أحدث الأخبار
الخميس 05 كانون أول/ديسمبر 2024
لبنان : السُّـنة ومشقّة الزعامة: مغامرة استشراف ملء الفراغ للحريري وتياره!!
بقلم : زياد الأسمر ... 30.01.2022

لا تكفي الحجج التي تُخفِّف من آثار «تعليق» رئيس الحكومة السابق سعد الحريري العمل السياسي لإقناع مَن لا يريد أن يقتنع، بأن هكذا قرار هو «زلزال سياسي» ضرب لبنان عموماً والطائفة السُّنية فيه خصوصاً. فهؤلاء «ورثة» يستعدون لحصر «الميراث» الحريري ونيل ما يعتقدونه من أنه حق لهم على الطائفة التي ستعيش في المقبل من الأيام فراغاً سياسياً يُثير قلقاً وخوفاً من نتائجه.
الحافز على الخوف والقلق ليس من هذه الطائفة أو على اعتبار أنها تميل ميلاً بنيوياً نحو التطرّف الإسلامي، وأنه مع كراهية الطبيعة للفراغ، سيكون هناك تقدمٌ تلقائي للعصبية المذهبية، بل عليها جرّاء غلبة سياسية يقودها «حزب الله» وحلفاؤه منذ مقتلة الرئيس رفيق الحريري في شباط/فبراير من العام 2005.
صحيح أن هذه الطائفة لم تَقُدْها مركزية سياسية، وأنها شهدت حيوية في توليد الزعامات السياسية التي توزّعت ولاءاتها بين سوريا ومصر والسعودية على مرّ التاريخ، فكان هناك زعماء من مثل رياض الصلح، وصائب سلام، وعبد الله اليافي، ومعروف سعد، ورشيد كرامي. وصحيح أن الولاءات السُّنية في لبنان مناطقية أكثر من كونها مركزية؛ لكن الأصح أن هذا الأمر تَبدَّل رأساً على عقب مع بروز ما اصطلح على تسميته بـ«الحريرية السياسية» بعد انتهاء الحرب وإقرار «اتفاق الطائف» والتي شكّلت مشروع سلطة وصارت ولَّادة تسويات تُقايض الاقتصاد بالسياسة والتنمية بالأمن، فكان أن تَقدَّمَ مشروع «حزب الله» ببطء إنما بشكل وئيد وحثيث.
ما اعتبرته الطائفة السُّـنية انتصاراً وتتويجاً لها كان في واقع الأمر مكمن عطبها. مُشكلتها الأعقد كانت في اعتقادها أن «اتفاق الطائف» هو ضمانتها، متناسية أنه أُقرَّ بأرجحية الدماء المسيحية والدرزية والشيعية المُسالة خلال الحرب الأهلية، حتى ولو وُلد في مدينة سعودية وسُمي تيمّناً بها. على كلٍ، هكذا تصرَّفت «المارونية السياسية» في زمن الجمهورية الأولى يوم رفضتِ الاستماع إلى «قلق» الطوائف وأشاحت بوجهها عن تناقضات الوضع الداخلي وانعقادها على تناقضات الوضع الخارجي، فكان أن انفجر لبنان على مدى عقدٍ ونصف العقد، وتذوَّق كل صنوف الموت والألم.
دعم خارجي
مشكلة الطائفة السُّنية الراهنة أنها لم تَعْتَدْ العيش نداً مع الطوائف الأخرى. ويزداد رُهابها من نواة تحالف من طبيعة أقلوية يجمع أرجحيتين شيعية ومارونية تتجلّى بتحالف «حزب الله» و«التيار الوطني الحر». مكابدتها الأسوأ وهي تلجُّ فراغاً مهولاً استهله «تعليق» الحريري العمل السياسي أنّها تصرَّفت على الدوام في لبنان وكأنها طائفة عدد ومدد، وارتكزت إلى دعم خارجي تجلّى في العصر الحديث مع النحّاس باشا في مصر، وصولاً إلى المملكة العربية السعودية صانعة «مجد الحريرية السياسية وأَلقها» مروراً بالزعيمين المصري جمال عبد الناصر والفلسطيني ياسر عرفات، وقوّة عنيفة جسَّدها الرئيس العراقي الراحل صدَّام حسين.
