يمر عام كامل منذ انطلاق طوفان الأقصى ضد أعتى قوى الشر العالمي، ووكيله في منطقة الشرق الأوسط إسرائيل، ليرصد أعداد الضحايا والمهجرين والمعتقلين ليس في فلسطين المحتلة فحسب، بل تخطت شراهة نتنياهو إلى دفع الإمبراطورية قوتها العسكرية لتقصف المباني والمدنيين في لبنان، إذ أصبح من الواضح جدا أنّ التحرير له تبعاته المكلفة خاصة بعد اغتيال أمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، وأنّ احتمالات التغيير الجذري أقرب ما يكون في المنطقة والعالم ضرورة حتمية، ضد وهم الحضارة الغربية وقيمها المهيمنة، بل إنّ عاما لم يحمل أصوات الدبابات ولا صرخات المدنيين، ولا أعداد القتلى من الطواقم الطبية والصحافيين، ولا معسكرات الاعتقال الصهيونية المخالفة لأدنى القيم الإنسانية فحسب، بل صورة مخزية لأمـة تنادت منابرها زمن المعتصم لنصرة امرأة في أدنى الأرض، وهي اليوم تبصر مع أنظمتها الوظيفية مجازر الصهيونية بفلسطين ولبنان، ومع استهداف الاحتلال لحسن نصر الله ضمن عملية سهام الشمال، وافتقاد الشارع العربي للمظاهرات المساندة للمسألة الفلسطينية، في وقت تصدح حناجر الشعوب الحرة بمساءلة الإمبراطورية، ومهددة نظام الفصل الصهيوني في المحاكم الدولية، ينبري السؤال حول مصير المقاومة والمخاوف من توسع دائرة الحرب، ومدى قدرة شعوبنا على كسر قيد الانبطاح.
ما زالت المقاومة تنعى قادتها وهي تنظر مشارق الأرض ومغاربها إلى هوية واحدة جامعة لتاريخ أرض ظلت طيلة قرون من الزمن محل أطماع الآخر، كونه استعماريا استيطانيا يلبس ثياب التحضر والإنساني، ليمنح الشتات الخلاص من لعنة الحداثة وسياسات الفوهرر الإقصائية والانتقائية، ومع أنّ الحرب على غزة بلغ دخانها العاصمة بيروت، فإنّ رهان الصهيونية على اجتثاث المقاومة ارتبط بشكل وثيق على تحييد «فكرة الأمة» وبعثها في مرابض داخلية ينهش بعضها بعضا، وتعيث فيها أطراف الامبراطورية بالقهر والخذلان.
حين رابطت المقاومة سنين عدة ضد مشاريع الاستيطان الغربية والتهجير الممنهج لهم، كانوا وما زالوا درع الأمة في مواجهة الفكرة الاستعمارية الصهيونية المفضية إلى تجزئة ما تبقى ليس من الجغرافيا التي قامت على أنقاض التآمر ضد الخلافة العثمانية، بل ضد الهوية الإسلامية المحددة لمفهومية الأمة، ومركزية فلسطين في وجدان العالم الإسلامي لم يمثل يوما «مسألة تحرر وطنية ضد مستعمر» بل صراعا وجوديا للأمة للإطاحة بالاستعمارية الغربية في نسختها الثيوليبرالية، وها نحن نقف على العجز الشعبي تجاه التكالب الدولي ومؤسساته الاستيطانية المتآمرة على الحق في الحياة للفلسطينيين واللبنانيين، وفي التغاضي عن ملاحقة مجرمي حرب الإبادة الجماعية من القادة الإسرائيليين، والتوجهات الديكتاتورية للحكومات الغربية وعنفها الممنهج ضد منتخبيها المناهضين لسياساتها الداعمة للاحتلال.
