أحدث الأخبار
الأربعاء 04 كانون أول/ديسمبر 2024
إفلاسٌ في بورصة الثقة في وسائل الإعلام التقليدي… من أين سيأتي الجمهور بمعلوماته إذن؟
بقلم : ندى حطيط ... 19.08.2022

لا يمحض الجمهور في الولايات المتحدة – والغرب عموماً – وسائل الإعلام من صحافة مكتوبة أو تلفزيونيّة الكثير من الثّقة، وتفتقد حتى كبريات الأسماء من بين الصحف والمحطات إلى المصداقيّة بشكل مخجل، لا سيّما بعد تكرر فضائح نشر (الأخبار الكاذبة) وانخراط أغلبها في نشر وتعميم «البروبوغاندا»، التي تخدم مصالح القلّة النافذة على حساب الأغلبيّة، كما انشغالها الدائم بالتّفاهات ومحض الإثارة على حساب القضايا الأساسية، التي تعني الناس، وبالضدّ من دورها النّظري كسلطة رابعة في الديمقراطيات الغربيّة رقيبة على عمل السلطات الثلاث التشريعيّة والتنفيذيّة والقضائيّة. على أنّ منسوب الثقة المتدني هذا وصل، فيما تظهره بيانات صدرت مؤخراً، إلى مستويات قياسيّة من التراجع انحدر إليها وبشكل خاص منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا قبل ستة أشهر.
وبحسب المؤشرات التي تنشرها بشكل دوري مؤسسة «غالوب» المتخصصة حول الثقة بوسائل الإعلام فإن الجمهور الأمريكيّ وبأغلبيّة ساحقة لا يثق اليوم بوسائل إعلامه لنقل الأخبار بشكل واف ودقيق وعادل. وتصنّف نسبة قليلة جداً منه مراسلي الصحف والمحطات التلفزيونيّة بأنّهم «أخلاقيّون» أو «صادقون في تأدية عملهم».
وقال الأمريكيون في أحدث استطلاع جرى في يونيو/ حزيران الماضي إن 16 في المئة منهم فقط يعتقدون بتمتع الصحف بقدر معقول من المصداقيّة، فيما تدنت هذه النسبة إلى 11 في المئة بما يتعلّق بالمحطات التلفزيونيّة.
وتراجعت كلتا القراءتين بخمس نقاط مقارنة بأرقام الماضي، وهي الأدنى على الإطلاق منذ بدء عمليّة تتبع مستويات الثقة في الصحف (1973) والتلفزيونات (1993).
وانخفضت تصنيفات ثلاثة أرباع أسماء بيوتات الإعلام الجماهيري، فيما لم يتمكن الربع الباقي من تحقيق أيّ تحسن.
وفي المقابل فإن 46 في المئة من المستطلعين قالوا إنّهم لا يثقون أبداً بأخبار الصحف و35 في المئة لديهم ثقة ضئيلة جدا أو معدومة على الإطلاق في الأخبار التلفزيونية. وقد يختلف الأمر جزئيّاً بين جمهور المعسكرات الثلاث التي ينقسم إليها الجمهور الأمريكي في السياسة: جمهوريّون وديمقراطيّون ومستقلون، لكن الاتجاه العام لمستويات الثقة سلبيّ. وبشكل عام يبدو جمهور الحزب الديمقراطيّ قادراً على الثقة بوسائل الإعلام بشكل أكبر من نظرائهم أنصار الحزب الجمهوري، أو المستقلين، لكن الجميع في أدنى مستوياتهم التاريخيّة لناحية الثقة في وسائل الإعلام.
ومن بين المؤسسات والمهن بحسب ثقة الجمهور الأمريكي بها تذيّلت دور الأخبار والمحطات التلفزيونية القوائم، ولم يتفوّق عليها في انعدام الثقة وغياب المصداقيّة سوى مؤسسة الكونغرس (البرلمان)، مما ينعكس سلباً على مجمل الطبقة الحاكمة، بسياسيها ومثقفيها، ويعبّر عن الأزمة الحادّة التي تشدّ بتلابيب العمليّة الديمقراطيّة بمجملها.
ما ينطبق على بورصة الثقة في وسائل الإعلام الأمريكيّة له صدى مماثل في دول غربيّة أخرى من بريطانيا إلى ألمانيا ومن فرنسا إيطاليا.
وتقول أرقام «أوفكوم» المعنية بمراقبة ومتابعة وسائل الإعلام في بريطانيا مثلاً إن نسباً أقل من الجمهور تتابع نشرات الأخبار التقليديّة على محطات التلفزيون الرئيسيّة في البلاد، وفقدت حتى تلك الشعبيّة المؤقتة التي حصلت عليها خلال مرحلة جائحة كوفيد 19. واستأنفت مجدداً مسيرتها نحو فقدان المزيد من المتابعين، ذلك على الرّغم من أن نشرات الأخبار على «بي بي سي» – وهي هيئة وطنيّة عامّة – ما زالت تتمتع بثقة عديدين ممن يشاهدونها وأكثر من قنوات القطاع الخاص المنافسة.وتبدو الأمور أسوأ بما لا يقاس بالنسبة للصحف المطبوعة التي فقدت القراء والثقة معاً خلال الوقت نفسه.
«الديناصورات» المنقرضة والجمهور
هذه الاتجاهات قد تدفع للتساؤل في ما إذا أدى هذا الفشل الذريع لوسائل الإعلام التقليدي الغربيّة في الحصول على ثقة جمهورها المستهدف إلى تراجع عام في فضول ذلك الجمهور لمعرفة ما يدور في مجتمعه أو فقدانه الاهتمام بمتابعة الأخبار عموماً. والواقع أن ذلك لم يحصل أبداً، ويبدو أن الأغلبيّة انتقلت بكل ثقلها لاستقصاء أخبارها من المصادر الإعلاميّة البديلة – على تنوع أشكالها – وبخاصة تلك المتوفرة عبر الإنترنت.