وكم تتبدّى هذه الوجهة فاقعة الآن إذا ما قُورنت بـ«مظلومية سُنيّة» نهضت على اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري في شباط/فبراير من العام 2005. لكن بناء «المظلومية السُّنية» تأسيساً على دم رفيق الحريري اتّخذ شكل صراع بين مشروع الدولة وحقوق الطائفة. وظهر مأزق حرج وقع فيه سعد الحريري نجل الرئيس الشهيد ليكون خليفة لوالده، حيث بات على الدوام مُطالَباً بأن يكون المنافح عن حقوق السُّنة، في الوقت الذي يفترض نفسه مشروع بناء الدولة والحفاظ على الحد الأدنى من ملامحها.
عليه، اتّخذ السُّنة لأنفسهم أدواراً ملتبسة بتعريفاتها السياسية المجرّدة. فحيناً هم أهل مظلومية وأحياناً يريدون لأنفسهم قيادة مُستلهَمة من التمثيل الشيعي والمسيحي. مقابل ذلك عمل «تيار المستقبل» برئاسة سعد الحريري على الترويج لمقايضة بين سحب عنوان «المظلومية السُّنية» من التداول وعدم الاعتراف بها، وبين الحد الأدنى من استقرار البلد وتكريس موقع تياره كناطق رسمي باسم الطائفة السُّنية معترف به لبنانياً وعربياً ودولياً ولو بشكل غير رسمي، إذ إن التيار لم يكن قادراً على تثبيت صورته كتيار سنّي صرف، كما لم ينجح في أن يكون تياراً وطنياً عابراً للطوائف الأخرى، والتي كان قادراً على هزيمتها من داخلها خصوصاً «الشيعية السياسية». لقد احتاج «تيار المستقبل» إلى كثير من التنظير والتحايل على سُنيّته حتى لا يكون مضطراً للخضوع لتبعات مأزق المظلومية السُّنية، فكثرت تعريفاته وتوصيفاته، وكان أبرزها أنه تيار ليبرالي ينمو في وسط سُنيّ. وقد اتَّضح لاحقاً أن الليبرالية فيه مُجرد ادعاء وكانت الغلبة للهوية المذهبية فيه على حساب مشروع الدولة. وقد غذَّى هذه الوجهة صعود شيعي – ماروني راح يُنكّل باتفاق الطائف وبكل الأدوات الأمنية والسياسية والمذهبية.
الآن تبدَّل المشهد السُّـني، فقد تقدّمت الطائفة على التيار وتصدّرت الواجهة. صارت أمام مروحة من الأسئلة المحقة عن الدور والوظيفة بعدما استسهل رمزها السياسي سعد الحريري أن يطوي حقبة ممارسته السياسية لـ16 عاماً بخطاب لم يتجاوز الـ9 دقائق، وزاد فيه الوضع إرباكاً مرتين: الأولى عندما ذرف الدمع من دون أن يُعرف ما إذا البكاء كان على حاله أو على الطائفة التي قال إنه أباها أو حتى على عموم اللبنانيين. والثانية عندما جاء الخطاب خلواً من أي معاينة سياسية تسلك جادة الصواب السياسي التي على اللبنانيين سلوكها مكتفياً بـ«تعليق» السياسة وحظرها على نفسه وعائلته وتياره.
الميراث الحريري وأهمّه «الطائفة السُّنية» وما هي بصدد مواجهته، راح يذوي ويتراجع حجمه مع ارتفاع أهوال السياسة اللبنانية والشروع في الدخول بمرحلة الانتخابات النيابية المُزمعة والتي هي بدورها محل سؤال أساسي عن جدّية إجرائها من عدمها؟ واستشراف ملء الفراغ السُّني فيه شيء من المغامرة، ذلك إذا كان الحريري وما يمثله هما الكتلة الراجحة في الطائفة السُّنية، لكنهما يبقيان جزءًا مِن كل أكبر.
