النزاعات على وراثة العروش قصصٌ تتجدّد في تاريخ العائلات الملكية منذ عصور، وقد لا توجد في التاريخ عائلة مالكة خلت من قصص التآمر والقتل والتسميم والتعذيب، ومع أنه أقلّ دراماتيكيةً في الأردن، وبالتأكيد ليس نزاعا دمويا، إلا أنه أحدث انقساما عموديا في مجتمع جاهز للتقسيمات والفرز، فالأزمة السياسية الاجتماعية عميقة، وأي خلافٍ يولّد شروخا قد تكون آنيةً، وبعضها قد يحفِر عميقا، مهدّدا السلم الأهلي لمستقبل الأردن.
منذ تفجير ما سمّيت "قضية الفتنة"، واتهام الملك عبدالله الثاني بن الحسين أخاه غير الشقيق حمزة بالتآمر عليه، شهدنا اصطفافاتٍ علنية، قد يكون أغلبها تعبيرا عن عدم الرضى من سياسات القصر، وليس بالضرورة تأييدا للأمير حمزة، ظهرت بقوة عشيّة محاكمة من اتهموا بأنهم شركاء في المؤامرة، ثم بدأت مظاهرها العلنية تخفّ، إلا أن رسالة الملك إلى الأردنيين الخميس الماضي، غير المسبوقة في تفاصيلها ولهجتها في تاريخ الأردن، والتي تفيد بوضع أخيه تحت الإقامة الجبرية وتقييد اتصالاته، متهما إياه بتجاوز حدوده ومحاولة إثارة الفوضى، أعادت الاصطفافات إلى السطح.
عنوان الخلاف بين الشقيقين واضح؛ فالملك يريد تأمين وراثة ابنه الأمير حسين للعرش الهاشمي، فيما يرفض الأمير حمزة وبإصرار التخلي عما يراه حقه بوراثة العرش، وفقا لرغبة والده الراحل الذي نقل وراثة العرش، من أخيه الأمير حسن بن طلال إلى ابنه عبدالله، موصيا الأخير بأن ينصّب أخاه الأمير حمزة وليا للعهد، لكن الملك عبدالله قرّر حصر ولاية العرش بابنه حسين، مخالفا وصية والده، وهو أمر لم يتقبله حمزة ووالدته الملكة نور.
في صراع العروش، تاريخيا، يندر أن يقبل صاحب المُلك بتوريث شقيقه، بل يحصر الوراثة بسلالته، لكن الأمير حمزة لم يرفض الخضوع فحسب، بل استطاع بناء شعبية خاصة عند العشائر، لأسبابٍ عديدة، منها النقد الواسع لسياسات الدولة، وتشبيه كثيرين له بأبيه الملك حسين، شكلا وصوتا، وأسباب أخرى لها علاقة بامتعاض بعض الناس من زوجة الملك عبدالله، عن حقٍّ وعن غير حقّ؛ فمنهم من يرفضها لأصولها الفلسطينية، ومنهم من يرفض البذخ الواضح في مصاريف القصر، وإن كان ذلك لا يقصر حصرا على والدة ولي العهد الحالي، لكنها الأكثر ظهورا، أي اختلطت دوافع رفض الأمير حسين وريثا للعرش، إذ إنها في معظمها تجلياتٌ لحالة فقدان الثقة بالدولة وسياساتها.
واضحٌ أن الملك أراد أن يضع حدا نهائيا لما سمّاها "أوهام" أخيه بولاية العرش، بعد أن استنتج أن الأمير حمزة لم يرتدع، بالرغم من اعتذاره العلني، بعد جلسة "مصالحة" جرت برعاية عمّه الأمير حسن، بل أعلن تمرّده مجددا في تغريدة اتهم الملك فيها بعدم الالتزام بنهج الملك الراحل، وبالتالي تخلّى عن لقب أمير، وفاء "للثوابت التي زرعها والدي فيّ"، على حد قوله، واستمرّ في التحدي خلال مشاركته في صلاة عيد الفطر من خلال تمرير رسائله السياسية المخفية بخطبة دينية، فكانت القشّة التي قصمت ظهر البعير.
يجد المتابع وسائل التواصل الاجتماعي أن عدة وسوم (هاشتاغات) أغلبها متعاطفة مع الأمير، طغت على "تويتر" بشكل خاص، لكنها لا تعكس بالضرورة رأي أغلبية الأردنيين، وإنْ كانت رسالة يجب أن يلتقطها القصر، لا تخصّ الأمير حمزة، وإنما حالة الاحتقان نتيجة عدم تجاوب الدولة، أو على الأقل البدء باتخاذ إجراءات لمواجهة تدهور الأحوال المعيشية، واستمرار الاعتقالات والتنصّت على النشطاء، وكبح الحريات، والإبقاء على اتفاقيات تطبيعية مع إسرائيل، تربط موارد الأردن من ماء وطاقة شمسية وحاجتها إلى الغاز الطبيعي بالاقتصاد الإسرائيلي، وبالتالي بالقرار الإسرائيلي، وخصوصا بعد إعلان رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينت ما يفيد سحب اعتراف إسرائيل بالوصاية الهاشمية على المقدّسات الدينية في القدس، في استهتار فاقع لأي دور أو موقف أردني من إجراءات وجرائم إسرائيل في القدس وفي فلسطين.
