أحدث الأخبار
الجمعة 29 آذار/مارس 2024
روسيا وأوكرانيا: الحرب بوسائل أخرى… ثِقل الكلمات والصور في اليوم التاسع من عصر الظلام!!
بقلم : ندى حطيط ... 04.03.2022

منذ حرب الخليج الأولى (1991) التي شنّتها الولايات المتحدة و35 دولة متحالفة معها على العراق، بعد اجتياح قواته الكويت وضمّها، لم تعد الحروب رسميّاً كما كانت، حتى أن جان بودريار، المفكّر وعالم الاجتماع الفرنسيّ الشهير، كتب حينها مقالته الشهيرة «حرب الخليج لم تقع» والتي نُشرت بعدها في كتاب يحمل ذات الاسم.
بالطبع لم يكن بودريار وقتها ينفي حدوث الحرب وسقوط مئات آلاف الضحايا، لكنّه كان يشير إلى تبلور ذلك التحوّل النوعي التاريخي في مفهوم الحرب ذاتها من التصوّر الكلاسيكي عن صراع بين قوى عسكريّة بأدوات العنف المباشر إلى شيء آخر أكثر تعقيداً بما لا يقاس، حيث الصراع العسكريّ مجرّد تفصيل في إطار حرب هجينة معقّدة تُخاض بعدّة وسائل أخرى مع ثقل مضاعف للكلمات والصور والتلفزيون – وقتها تكرّست فكرة القناة الإخباريّة المتخصصة التي تبثّ على مدار اليوم مع التقارير اللحظية التي كان يرسلها مراسلو «سي إن إن» من بغداد ومواقع أخرى.
نستذكر اليوم بعد ثلاثين عاماً تماماً قدرة بودريار المذهلة على التقاط لحظة التحوّل الفاصل تلك بينما يغرق العالم في بحر حرب هجينة معقّدة جديدة ظاهرها الاجتياح العسكريّ الروسيّ لأوكرانيا المجاورة، لكنّها تخاض على امتداد العالم بوسائل أخرى، ماليّة واقتصادية وإعلاميّة وثقافيّة (ورياضيّة) على أرض الواقع كما في الفضاء السيبيريّ، ودائماً مع ثقل مضاعف للكلمات والصور والتلفزيون، أخذاً بالاعتبار التقدّم التكنولوجيّ الهائل منذ 1991 والتكثّف غير المسبوق لسيطرة الصورة على عمليات صياغة وعيّ الأفراد، كما ذلك الانتشار المتشظي لاستعمال تطبيقات وسائل التواصل الاجتماعي الذي أنهى الحدود والجغرافيا وزمن نقل الحدث معاً.
من الجهّة الروسيّة: عمليّة محدودة لـ«حفظ السلام»
أمام الكاميرات، جمع فلاديمير بوتين مجلس الأمن القومي الروسيّ في غرفة القبّة بالكرملين حيث قشرة مذهّبة من المجد الإمبراطوريّ الروسيّ لـ»مناقشة» ما يجب القيام به حيال أوكرانيا.
لم تكن هناك تلك الطاولة المديدة التي اعتدنا عليها في اجتماعات الزعيم الروسيّ مع زواره من قادة دول العالم، وإنما عدة صفوف من الكراسي جلس عليها المسؤولون تفصلهم عن بوتين مسافة كبيرة عبر مجازٍ من الأرضياّت الرخاميّة المصقولة. قال الرئيس لرجاله «إن هذا الاجتماع يحدث دون تحضير مسبّق لأني أردت الاستماع لآرائكم العفويّة».
تمّ عرض المشهد على التلفزيون الحكوميّ بوصفه بثّاً حيّاً على الهواء مباشرة، لكّن أحد الخبثاء التقط صورة لوزير الدّفاع تظهر فيها ساعته وهي تشير إلى فرق خمس ساعات سبقت موعد العرض.
ما شاهده المواطنون الروس كان أشبه بدراما ممسرحّة شكسبيرية المزاج، يبدو أنّ السيناريو الذي حُضّر لها تضمّن ذات الأفكار المتداولة في وسائل الإعلام الرسميّة حول ضرورة الاعتراف باستقلال دونيتسك ولوغانسك – وهما مقاطعتان في إقليم دونباس شرقي أوكرانيا تقطنه أقليّة من أصل روسيّ ويسيطر على أجزاء منه انفصاليون تدعمهم موسكو.
آراء المتحدثين بالتتابع لم تخرج عن (النّص) وحتى عندما بدا مدير المخابرات الروسيّة مشوشاً في التعبير عن رأيه، حذّره بوتين بجبروت قيصر بأن يكون واضحاً في صياغة موقفه.
عند نهاية الاجتماع، وعد بوتين باتخاذ قرار بشأن الاعتراف بالجمهوريتين في وقت لاحق من ذات اليوم، قبل توقف البث (المباشر). لكن الانتظار لم يدم طويلاً، إذ سرعان ما ظهر الرئيس مرة أخرى على شاشة التلفزيون الرسمي، متحدثاً بعبارات تاريخية للغاية عن أن أوكرانيا كانت محض هرطقة من قبل لينين – أوّل رئيس للاتحاد السوفياتي – الذي أخرجها إلى حيز الوجود وبالتالي ليست بدولة حقيقية، وإنما «جزء لا يتجزأ» من «تاريخ روسيا وثقافتها وفضائها الروحي» قبل أن يؤكد أنه سيمضي قدماً ويعترف بالجمهوريتين دونيتسك ولوهانسك كدولتين مستقلّتين في المستقبل القريب!