الميدان الأشهر للمكابدات السياسية
السؤال عن مستقبل الطائفة السُّنية فيه شيء أيضاً من ضروب التنجيم في لحظة يُعاد فيها ترسيم وتعيين أحجام القوى الإقليمية والتي يُشكّل لبنان أحد أهم انعكاساتها، كونه الميدان الأشهر للمكابدات السياسية وآخرها عودة القرار الأممي 1559 إلى تصدّر واجهة الأحداث. وهو القرار نفسه الذي تسبّب بمقتلة الرئيس رفيق الحريري صانع «الحريرية» وصعود الطائفة السُّنية. وأغلب الظن أن هذا القرار، بمفاعيله السلبية سياسياً وعسكرياً على سوريا في ظل حكم بشار الأسد، وعلى إيران وذراعها الأقوى «حزب الله» هو سبب إعلان الحريري «تعليق» العمل السياسي. فالقرار الذي صدر تحت عنوان «قانون محاسبة سوريا واستعادة سيادة لبنان» أفضى إلى سيلٍ من الأحداث الأمنية والسياسية التي وضعتْ لبنان ومعه الإقليم على خط الزلازل والتوترات.
الأرجح أن لقرار سعد الحريري الكثير من الحيثيات السياسية الخاصة والمحلية والإقليمية. لكن السجال فيه ومعه يبقى في ما أعلنه الرجل وليس في ما تجنّب البوح فيه. والمصطلح الذي استخدمه حمَّال أوجه تتراوح بين الاعتكاف وصولاً إلى الاعتزال رهناً بالتطورات مع إيران التي سمَّاها في خطابه على أنها من أسباب «تعليق» العمل الذي يعني بالمباشر العزوف عن الترشّح للانتخابات وانكفاء التيار عن الحياة السياسية وحظر الاستثمار في قاعدته السياسية من قبل الآخرين كـ»القوات اللبنانية» على وجه الخصوص، التي بالغ رئيسها لحظة اعتباره ان «الجمهور السُّني» من حصته السياسية، لا لشيء إلا لأن بعضه رفع صوره في حي من أحياء البؤس في طرابلس إثر منازلة عسكرية بين «القوات اللبنانية» و«حزب الله» خسر فيها الأخير نحو سبعة من مناصريه عند تخوم منطقة الضاحية الجنوبية، وأثناء مسيرة احتجاجية ضد قاضي التحقيق في تفجير مرفأ بيروت هدفها المطالبة باستبداله لـ«الشكّ» في دقة تحقيقاته وإجراءاته.
خروج الحريري يطرح أسئلة مُعقدة عن مصير الجميع اللبناني وليس عن الطائفة السُّنية حصراً، خصوصاً إذا كان القرار الدولي 1559 هو العنوان، مع ما تعنيه بنوده خاصة لجهة «نزع سلاح حزب الله» الذي صار منذ زمن حزباً إقليمياً. وهذا القرار لا يعني إلا وضع لبنان على ناصية الاحتراب الأهلي، وعلى مَن لا يُريد أن يُصدِّقَ، العودة إلى وليد جنبلاط لسؤاله والتيقّن منه، وهو المعروف بدقة معلوماته واستشعاراته السياسية، بمقابل الابتعاد عن سمير جعجع الذي يحتاج إلى مقاربة مختلفة.
مشكلة الفراغ في الطائفة السُّنية ستبقى معلّقة على نتائج الانتخابات النيابية المُزمعة في أيار/مايو المقبل، علماً أنها باتت مؤجّلة بحكم الوقائع اللبنانية التي تحتشد في غير صالح إجرائها لأسباب تتصل بهواجس الجميع ومن الجميع، بدءًا بطبيعة القانون الانتخابي نفسه وصولاً إلى تعيين الأحجام والأوزان السياسية ومروراً بأدوار الخارج في الداخل اللبناني، والميل الفطري الدائم للقوى الداخلية للاستقواء بـ«خارجٍ ما» لبناء مشروع غلبة.
