أحدث الأخبار
السبت 23 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
"بائعة الثقاب" العربية!!
بقلم : لميس أندوني ... 10.07.2022

يتذكّر كثيرون منا قصة الطفلة بائعة الثقاب، التي تجول ليلة العيد، تغالب الجوع وترتجف من البرد، وتطلّ من خلال الشبابيك المغبشة على احتفالاتٍ حول موائد الطعام عائلات وأسر يدفئها الحب ووقود النار، تشتهي عيش لحظة فرح وأمان، لا تستطيع حتى الحلم بها، فتمضي في طريقها تعرض أعواد الثقاب على المارّة، ومنهم من يرأف بها، ومنهم من لا يراها أصلا، فالمُهَمش غير مرئي لأكثرنا، تذرف دموعا صامتة في بحثٍ عن ناصية الحلم.
العالم تغيّر، لكن ليس إلى الأفضل، وعالمنا العربي يعيش أعياده ويحتفي بها متجاهلا أن أعداد من شُرّدوا من أوطانه تتزايد، وبسرعة، ليس من تداعيات نظامٍ اقتصاديٍّ يطحن الكادحين ويزيدهم فقرا، بل من ويلات حروبٍ لم ترحم، فلا نستطيع الغناء ليَمنٍ سعيد، يعاني أطفاله من أهوال الحرب والجوع والأوبئة، فيما تشرّد سوريون وعراقيون قبلهم، والمحظوظ من نجا من الموت..
كنا نئن من جرح نكبةٍ فلسطينية، فأصبحنا نعيش جروحات نكباتٍ عربية، أطفال فقدوا ويفقدون طفولتهم، فيما تتحارب دول وتتصالح، يبقى الضحية حالة منسية، نلتفت إليها بشفقةٍ أحيانا.. طفل فلسطيني يفقد عائلته التي تقضي تحت ركام بيتٍ دمّرته الصواريخ الإسرائيلية. طفل يموت من الكوليرا أو بأوبئة جديدة، وقديمة في اليمن، وطفل سوري ينجو من أتون الموت، ليقطن في مخيمات برد وجوع، وإن كان فقدان البيت وحده ليس مصيبة، فالتهجير والهجرة القسرية فقدان أمن وأمان، ورحلة عذابٍ إلى مستقبل مجهول.
في كل ليلة عيد، نتحدث عن فرحة العيد، ويحاول بعضنا أن يضيء شمعة أملٍ هنا أو هناك من تطوّع، وهؤلاء الأعظم بيننا، تطوّع ليس كسبا لشعبية اللايكات على فيسبوك، أو تويتر، أو أنستغرام، وما شابه، بل التزام صادق برسم ابتسامةٍ على وجوه الأطفال، ليس خلال فترة العيد فقط، وإنما طوال العام، فالمهمة كبيرة. فما نراه في فلسطين واليمن ومدن سورية ومخيمات لجوء هي حالة حرمان جمعي، نتيجة سياسات ومصالح حكام ودول، تبذّر أموالا طائلة على حفلات مشاريع، لتعظيم قائدٍ هنا أو هناك، وينسى من بدأ بضرب المدافع فعلته، ويحتفي في إجازة في كل عيد، فالضحايا بالنسبة لهؤلاء ليسوا أكثر من نتيجةٍ حتميةٍ طبيعيةٍ، وهم ليسوا أكثر من "خسائر جانبية"، وفقا لوصف الضحايا الذي أتحفتنا به قيادة الجيش الأميركي، فلا إحساس بذنب أو مسؤولية، فالواقعية عند هؤلاء هي عدم النظر إلى الوراء وما خلفته وما تخلفه أفعالهم وقراراتهم من مصائب.
هل فكّر أحد من أصحاب القرار في الدول ما الذي تفعله قراراتهم بحياة طفل؟ وما معنى الجوع والمرض؟ أم أنهم يرون أطفالهم استثناء؟ نستطيع التحدث باستفاضة عما تفعله الدولة الصهيونية بأطفال فلسطين من قتل وجرح وتدمير حياة، فأطفال فلسطين، في نظر الصهاينة، يشكّلون تهديدا وجوديا باستمرار؛ الهوية الفلسطينية للأرض ونقيض لمشروعه الصهيوني، حتى قبل أن يعي أي طفل أنه تحت احتلال، وفي خطر من عدو يريد القضاء عليه، فالطفل الفلسطيني هو مشروع تهديد ديمغرافي لدولة عنصرية تمارس التطهير العرقي هدفا ممنهجا، فلا يهمهم زجّ الأطفال في السجون، ولا صحتهم النفسية والجسدية، بل ويتعمّد جيشهم تشويه الشباب الفلسطيني، والتسبّب بإعاقة دائمة، فكم عيد يمر وما يزال فلسطيني، إذا نجا من الموت، عرضةً لإعاقة جسدية، فمشهد الشباب مبتوري الأطراف أو طرف واحد أصبح شبه عاديٍّ في غزة.