مواقف الحكومة اليمينية الإسرائيلية كانت واضحة منذ البداية، وقبل تصريحات بينت، كما شرحت في مقال سابق في "العربي الجديد" (الأردن بين الأقصى والرضى الأميركي، 1/5/2022)، فإدارة الرئيس بايدن الأميركية لم تعد معنية كثيرا بإرضاء الحليف الأردني، وكانت تعرف أن الحكومة الإسرائيلية ليست مستعدّة حتى لمجاملة الدولة الأردنية ولو كذبا، بأن لها دورا في القدس، وتعدّها مرحلة انتهت، لكن الخشية من قطع جزءٍ من المعونات الأميركية، التي تستخدمها واشنطن أداة ابتزاز أضعفت موقف القصر، وزادت من تهميش الدور الأردني في المعادلة.
القصد هنا أن الخطر الحقيقي، وإنْ كان الملك يعتبر تهديد أخيه خطرا حقيقيا، يأتي كما كان وكما زال من إسرائيل، ومن لامبالاة إدارة الرئيس بايدن تجاه إضعاف الموقف الأردني أو مجاملته، ما دام الأردن لم يقطع علاقته مع إسرائيل. ولا ينعكس غضب الملك من الجرائم الإسرائيلية على اتفاقية التطبيع، ولم يؤد حتى إلى الطلب من السفير الإسرائيلي مغادرة عمّان أو إلى استدعاء السفير الأردني من تل أبيب، إذ قد تطغى الاصطفافات على المشهد فترة، وإن كانت بعض آثارها ستبقى، لكن استفاقة الأردنيين بقوة على الخطر الإسرائيلي، في الفترتين، الماضية والحالية، قد تمنع إحداث شروخٍ عميقة، لكنها ستشكل تحدّيا شعبيا لاستمرار التطبيع مع إسرائيل.
أطلقت ردود فعل الأردنيين على اغتيال الصحافية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة موجة غضب متراكمة لما يراه أغلب الأردنيين عداءً عميقا ومستمرا للأردنيين، وليس فقط للفلسطينيين، فمن اعتقد أن اتفاقية وادي عربة ستُحدِث فرقا، ولو طفيفا، في موقف إسرائيل، أصبح يعي الآن أن اتفاقيات "السلام" والتطبيع زادت إسرائيل عنجهيةً وشراسة، خصوصا وأن سلسلة الاتفاقيات الإبراهيمية قد أفقدت الأردن أهميته، من وجهة النظر الإسرائيلية، واستفزّت الأردنيين الذين أصروا، منذ لحظة توقيع معاهدة وادي عربة، عام 1994، أن يبقى "السلام" بينهم وبين الدولة الصهيونية باردا.
لم تكن رسالة الملك إلى الأمير حمزة فحسب، بل إلى كل أفراد العائلة المالكة، أنه لن يقبل من أي أحدٍ منهم أن يتجرّأ على نقد سياساته، محذّرا من تبعات ذلك: "تخيّلوا الفوضى التي ستعمّ، لو اختار كل فرد من عائلتي التعبير عن مواقفه ووجهات نظره في شؤون السياسة والدولة بشكل علني، ووجّه الانتقادات لمؤسساتنا دون احترام لدستورنا وأعرافنا". ولكن إنهاء ملف "قضية الفتنة" لا يغيّر من الأزمة الداخلية، فالوضع الحالي يفتح المجال لإسرائيل وأميركا وأي دولة، وليس عن طريق استغلال غضب أمير، بل استغلال غضبٍ شعبيٍّ واسع، ففي ظل التفكّك وفقدان الثقة تعشّش الانتهازية أيضا، لكن الدولة الأردنية تصبّ جامّ غضبها على من يعارض، فإذا كان القصر يريد استرداد الثقة فليطلق سراح الموقوفين، وليستمع إلى مظلومية الشعب الأردني ومطالبهم، فمن يناضل من أجل لقمة الخبز يطالب بمواطنة حقيقية، ومن يعارض التطبيع مع العدو حريصٌ على الأردن، وإذا كان صاحب القرار يخاف من انتشار الفوضى فليلتفت إلى الشعب ليشعِر المواطن بأمانه، فلا علاقة للمواطن الأردني بمنافسةٍ على عرش أو توريث.
عن الملك وأخيه وواقع الأردن!!
بقلم : لميس أندوني ... 23.05.2022