والبحث في الفراغ السُّني يُوجب العودة فعلياً إلى تاريخ اغتيال الحريري الأب. ذلك أن جذر الفراغ الراهن يبدأ من هناك حيث لم يستطع الابن سوى تعبئة الحضور العاطفي. وفي كل الأحوال فإن المقارنة بين الأب والابن فيها الكثير من الظلم للرجلين نظراً لاختلاف الظروف الداخلية والخارجية. ومع هذا حافظت الطائفة السُّنية على حد أدنى مما تعتبره هي «توازناً» على الرغم من استطرادات تطرفية مثل تلك التي بدأت في منطقة الضنية مطلع العام 2000، واشتدَّت قوتها وحضورها مع صعود تنظيميّ النصرة وداعش، وتجلّى ذلك في ظواهر مناطقية محدودة التأثير لكنها هدَّدت أمن لبنان داخلياً، ورشّحته لموجات عنف كانت محدودة الزمان والمكان.
وأكثر ما يجب التنبّه إليه في معرض البحث عن مصير الطائفة السُّـنية، على المديين القصير والبعيد، هو «الجملة المفتاحية» التي وردت في خطاب الحريري، وقوله: «لا مجال لأي فرصة إيجابية للبنان في ظل النفوذ الإيراني والتخبّط الدولي والانقسام الوطني واستعار الطائفية واهتراء الدولة». واعتزال الحريري، لو حصل في أي دولة غير لبنان، لكان الأمر طبيعياً جداً، لكن في بلاد «جمهورية الأرز» فإن مؤسسات الدولة شيء وهياكل السلطة شيء آخر. فالدولة في لبنان مرآة لهياكل السلطة وتعبيراتها الطائفية. بهذا المعنى، فإن قرار سعد الحريري سيؤثر حكماً بالواقع السُّني العام، فمَن سيُمثل الطائفة السُّنية؟ الجواب ليس واضحاً بعد خصوصاً أن «تعليق» الحريري عمله السياسي شديد الغموض والالتباس وما إذا كان مرتبطاً بعودة الدعم السعودي، أو أن هذا الدعم قد يختار مَن يحمل القرار الأممي 1559 من قادة سُنّة قد تصنعهم السعودية ذاتها أو تفرزهم حيوية سياسية سنيّة لبنانية، ويرتضون الدفاع عن «اتفاق الطائف» وقرارات الشرعية الدولية المتعلقة بسيادة واستقلال لبنان بوجه هيمنة «حزب الله» والنفوذ الإيراني على لبنان؟
خروج الحريري الطوعي يفتح المساحة السُّنية على استثمارات سياسية عدة، مِن داخل الطائفة أولاً كـ»جمعية المشاريع الإسلامية» و«الجماعة الإسلامية» وصولاً إلى الزعامات المناطقية كما هي حال رئيس الحكومة الحالي نجيب ميقاتي، ناهيك عن نفوذ «حزب الله» داخل هذه الطائفة وامتداداته المتشعبة. لكن يُسجَّل لهذا الخروج أنه، على الأقل، مرة ثانية يمتنع سعد الحريري ويمنع وقوع حرب أهلية ويُطالب بتصحيح التوازنات الوطنية سلماً وفي كنف الدولة وتحت سقفها.
خطوته هذه سيكون لها بالغ الأثر، لكون الطائفة السُّنية بتوزعها الجغرافي والديموغرافي تُؤثر على وفي أكثر من 80 مقعداً نيابياً. أما سياسياً، فصافرة الحريري تُنذر بأن لبنان مرشح لاحتمالات تطال بُنية البلد كلها على وقع مناكفات إقليمية ودولية، ويريد احتواء السُّـنة والابتعاد بهم عن النار التي تتمدد في الإقليم، أو ربما يُحاول معاودة سيرة والده ثانية. فالأخير جاء على حصان تسوية مؤتمر مدريد وتحرير الكويت ومتأبطاً صناعة «اتفاق الطائف».

*المصدر : القدس العربي
1