تعامل معظم الخبراء الغربيين، خاصة من دوائر صنع القرار في أميركا، مع المصالحة الإيرانية - السعودية، وكأنها صاعقة سياسية، وقد تخلط أوراق خريطة السياسة الأميركية، إن لم تكن العالمية، لسببين: أن انتهاء، على الأقل، حدّة النزاع بين الرياض وطهران يُضعِف الادعاءات الأميركية بأن إيران وليست إسرائيل هي العدو الوجودي للعالم العربي. وأن نجاح وساطة بكين يمثل اختراقا دبلوماسيا يجعلها لاعبا مهما، يُضعف الدور الأميركي في المنطقة. حتى إن خبراء أطلقوا تحذيراتٍ إلى واشنطن بضرورة إعادة تأكيد نفوذها وهيمنتها في الشرق الأوسط، وعدم الانسحاب عسكريا وسياسيا من المنطقة، فمنذ سقوط الاتحاد السوفييتي، بالتالي، انهيار العالم ثنائي القطبية، ركّزت الاستراتيجية الأميركية على منع صعود الصين قطبا منافسا لها، وتقويض النفوذ الروسي، منافسها على التأثير في مسار مستقبل أوروبا، وخشية من تحالف صيني - روسي يهدم نظام القطب الواحد.
ولكن الأمور لم تسر تماما كما تريد أميركا، فمحاولات تطويق روسيا وإحاطتها بقواعد حلف الناتو على حدوده، أدّت إلى تفجير الوضع، وردّت موسكو بالهجوم على أوكرانيا، وإن كانت الخطوة الروسية خرقا للقانون الدولي واعتداءً على الشعب الأوكراني، وأضعفت روسيا داخليا. لكن الصورة الكبرى الناتجة عن الصراع بين واشنطن وموسكو تحدّت نظام القطب الواحد، خصوصا وأن الصين دعمت روسيا بطريقة ناعمة، ولكن شديدة الوضوح.
ومن منظور أميركي، وإن تغلغلت الصين في الاقتصاد العالمي في قارّات وبلدان، منها حليفة لأميركا، إلا أن واشنطن كانت تعتقد أنها تُمسك بخيوط الدبلوماسية في المنطقة، خصوصا وأن من أهم مرتكزاتها توسيع التطبيع التحالفي بين إسرائيل والدول العربية، خاصة في الخليج، تحت شعار حماية دول الخليج من التهديد الإيراني، فواشنطن تحتاج، إعلاميا وسياسيا، إنهاء العداء العربي لإسرائيل، وتثبيت الأخيرة صديقا وحليفا للعرب ضد "الغول الإيراني".
نشطت، في الآونة الأخيرة، كل مراكز الحكم الإسرائيلية، وبالطبع رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو، في التركيز على الخطر النووي الإيراني، بشكل لافتٍ ومُرَكّز، هدفت في جزء منه إلى تخويف دول الخليج، وفي الوقت نفسه، إلى لفت الأنظار عن تصاعد المجازر الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، إضافة إلى أن من غير المسموح أصلا، في العرف الإسرائيلي - الأميركي، أن تمتلك دولة في المنطقة مفاعلات نووية مهمة، باستثناء إسرائيل.
بيّنت في مقالٍ في "العربي الجديد" في 15/1/2023، أهمية تركيز إسرائيل على إنجاز تطبيع رسمي وتحالف مع السعودية، فنتنياهو، وأغلب المسؤولين الأميركيين، يعتبرون أنّ اتفاقا سعوديا - إسرائيليا علنياً هو مفتاح انهيار باقي العواصم العربية، وبالتالي انضمامها إلى الاتفاقيات الإبراهيمية التي قادتها الإمارات عام 2020، لذا؛ يُضعف التقارب السعودي - الإيراني أحد أهم أسلحة إسرائيل الدعائية، بأنّ توطيد العلاقة معها، تمهيدا لإنشاء حلف عسكري عربي - إسرائيلي، مفتاح حماية الخليج العربي من التمدّد الإيراني.
لا ننكر تدخّل طهران في المنطقة، ولا إصرارها على التعامل مع العالم العربي بوصفها (إيران) قوة إقليمية متنفّذة تسعى إلى التمدّد وفرض سيطرتها، ونعي خطاياها، لكن هناك فرق بين رؤية ترفض التدخل الإيراني، وتطالب طهران بالتعامل بندّية مع العالم العربي، والدخول والانقياد إلى الأجندة الأميركية - الصهيونية، أي أن تصبح الحكومات العربية أدواتٍ في مخطط يعادي مصلحة الشعوب والقضية الفلسطينية.