روح الصمود والتحدّي تجعل الفلسطيني الذي يعيش في ظروفٍ غير طبيعية، يحاول وينجح في الانتصار على إعاقته، بل هم يقفون بشموخٍ تجعلهم عمالقة، حتى إنّ صورهم تمنحنا قوة وأملا في المستقبل. ولكن؛ كم فلسطينيا أو يمنيا، أو عراقيا أو ليبيا أو سودانيا أو سوريا، لا يلقى العون الطبي اللازم ليعيش حياة طبيعية، بعد إصابته بإعاقة جسدية، جرّاء تعذيب أو طلقات رشاش أو شظايا صاروخ؟ يحلم هؤلاء بكرسيٍّ متحرّك أو بتوفير الرعاية في عالم وصلت فيه الاختراعات إلى تصنيع يد آلية؟ لكننا نمضي، وهم كل عيد يحلمون، فيما يتم تبديد أموال عربية هباءً من دون حدود.
ماذا يمنع أن تكون هناك صناديق حقيقية لبعث الحياة مجدّدا لدى أطفال الحروب؟ لا أتحدّث عن تبرّعات خيرية، وإنما أموال تُصرف وفق خطة للقضاء على الجوع والأوبئة في اليمن مثلا.. بدل أن تصرف المليارات على أسلحة دمار يبيعها الغرب للحكومات لقتل عربٍ بأموال العرب، ويجري تجربة أسلحة جديدة بكل وحشية وبرود على أجساد الشعوب .. فكيف قبلنا أن نكون مختبرا لمصانع الأسلحة الكبرى، فيما يمضي الحكام راضين مَرْضيين، وكأن شيئا لا يحدُث؟ فليس هناك ماض لجرائم الحرب، بل هي حاضر ومستقبل لمئات الألوف من العرب، فالحرب يتبعها الجوع والعطش والمرض، والحرب تخلّف أحزانا وأيتاما وأرامل وأمهاتٍ مفجوعات. صانعو الحروب يشاهدون أفلام معارك وحروب قد يتعاطفون مع أبطالها ومآسيها، لكنهم ينظرون إلى ضحايا حروبهم على أنهم ليسوا أكثر من "أضرار جانبية".
الحروب وتبعاتها تحرم الملايين منا بهجة الأعياد، وحتى أطفال العالم العربي الغنيّ بالنفط والغاز، في البلدان التي لم تُبتلَ بالحروب مهدّدون بفقر لا مبرّر له، فأعياد هذا العام تكاد تفقد معناها عند شعوبٍ عربية تنوء تحت وطأة الخوف والجوع، فلبنان الفرح أعلن إفلاسه والمواطن العربي يخشى من فقد قوت يومه، من تونس والسودان إلى مصر إلى كل بلاد الشام.
خصصت مجلة إيكونوميست عددا خاصا، يحذر من اضطرابات اجتماعية وسياسية، هي ثورات جوع، أو انفجارات ضد القمع والحرمان، بعض الدول ستأخذ إجراءات لتخفيف الأزمات منعا من انهيار على أنظمة حكمها، ولكن هي حلول ترحيل أزمات، فصرخة "عيش .. حرية .. عدالة اجتماعية" لم تُسمع، وحتى من انخرط في الحكم بعد الانتفاضات العربية انشغل بتثبيت السلطة والمنافسة على مكاسبها، وإبقاء صرخة الشعوب معلقة في الهواء.
مع هذا، ما نزال نشاهد مظاهر فرح يطل من وسط الدمار، فالروح الإنسانية متمسّكة ومتثبتة بالحكاية، لكن الفرح في عيون أطفال البؤس، وإن كان حقيقيا، لا يلغي الواقع الأليم، لأن هناك من سرق مستقبل الآلاف، إن لم يكن مئات الألوف. صحيحٌ أن الإنسان يقاتل من أجل مستقبله، وأن الأمل باقٍ، ولكن ذلك يجب أن لا يجعلنا نتخلّى عن مسؤوليتنا، هناك رحمة مفقودة، فمصالح الأنظمة تأتي أولا وأخيرا، ولا يوجد اعتبار لمصالح أخرى، فعيون بائعة الثقاب، ونظرات طفل يديننا ببراءته من فلسطين إلى اليمن، لا يراها الظالمون، لكنها تلاحقهم، وأشدّ ما يقهر أنهم يعتقدون أن صلواتهم ستغسل خطاياهم.يذكّرنا عيد الأضحى بالتضحية وممارسة الرحمة، وليس بقولها كلمةً جوفاء، فالتبرّعات لا تلغي سياسات حكومات امتهنت حرمان الناس من فرص عمل وسرقة اللقمة من فم الفقير، فمن يسرق أمان شعب فقد الرحمة. ولكن في العيد، في كل عيد، يبقى علينا أن لا نفقد الرحمة، وألا نشارك في سرقة قوت الشعوب وأمانها، وممارسة التضحية والرحمة تفرض علينا عدم السكوت على سياسات الإفقار والتجويع ونشر الحروب وتشريد الشعوب ومهادنة الظالم والتواطؤ مع المحتلّ، فالضغط على الحكومات لتحمّل مسؤوليتها ينقذ المظلوم.

1