سوريا، وهي التي سيعودون بها من باريس، وستنسحب منها فرنسا خلال خمس وعشرين سنة، وستتحكم بالجيش وتقيم قواعد عسكرية، وتهيمن على الاتفاقات الأمنية مع الجوار والعالم الخارجي.
الفبركة الوطنية
أسطوانة سلامة الأغواني القديمة التي رأيتها كان قد كتب عليها: “أسطوانات سودوا ـ مصنوعات سوريا ـ الفبركة الوطنية الوحيدة”، ولم يكن ذلك بلا دلالة كما يبدو، الأغواني كان فناناً ساخراً، ولكنه في تلك المرة، كان يحيي بالفعل رجال الكتلة الوطنية وهم نخبة الشعب السورية، وقد لفتتني جملة من جمل الأغنية التي أداها الأغواني موجهة لهاشم الأتاسي: “هاشم بيك الله محييك، الشعب كلو بين إيديك”، في الوقت الذي ننكر فيه اليوم، على الناس استخدامهم لعبارات من نوع″ القائد الملهم” و”سيد الوطن” الخ.
سواء كان الأغواني يسخر أو لم يكن يسخر، لا يهم، الغرض أن الشعوب التي خرجت من أربعمئة سنة من الحكم العثماني، تلتها مرحلة استعمارية قوية وطاغية، تلتها هياكل كرتونية، شكّلتها الكولنيالية ذاتها، لم ترفع صوتها يوماً بجواب السؤال القديم، سؤال المسألة الشرقية: “هل شعوب الشرق قادرة على حكم نفسها بنفسها؟”، حتى كان العام 2011، حين خرج الشارع يطلب الحكم، فبهتت النخبة، ووجدت نفسها تلاحق نداءات العامة وصرخاتهم.
تلك الفبركة الوطنية، التي أنتجت طبقة قادت الشعب إلى مصائره، بالموافقة على قرارات مصيرية اتخذت، أو تم النقاش حولها، وتحولت إلى حدود وحقوق وواجبات، لم تكن سوى ماكينة إنتاج النخبة، في الكيانات الاقتصادية والعسكرية والدينية والسياسية والثقافية، فوجد الناس أنفسهم أمام تلك النخبة، ورضخوا لها، وصدقوها، دون الحفر في تكوينها، ومن أين جاءت، وما هي الحمولة التي تبشّر بها، وإلى أين تمضي؟ كل تلك الأسئلة غفرها الناس لما سميّت نخبة، في سوريا ومصر والعراق ولبنان والأردن والمشرق بالعموم.
الفبركة الوطنية، إذاً كانت بإرادة العقل العام نفسه، ولم تكن مفروضة فرضاً، ولو شاء الناس، لانقلبوا على تلك النخبة وحاسبوها، غير أن عقلية الرعية التي تدرّب عليها العامّة، عبر القرون، رعية الخليفة والسلطان، استمرت بعد زوال الخليفة والسلطان، لتبقى الرعية تبحث عن راعٍ.
وكان الأجدر بالنخبة الفكرية، التي ظهرت في ذلك الحين، التوقف بأمانة عند هذا التمرير الخطر، للعلاقة ما بين الشارع والنخبة، فهي الأكثر إدراكاً وتسلحاً بالمعارف والعلوم، وكان عليها أن تنير للناس خياراتهم بدلاً عن السكوت على ذلك التنصيب البائس الذي لم يستند سوى إلى شرعية جهالة العامة، لا شرعية تفوّق النخبة.
من ينتج النخبة؟
هبطت النخبة على الناس بالمظلات؟ أم نبتت من بين ظهرانيهم كبقية ظواهر المجتمع؟ الواقع أن ما سمّيت بالنخبة العربية، كانت زرعاً آتى أكله في الأرض التي نبت فيها، وهي من صميم المجتمع، اشتغل شخوصها على ذواتهم، وطوروا أسباب وجودهم، إقطاع مستمر، أو طبقة مثقفة جاءت من الجامعات الغربية والإرساليات التي انتشرت في الشرق، أو عادت من البعثات في أوروبا والعالم الحديث، جالبة معها فكراً منجزاً، أنتجته مجتمعات أخرى، وحاولت من خلال التفاهمات السياسية تطبيقها على مجتمعات الشرق، ولعلّ المسافة الفاصلة بين علم الاجتماع السياسي وبقية العلوم، كفيلة بتمييز حساسية نقل الأفكار والمشاريع التحديثية، فأنت يمكنك نقل علوم الطب والصيدلة والصناعة والزراعة، ولكنك لا تستطيع استعارة علم الاجتماع السياسي في سيدني على سبيل المثال كما هو لتضعه كبرنامج قابل للتشغيل في صحراء مالي أو بادية الشام أو أهوار العراق.