المطلوب أن تتعامل الدول العربية لحماية مصالح الشعوب وترفض التدخّل، وألا تتهافت على التطبيع مع إسرائيل، وتدخل في الجوقة الأميركية ـ الصهيونية. لكن انقسام العالم العربي، وسعي الأنظمة إلى إرضاء واشنطن، يجعلها ضعيفة، لا تستطيع أن تحمي نفسها، فكيف الحال بشعوبٍ محرومة من حق المواطنة والحريات الأساسية؟! بناء عليه، قد يكون التقارب بين العربية السعودية وإيران، مع الاعتراف بخروق حقوق الإنسان في البلدين، بادرةً تخفّف العداء وتحدّ من إشعال نار فتن شيعية - سنية، خصوصا وأن خبراء غربيين كثيرين وحكومات عديدة يكادون يستمتعون بفرض تحليل يعزو الصراعات السياسية في المنطقة إلى استمرار نزاع سني شيعي، بدأ منذ قرون، بوصفه مسبّبا لتطورات وأحداث، لتبرير سياسات أميركا وحروبها في المنطقة.
لكن دور الصين في التقارب السعودي - الإيراني، هو ما أطلق تحذيرات بعض الخبراء من "خرق دبلوماسي صيني"، ومن أفول النفوذ الأميركي، فالأمور في واشنطن تُحسَب على أساس احتساب الفعل التراكمي لبروز دور الصين في قضيةٍ محورية، مثل مصالحة سعودية إيرانية، فمن منظور ضرورة الحفاظ على سيطرة القطب الواحد، الذي تضعضع أصلا، هو تطوّر كان لا بد من الانتباه إليه، ومنعه، وهذا لم يحدُث.
قد يكون دخول الصين، كما تراه دوائر صنع القرار الغربية والأميركية، مبالغا به، لكنها خطوة تتعارض مع السياسة الأميركية، وهذا الأهم. لا يعني ذلك توقع تأييد صيني لإيران وحثها على تهديد إسرائيل، فالصين حصرت دورها في تأييد قرارات الأمم المتحدة لدعم حقوق الشعب الفلسطيني، الذي أصبح إنجازا يجب علينا الحفاظ عليه، بالرغم من وعينا بتقاربٍ متسارعٍ بين الدولة الصهيونية والصين التي ارتفعت قيمة استثماراتها في إسرائيل من 20 مليون دولار في عام 2001 إلى أكثر من مائتي مليون دولار في عقدين، ولا يعني أن الصين ستضغط لمنع دخول السعودية في اتفاق تطبيع مع تل أبيب، لكن التقارب الإيراني السعودي، بشرط استمراره، يقوّض حجّة الاحتماء بإسرائيل تحت رعاية أميركية من خطر طهران على دول الخليج.
الوقت مبكّر، لكن ردود فعل بعض الدوائر الغربية المبالغ فيها، خاصة التخوّف من دعم صيني لطهران في مواجهة محاولة واشنطن إنهاء المشروع النووي الإيراني هو سيناريو أقلق الغربيين بمجرّد الإعلان عن نجاح الوساطة الصينية.. فالحسابات الرسمية الغربية ترصد وتحلل، ومن المتوقع أن تتحرّك واشنطن إلى الرياض، لمحاولة تخفيف تأثير المصالحة على الموقف السعودي من طهران، وتحدّيها ولو بدون تخطيط للرؤية الأميركية لِما يجب أن تكون عليه العلاقات في المنطقة. وقد أخذ قلة من الخبراء موقفا أكثر اتّزانا مفاده بأن الحفاظ على السلام في المنطقة يحتاج تخفيف التوتر في الخليج، ولا يعني ذلك عدم مواجهة طهران بتجاوزاتها في العالم العربي، لكن ليس كأدواتٍ تتحرّك بأوامر أميركية، فيما نغرق في مستنقع التطبيع مع إسرائيل، بالرغم من مذابح المستوطنين والجيش الصهيوني اليومية ضد الفلسطينيين.
لا تلتقط معظم الأنظمة العربية اللحظة للسعي إلى علاقات متوازنة تُمكّنها من توسيع هامش المناورة في مواجهة الضغوط الصهيونية، فيما يستمر الشعب الفلسطيني في المقاومة، غير مكترثٍ بالأحداث من حوله، فالصين تعمل لمصالحها، وكذلك إيران والسعودية، لكن تخفيف بثّ الفرقة الشيعية - السنية المفتعلة، من إشعال نار التقسيم السنّي والشيعي، وإضعاف السردية الأميركية الإسرائيلية التي تروّج حلفا أمنيا عسكريا إسرائيليا - أميركيا، في حد ذاته مهم، إذا انتقل النزاع العربي الخليجي مع إيران إلى حوار صريح، أو حتى مفاوضات، وإن كان الوقت مبكّرا للحكم، إذ ما زالت الأنظمة تتحرّك في الفلك الأميركي وتقيّد نفسها والشعوب، لأنها لا تفهم دور شعب أو مواطن ولا تأبه به.
صاعقة التقارب السعودي الإيراني!!
بقلم : لميس أندوني ... 12.03.2023