**من غزة إلى الضاحية الجنوبية يكاد ينقضي عام على خذلان ترامت أطرافه بين موالي الطغاة وأقنان العولمة، وما انفكت الكوفية المقاومة تجوب العالم الحر تسمع صوت النساء والأطفال كيف يبادون بأسلحة غربية، وتواطؤ عربي مخز
من غزة إلى الضاحية الجنوبية يكاد ينقضي عام على خذلان ترامت أطرافه بين موالي الطغاة وأقنان العولمة، وما انفكت الكوفية المقاومة تجوب العالم الحر تسمع صوت النساء والأطفال كيف يبادون بأسلحة غربية، وتواطؤ عربي مخز، وعجز شعبي ارتهنته حكومات هشة تتسابق للاقتتال فيما بينها، فلا هي استطاعت أن تحفظ للمقدسات مكانتها وتاريخها، ولا هي أمسكت جيوشها عن داعمي المقاومة تسومهم سوء العذاب بالقتل والاعتقال، ومع أنّ الدعم الغربي للاحتلال أخذت جوانبه الاستراتيجية والعسكرية ترسم ملامح حرب شاملة في المنطقة، ودعوة ترامب لتوسيع إسرائيل حدودها، فإنّ طوفان الأقصى قد أسقط الأسطورة الصهيونية من برجها العالي واستثنائيتها التاريخية والثقافية، وفضحها كوجه قبيح ومخيف للنيوليبرالية الغربية المهددة للسلام العالمي، لتجعل من راية التحرير شعارا للمقاومة، رافضا ما أفرزته سنوات التيه من المفاوضات والتنازلات والتنسيق الأمني، ومهما تلاحقت الاتهامات والنكسات، من اغتيال وتهجير وقتل ممنهج، فالتاريخ يكتب كيف أنّ مجازر العصابات الصهيونية ووكلاء الغرب في المنطقة قد هجروا الملايين وقتلوا الآلاف في سبيل استرضاء الإمبراطور، وما لجوء المقاومة إلى السابع من أكتوبر إلا أنّها استنفذت خياراتها كلها في فك الحصار عن الشعب الفلسطيني المضطهد في صمت من الحضارة الإنسانية.
حين خرجت الملايين ترفع صوتها للحرية في الميادين والشوارع العربية، كانت أبواق التخوين والتزييل تنكل بالثوار الذين قاموا يحاججون عن شعوبهم ضد بورجوازية حاكمة أنتجت في مختبرات الكولونيالية الغربية، وتعالت شعارات «أنتم شعب ونحن شعب» في جغرافيا الربيع العربي، تنخر ما تبقى من ثورات أرادت أن تسقط أبراج الرمال الباغية، وتستعيد للأمـة نَفَسها التاريخي وروحها الشعبية وهويتها الحضارية، وما جاءت الانتفاضات العربية إلا لترسم للأمة لوحة الانتفاضة الثالثة التي ستعيد المستلب والمحتل للذين هجروا وغيبوا سنوات التيه.
يقف المقاوم اليوم على مشهد مخيف ومرعب للمآسي التي أقحمته فيه الآلة الصهيونية، مبصرا تلك الممارسات العنيفة المخالفة لأدنى قيم الإنسانية والحضارة، لتجد المقاومة نفسها مناهضة لأعتى قوى الشر العالمي بمفرده، ومحاربا الحضارة الغربية الذين أغدقوا على إسرائيل السلاح والحماية، حتى إنّ الحدود العربية ما كانت إلا لعنة على المقاوم وهو يقارع أنظمة الخذلان والتبعية كيف تسارع لاجتثاث بؤر المقاومة الشعبية داخلها، والحاصل مما لا يدع لحر أدنى شك، أنّ الانتفاضات الشعبية الداخلية جسدت القلاقل السياسية والأمنية للاحتلال، ومهمة الأنظمة في تهجير شعوبها بالقتل والاعتقال، لم يكن إلا لصالح الصهيونية في انشاء كيانات هشة وأنظمة سلبية.
كان لزاما أن تنتفض شعوب العالم نصرة للحق الثوري بجميع أشكال الدعم الإنساني والأخلاقي والعسكري، فحجم الأسلحة التي تلقتها المجالس الانتقالية في الربيع العربي، لا يجد المقاوم منها أدنى من واحد بالمئة، مقابل حصار دولي مطبق وخانق.
لم تكن الثورة أرقام موتى بقدر ما منحت أولئك الذين أبادتهم قوى الشر الخلاص الأبدي، فالثائر يمضي قدما واضعا اللبنة الأولى لفكرة التحرير الشامل للأمة، وهو لا ينتظر النصر الفوري بقدر ما يكون له الدور الفعلي في بعث فكرة الخلاص من الهيمنة، ومن يعد للثورة أرقامها المهولة وينكر على المقاومين «الخسائر البشرية والمادية» فإنّه بالكاد يفهم طبيعة الصراع الوجودي للجنس البشري، حتى القذافي حين ضعُف موقفه في الحرب ضد الناتو، اختار أن يقف لآخر رصاصة بيده على أن يفر إلى فنزويلا، فما ظنكم بالذي يمسك «الحق في المقاومة» بنواجذه، ويرابط بأرض تتهافت عليها الثيوليبرالية بشتى وسائل القتل والتهجير، أن يلقي بندقيته طمعا في حفنة تراب يهبها له أوسلو عربي.
عام الخذلان والمقاومة: بين طوفان الأقصى واغتيال نصر الله!!
بقلم : نورالدين قدور رافع ... 03.10.2024
*كاتب جزائري