ويتعاظم هذا التوجه بين أبناء الجيل الشاب الجديد الذي بات يتعامل مع الأشكال التقليدية للإعلام كديناصورات منقرضة.
وتقول الدراسة الأحدث لمؤسسة «أوفكوم» البريطانيّة عن استهلاك المواد الإخبارية إن الأغلبيّة الساحقة من الشبان صغار السن تأخذ أخبارها من مواقع التواصل الاجتماعي.
وقال 29 في المئة منهم إن تطبيق انستغرام مصدرهم الرئيس لمتابعة الأخبار، فيما قال 28 في المئة إنّهم يعتمدون لذلك على تطبيق «تيك توك»، ونسبة مشابهة على تطبيق «يو تيوب»، فيما تراجع «فيسبوك» إلى مرتبة تالية.
وبالكاد يقرأ أيّ من أفراد هذا الجيل الصحف أو يتابع النشرات والبرامج الإخباريّة على محطات التلفزيون التقليديّة.
وفقدت أسماء كبرى مثل «بي بي سي» الأولى و»بي بي سي» الثانية مكانة متقدمّة كانت تتمتع بها قبل سنوات قليلة كمصادر رئيسية للأخبار، وتراجعت نسب متابعتها بين الشبان بأكثر من النصف مقارنة بأرقام 2017، أي قبل خمس سنوات فقط. فيما تفوّق عدد مستخدمي «تيك توك» خلال عامين فقط على عدد متابعي شبكة «سكاي نيوز» مثلاً – المحطة التلفزيونية الثانية في المملكة المتحدة – وهو الآن الأسرع نمواً كمصدر للأخبار في أوساط فئة الشبان الأصغر سنّاً (16 – 24 عاماً).
ويدرك الجيل الجديد أن مصداقيّة كثير مما ينشر على وسائل التواصل الاجتماعي محدودة للغاية، ولا يمكن الوثوق بها، لكنّهم دائماً وفق دراسة «أوفكوم» الأحدث (2022) يتبعون استراتيجيّة الاطلاع على عدّة مصادر وروايات حول الحدث الواحد قبل تكوين رأي، وهو أمر قريب وسهل على تطبيقات التواصل الاجتماعي، لكنّه بالضرورة يفتح الباب مشرعاً أمام تسرّب الأفكار المتطرفة والشاذة إليهم.
ما العمل؟ لا وقت للبكاء على الحليب المسكوب،
وبينما يحاول البعض تفسير مجمل هذه الاتجاهات السلبيّة في ما يتعلّق باتجاهات الجمهور تجاه وسائل الإعلام التقليدية – من خلال ربطها بتحوّل تكنولوجي عام نحو توسع استخدام الانترنت والهواتف الذكيّة على حساب الأدوات القديمة من صحف وتلفزيون – إلا أن هذا لا ينقص بأي شكل من دور المحتوى الأقل جودة في تكثيف هذا التحوّل وتعظيمه.
وهناك أمثلة عديدة موثقة لنماذج خالفت تيار التراجع المستمر هذا عبر تقديم محتوى موثوق وذي صلة بقضايا الناس.
ونشرت «واشنطن بوست» مؤخراً تقريراً عن صحيفة محليّة مطبوعة صدرت حديثاً في بلدة صغيرة ونجحت في وقت قصير من بناء قاعدة ممتازة من الاشتراكات مرتفعة الثمن بفضل طبيعة المحتوى ذي الصلة، في وقت بدا أن فكرة الصحف المحليّة قد عفا عليها الزمن، بعدما أفلس معظمها خلال العقد الأخير وتوقف عن الصدور.
وسيكون لهذه الاتجاهات انعكاسات طويلة المدى، دون شك، على دخول تلك المؤسسات، وستدفع بعضها إلى حافة الإفلاس.
وليس هنالك من بديل لها من إعادة صياغة دورها الكليّ في إطار الطرق الجديدة، التي يحصل من خلالها الجيل الجديد على أخباره. لكن الأهم والأصعب سيظل العمل على بناء نسق جديد من المصداقيّة لاستعادة ثقة الجمهور، وتلك مهمة مشكوك في قدرة أغلب بيوتات الأخبار والمحطات التلفزيونيّة على القيام بها أقلّه في ظل تشابك المصالح الحالي القائم بين الصحافة والنخبة الثريّة، ما لم تصل السكين الداروينية إلى العنق، وتحسم معركة البقاء للأقدر منها على التغيير.
عربيّاً، الآتي ليس بالأفضل، إنها أوقات صعبة
ليس بالأمر اليسير توفر معلومات دقيقة بشأن ثقة الجمهور بوسائل الإعلام العربيّة المكتوبة أو المرئيّة، لكن الخشية أنها في وضع أسوأ مقارنة بشقيقاتها الغربيّات، لا فرق بين إعلام حكوميّ أو خاص. ولذلك لا يُستبعد أن تتسارع الاتجاهات التي لحظناها في الغرب لناحية تعامل الأجيال الجديدة مع مصادر الأخبار وانتقالها المتسارع إلى تطبيقات التواصل الاجتماعي بكل ما يحمله ذلك من مخاطر، بالنّظر إلى انعدام السّيطرة شبه الكليّ على المحتوى المتوفر على تلك المنصات.
إنها أوقات صعبة للجميع. وقد شاركت صحفنا وتلفزيوناتنا في جلبها إلينا، ولذا لن تجد بين الجمهور من يرثيها عند موتها المحتّم.

1