ولكن هذا حصل، وانتشرت بضاعة النخبة العربية، ليس بين الناس، ولكن بين صناع القرار، في الوقت الذي واجهها، ظهور نداء خطير بثه بعض رجال الدين، تحسراً وتألماً على سقوط الخلافة الإسلامية بانهيار الإمبراطورية العثمانية، فكانت بداءات الإسلام السياسي، بالتوازي مع فتح فروع للجمعيات والأحزاب الغربية والشرقية العالمية في بلاد العرب.
الفروع بقيت فروعاً، والإسلام السياسي تابع حسراته، لتتحول إلى سلالة من المتمردين على التحديث، وجر الزمان إلى الوراء باسم استعادة الخلافة، وغطّت هذا طبقات من الأفكار والتزيينات، لكن المشروع بقي كما هو، تثبيت التاريخ عند لحظة إلغاء منصب الخليفة، فنشأ نزاع على التحديث والأصالة، الجديد والقديم، النور والظلام، التقدم والتأخر، المستقبل والسلفية، وكان لكل من المتصارعين أسبابه التي آمن بها.
الغائب الأكبر كان الشارع، وقد كان لمستواه التعليمي والثقافي دور كبير في غيابه، فنحن أمام ملايين العرب، بعضهم سكان مدن، وغالبيتهم الساحقة من سكان الأرياف والبوادي والصحارى، فعن أي ثقافة نتحدث؟ كان أهل المدن يتلقون علومهم في الكتاتيب، ومعظمهم يكتفي بدروسه الأولى والختمة القرآنية، لينطلق إلى سوق العمل والتجارة والبيع والشراء، فتبقى سويته الفكرية، عند ما قاله له، ذات يوم، الملا أو الخوجا الذي لقنه الذكر الحكيم، وما تبقى من معارفه هو علوم الحياة والكسب والعيش والعادات والتقاليد الاجتماعية، أما الأرياف فقد سبحت في الاتباع والطواعية لكل قوي، وآمنت بالولاء لمن يعطيها ويهيمن عليها، وشكّلت سواد الناس في ما بعد في مرحلة التوطين وإنشاء القرى والمدن.
وما الذي يمكن أن تنتج مجتمعات كهذه، أكثر من الفنون الشعبية والمهارات الفردية، لدى شاعر أو مسرحي أو روائي أو رسام، وكلها حالات طريدة شريدة، بقيت خارج التأثير، بفعل تضافر القوى المستفيدة من فرض استمرار الحال على ما هي عليه.
الجدار الزجاجي
تكوّن عبر الوقت، جدارٌ زجاجي يفصل النخبة عن الشارع، تراه ويراها، ويراقب كلٌ منهما الآخر، بينما يمكّن الحكم الذي نشأ على يد النخبة ذاتها في عواصم المشرق، وتحوّل إلى استبداد وحشي بالتحالف مع الكولنيالية المنسحبة شكلاً والباقية من خلال وكلائها، تركت النخبة تنتج النخبة، بينما كان الشارع ينتج ذاته كل مرة، وحرم الاستبداد الطبقة الوسطى من تطوير ذاتها، لتصبح قيادة للناس، بفعل الضغط الكبير الذي مارسه عليها، وبالأخص في خلخلة وهزّ القطاع العام الذي انتمت إليه، فكان كياناً هزيلاً فقيراً المنتمون إليه ضحايا أكثر منهم أصحاب امتيازات، بينما نشأ القطاع الخاص بالتآمر مع الاستبداد وتحت عينه ورعايته، حتى يكون مناخ فسادٍ طارد للنخب، ينتج السّمع والطاعة لا أكثر، وبالطبع المزيد من التورّط في العمل الأسود خارج القوانين.
لا شك أن الاستبداد درّب الشارع على ازدراء النخبة، بإظهار عجزها وعزلتها وانعدام قدرتها على تقديم أي حلول لمشكلات المجتمع، وكان لأقنعته الكثيرة المتعددة أبرز الأثر في اللعب بعقول الناس، فحين تكون النخبة علمانية، يتحوّل المستبد إلى إسلامي حريص على القيم الدينية، وحين تكون النخبة إسلامية يكون الاستبداد علمانياً رافضاً للفكر الديني، وحين تكون يسارية يكون إمبريالياً، وحين تكون ليبرالية يتحوّل إلى اشتراكي، ويتبعه الشارع في نظرته إلى النخب، ويزداد ابتعاداً عنها واحتقاراً لفكرها ويأساً من وعودها، حتى اضطرت بعض النخب إلى وضع يدها بيد عدوّها لتبرّر وجودها أمام الناس، ولكنها بقيت في نظرهم تابعاً ذليلاً للقوي، وليست معلّماً أصيلاً جديراً بصناعة الوعي.