وبينما كانت وسائل الإعلام عبر العالم تتناقل تلك التصريحات بصفة عاجلة، تحول التلفزيون الروسيّ إلى بثّ مباشر ظهر فيه بوتين وهو يوقّع مرسوم الاعتراف العتيد، قبل أن يصرّح بأنه سيرسل جنوده الى تلك المناطق في «مهمّة لحفظ السّلام».
لا يبدو أن أحداً في الغرب – ولا حتى روسيا – ابتاع حكاية «حفظ السلام» تلك، إذ أسرعت التلفزيونات الأمريكيّة إلى وصف ما جرى تالياً بأنّه غزو روسيّ شامل لأوكرانيا، فيما اشتبك مراسلون مع مسؤولين في إدارة بايدن الذين تبنوا في البداية وصف «الغزو» مشيرين إلى رأي يقول إن القوات الروسيّة كانت بالفعل في دونيتسك ولوغانسك منذ الثورة – الانقلاب وفق المصادر الروسيّة – الأوكرانيّة 2014، مع نفيّ موسكو الدائم لذلك، وأن ما يجري ينبغي وصفه بالـ (تصعيد) فيما اختارت الصحافة (نيويورك تايمز مثلاً) حلاً وسطاً بانتظار اتضاح النيات الروسيّة، وفيما إذا كانت (العمليّة العسكريّة المحدودة – كما بدأت تصفها وسائل الإعلام الروسيّ) ستتوقف عند حدود إقليم دونباس المتنازع عليه بين روسيا و أوكرانيا – حيث تقع دونيتسك ولوغانسك – أم أنّها ستتمدد إلى مناطق أخرى كي تستحق وصف «الغزو الشامل» وهو ما حدث لاحقاً.
من الواضح أن الحقيقة في ورطة تامّة، فلا الصورة تنسال عفوية طازجة، وتُطلق توصيفات الأحداث على عواهنها ارتباطاً بمواقف شخصية بحتة، لا واقع ما يجري بالفعل على الأرض، حتى أننا – كما قال غاري كاسباروف بطل الشطرنج الروسيّ الشهير أصبحنا بحاجة إلى قاموس مدرسي للأطفال لنفهم قصد وسائل الإعلام.
فهل «الرئيس بوتين يرسل قوات حفظ سلام إلى المناطق الانفصالية في أوكرانيا» أم أن «الديكتاتور الروسي يعلن رسمياً ضم أراض أوكرانية إضافية بعد 8 سنوات من احتلال عسكري»؟
لا شكّ أن حرب الكلمات والصور والتلفزيون لم تنته عندما بدأت المعارك «الحقيقية» بل هي تتضاعف وتتضخم كما كون افتراضيّ مواز يتوسّع لحظياً، فيما بعيداً عن عيون الكاميرات يدفع كثيرون مدنيّون وعسكريّون على حد سواء ثمن صراع الإمبراطوريات من دمائهم وحياتهم وذكرياتهم وأحلامهم ومستقبلهم.
على الجهة الأخرى: عودة عصور الظلام؟
لكن الأكثر إثارة للدهشة في كل ذلك كان أداء الغرب – النصير عالي القرقعة لحريّة التعبير وحقوق الإنسان – في ما يتعلّق بحظر وسائل الإعلام الروسيّة (محطات تلفزيون ووكالات أنباء …) في جميع أنحاء الاتحاد الأوروبيّ والولايات المتحدة وأستراليا، فضلاً عن أوكرانيا، سواء على قنوات البث التلفزيونيّ أو ضمن التطبيقات والمنصات الإليكترونيّة كـ»يوتيوب» وغيره.
ولم يعد ممكناً للمقيمين في دول الغرب الوصول إلى محتوى روسيّ عبر الانترنت.
وأعلنت تشيكيا ولاتفيا وسلوفاكيا عن أن التحدّث علناً عن تأييد الغزو الروسيّ كاف ليتسبب لصاحبه بالسجن لسنوات.
ويشن تطبيق تويتر الأمريكيّ الواسع التأثير عبر العالم حملة نشطة للتقليل من عدد الأشخاص الذين يمكنهم الاطّلاع على محتوى متعاطف مع روسيا، والعزم على «اتخاذ خطوات للحدّ بشكل كبير من تداول محتوى وسائل الإعلام الروسيّة على الموقع». وقد تمّ وضع ملصقات تحذيرية على جميع تغريدات تلك الوسائل، أو حتى الأفراد الذين يدعمون السرديّة الروسيّة، وتظهر رسالة منبثقة تخبرك بأنك ترتكب عملاً خاطئاً إذا حاولت مشاركة أو حتى إبداء الإعجاب بمثل ذلك المحتوى.
وهذا بالطبع أمر مخيف: سواء في كيفيّة تطور الأحداث بسرعة إلى الأسوأ، أو كيف يكون الناس على ما يرام مع فرض الرّقابة في مجتمعات تدّعي التحضّر والديمقراطيّة، وكم (أسوأ بكثير) ينتظرنا جميعاً عند سلوك هذه الطريق المظلمة. إذ يبدو أن العالم الغربي يريد أن يحتكر ما يشكل (الحقيقة السياسية) ويعتقد بأن نظرته الأيديولوجية للعالم هي الوحيدة الصحيحة والموثوقة، فيبشر أنبياؤه بحرية التعبير والصحافة للفقراء والمهمشين، لكنهم يعفون أنفسهم منها».
بين الجانبين المتلاعبين بالكلمات والصور والتلفزيون، تسفك اليوم دماء كثيرة، وتموت الحقيقة في كل لحظة حتى لم يتبق منها سوى (وزارة الحقيقة) كما في رواية جورج أورويل الديستوبيّة الشهيرة: (1984) أي تلك المؤسسة الهائلة التي تتولى مهمّة حمايتنا من «التضليل».
مرحباً بكم رسمياً إلى اليوم التاسع من عصر الظلام.

1