النخبة ترى من خلال الجدار الزجاجي، شارعاً غارقاً في الجهل والظواهر المرضية المتأصلة، وتفقد بدورها الأمل من كون قد يكون حاضناً لأفكارها ومشاريعها، فتذوي تلك الأفكار وتذوب المشاريع، حتى لا يبقى في يد النخبة أي مشروع تقدمه للناس، ويستمر الصمت المتفق عليه بين الأطراف باستمرار الاستقرار السياسي والقبضة الحديدية للاستبداد.
أما الحالات الفردية في الإبداع والعلوم، فتلقفتها المجتمعات المتحضرة، ورعت إنتاجها خارج المكان، وأصبح تأثيرها على مجتمعاتها يكاد يكون معدوماً إلاّ في سوق النخبة، النخبة ذاتها، فجرى تدوير المنتجات وتدويرها، لتعيد إنتاج ذاتها بصور مختلفة عند متلقين متشابهين مكررين، فصار من العبثي السؤال عن حجم تأثير شاعر كبير مثل نزار قباني على الملايين لو لم يستعمل تيمة الحب، أو شاعر ثوري مثل محمود درويش لو لم يستند إلى تيمة فلسطين، حتى ليكاد المرء يسأل: ما هو الإرث الذي تركته النخبة العربية للعامة حتى ما قبل العام 2011؟
النخبة العارية
الهزات العنيفة التي سبقت الربيع العربي، كامب ديفيد، سقوط بيروت واحتلالها، غزو الكويت، حرب الخليج، السلام مع الإسرائيليين، سقوط بغداد واحتلالها، الجار الأميركي الذي حلّ بالقوة في بلد من أكثر بلدان المشرق تأثيراً، ثورة الإعلام والتكنولوجيا، انفتاح السوق، كل هذا لم يكن في صالح النخبة، التي بدأت تخسر بالتدريج متاريس حماياتها التاريخية المألوفة، حتى انفجرت الأمور بعد البوعزيزي، وخرج الناس يطلبون ما يطلبه العامة، لا ما تطلبه النخبة، فطلبوا الخبز والكرامة والحياة الطبيعية، فسقطت آخر أوراق التوت عن النخبة، ووجدت نفسها تبحث عمّا يستر عورتها، إما بتأييد أعمى للشارع، أو برفض كلي لما يطلبه.
ولم تعط النخبة ذاتها فرصة التأني في فهم المعطيات الجديدة التي تسببت في اندفاع الناس إلى الشارع، كافرةً بما قدمّه لها الاستبداد من جهة، وما اعتادت على تسميته بالنخبة من جهة أخرى، سواء في ضفاف المعارضات السياسية أو الطبقة الأكاديمية وبين المفكرين والعلماء، وكان من بين هؤلاء الذي انتفض ضدهم الشارع، طبقة العلماء والمشائخ ورجال الدين وما عرف بالإسلام، ولكن هؤلاء تصرفوا بالمستوى ذاته الذي اتبعته غير الدينيين، فتمهلوا قليلاً، قبل تأييد الثورات، ولكن حين كانوا الأكثر دهاءً في قياس المكاسب، فالتحقوا بصف تأييد الثورة على أن يكونوا قادةً لها، بتطييب دولي غربي، قال عن حركات الشباب العربي إنها ثورات لا رأس لها ولا قيادة، فقرّر أن يكون رأسها هو التيار الإخواني، ليقتل جسد الانتفاضات بقطعه، وكأنه هو الشعب.
علي عبدالرازق والفرصة الضائعة
أضاعت النخبة العربية فرصاً كثيرة لتحلّ محل القوة في قيادة الشارع، وكان من بين تلك الفرص الوقع المدوي الذي أحدثه مشروع علي عبدالرزاق حول الحكم، الحكم الذي يقوم على أصول، لا يمتلكها الاستبداد، وإلا لما استعمل القوة والبطش لتمكين حكمه، ولا تملكها النخبة، وإلا لما وجدت أنها تغرّد في واد بينما يغرّد الشارع في واد آخر، ولو أن أحدهما أو كلاهما أخذ بما قدّمه علي عبدالرازق في كتابه “الإسلام وأصول الحكم” الذي أنكر أن الخلافة من أصول الإسلام، وأنكر كثيراً مما اعتبره سواد العلماء والمفكرين من الثوابت، فحوكم في الثاني عشر من آب ـ أغسطس من العام 1925 في مكتب شيخ الأزهر أبو الفضل الجيزاوي، وصدر بحقه الحكم التالي: “حكمنا نحن شيخ الجامع الأزهر، بإجماع أربعة وعشرين معنا من هيئة كبار العلماء، بإخراج الشيخ على عبد الرازق، أحد علماء الأزهر والقاضي الشرعي بمحكمة المنصورة الشرعية، مؤلف كتاب (الإسلام وأصول الحكم) من زمرة العلماء، ويترتب عليه محو اسم المحكوم عليه من سجلات الجامع الأزهر، والمعاهد الأخرى، وطرده من كل وظيفه، وقطع مرتباته في أيّ جهة كانت، وعدم أهليته للقيام بأيّ وظيفة عمومية دينية كانت أو غير دينية”.
تخطيط ساي سرحان
كان البحث حينها، عن دولة مدنية لجميع الناس، تزيل شوائب الفكر والموروث الثقيل الذي تظهر نتائجه في كل خطوة يقوم بها المجتمع أو مؤسسات الدولة أو حراك النخبة، ولكنّ تواطؤ رجال الدين مع النخبة الفكرية والسياسية وكذلك الشارع، قطع سيرورة التطوّر التي كانت ستختصر الكثير، ومنه، اعتبار نظام الحكم في عهد النبي موضوع غموض أو إبهام أو اضطراب أو نقص وموجبًا للحيرة، اعتبار مهمة النبي كانت بلاغًا للشريعة مجردة عن الحكم والتنفيذ، إنكار إجماع الصحابة على وجوب نصب الإمام وأنه لا بد للأمة ممن يقوم بأمورها في الدين والدنيا، إنكار أن القضاء وظيفة شرعية، واعتبار حكومة أبي بكر والخلفاء الراشدين من بعده كانت لا دينية، وكان هذه التفكيك أخطر ما يمكن أن يقدّم لسلطة الجميع على الجميع، لكن هذا كان ماضياً، ظهرت عواقب تجاهله في السنوات الأربع الماضيات، في صراع الجميع أيضاً على الجميع.
قيادة رأي أم صراع على السلطة؟
وبمرور السنوات الأخيرة على انتفاضة الشارع على النخبة، سواء كانت حاكمة أو معارضة للحكم، اتضح أن مشروع النخب العربية لم يكن سوى مشروع للاستيلاء على السلطة، وبزوال الأنظمة المستبدة، في منعطف تاريخي، ظهرت النخب خاوية الوفاض، ليس لديها ما تقدمه سوى أحاديث المقاهي والصراع في ما بينها، أو مواصلة استرضاء القويّ كما في الماضي مع الاستبداد، ولكن القويّ هذه المرة هو الدول التي دعّمت الثورات، فتراجعت من جديد إلى زاويتها الخافتة، لتلوذ بالأقوياء، عامدة متعمدة تجاهل ما تستمد منه شرعية وجودها وحراكها، الشارع ذاته، متفكرة في السؤال: هل يقودنا الرعاع في شوارع القاهرة أو حلب أو شارع العصافير في تونس أو أزقة صنعاء؟ هل هذا هو المستقبل؟
الواقع أنه لا يمكن للشارع أن يقود نفسه، فهو بحاجة مستمرة لمن يضخ في عروقه المشاريع من فوق، التي تدرس تحت، وتستخلص منه ما يلائمه، وفوق، لا يوجد أحد، يوجد متنازعون على الوجود بلا مظلات فكرية، وبلا رؤى عريضة تتسع لكل الناس، بإمكانها جذب الناس، لقيادة الناس، وليس لاستثمارهم من أجل الحكم.
لتزداد حيرة الشارع والنخبة معاً، أيحكمنا الرعاع؟ تقول النخبة، أيحكمنا هؤلاء المتهتكون أو المتطرفون أو المستبدون أو الفاسدون؟ يقول الشارع، لكنّه صراعٌ بدأ، ولن يتوقف، حتى ينتج كلٌ من المتطاحنين مشروعه، بالحتمية العلمية وليس أقل.
هل سيحكمنا الرعاع: النخبة لم تهبط على الناس بالمظلات!!
بقلم : إبراهيم الجبين ... 22.03.2015
المصدر : العرب